حزب ولد أحمد عيشه: ردة فعل أم فكرة أصيلة
السبت, 09 مايو 2015 08:38

 

بقلم: محمد فاضل سيدي هيبه

altطلع علينا الشاب داود ولد أحمد عيشه بقرار تأسيس حزب سياسي جديد. أثار هذا الإعلان على غير العادة (لأن تأسيس الأحزاب أصبح رياضة وطنية، وصار عددها يزيد على السبعين) أثار اهتمام الرأي العام بسبب الجدل حول الوحدة الوطنية الذي سبقه والمناظرات التي بثتها بعض القنوات التلفزيونية خلال الأسابيع الماضية وما تميزت به من مشادات كلامية بين بعض المتدخلين وولد أحمد عيشه. يعتبر الأخير أن مكون "البظان" يواجه استهدافا ممنهجا من طرف جهات معادية، وأن الوقت حان لوضع حد له.

المهرجان الذي أقيم السبت المنصرم بحضور مئات المنتسبين كان الانطلاقة الفعلية لهذا الحزب رغم أن الترخيص له لما يصدر بعد من وزارة الداخلية. أوضح زعيم "نداء الوطن" (الاسم الذي وقع عليه الاختيار) في هذا المهرجان الخطوط العريضة لبرنامجه السياسي ومنطلقاته الفكرية التي حصرها في الدفاع عن الهوية الموريتانية والنضال من أجل تحقيق المطالب الاجتماعية كالتعليم والصحة.

ليس من المؤكد أن تقبل الداخلية طلب إذن ممارسة النشاط السياسي للتنظيم الجديد نظرا للتصنيف المنهجي والسلبي التخويفي الذي دأبت عليه سلطات الأنظمة الموريتانية المتعاقبة منذ ما يسمى تجوُّزا الاستقلال لكل تصرف أو حراك يصدر عن أية جهة تنسب إلى الأغلبية العربية من هذا الشعب.. كل ما يأتي من هذه الجهة هو موسوم مُسبقا ومبدئيا بـ"العنصرية" وبـ"الخطورة" (تدبير الاتقلابات مثلا!) مهما كان ذلك الأمر بريئا وعاديا، ولا سيما أن الحزب المنتظر أعلن (صراحة!) نيته الدفاع عن هوية مكوِّن "البظان" وأي عنصرية وخطر أكبر من هذا؟!

لا تواجِه الأقلية الزنجية - لحسن الحظ- مثل هذا التحفظ والتوجُّس المبدئي؛ مما يفسر ازدهار أحزابها الخمسة، وكلها مُرخصة، والاثنان الباقيان منها ("افلام" و"لا تلمس جنسيتي") شبه مرخص لهما أيضا؛ يمارسان نشاطهما بحرية وقادتهما يُستقبلون من أعلى سلطة في الدولة ممثلة برئيس الجمهورية. إنه الكيل بمكيالين أو لا يكون!

مهما يكن فإن ولد أحمد عيشه صرح أن رفض الإذن لن يحول بينه وبين نشر أفكاره بكل الطرق المتاحة.. ومن هنا - تم الترخيص أم لم يتم- سيتبين لنا إن كان الحزب الجديد يأتي بإضافة نوعية تثرى الساحة السياسية الخاملة.. أم أنه حزب مضاف إلى سلة الأحزاب الكثيرة القائمة.

لا شك أن المبادئ المعلنة لهذا التنظيم وخطابه الحماسي تجد صدى معتبرا في الوسط العربي، ومنه "الحراطين" أو العرب السمر كما يحب البعض منهم أن يسمَّوْن.. صدى على قدر شعور هذا الوسط بالإحباط ودوام تحمل الإهانات ومحاولات تقزيمه رغم كونه أكثرية الشعب الساحقة (في حدود 85%) وتحميله جميع أخطاء بني إسرائيل.

لا شك كذلك أن اتساع قاعدته التي ستتكون أساسا من الشباب والنساء - كما شاهدنا في المهرجان- سيمكنه من لعب دور وازن في الساحة السياسية على المدى المتوسط، إذا ما تحلت إدارته الشابة - وغير المجرّبة بطبيعة الحال- بالقدر الكافي من الحكمة والاستفادة من تجارب التنظيمات السياسة الأخرى. لن تكون مهمة سهلة على كل حال بسبب تلوُّث أفكار ومفاهيم النخب المفكرة الذي ظل التيار الشعوبي يحدثه على مدى عقود من الزمن وبشحنة العداء السائدة لكل ما يُشتمُّ فيه توجه ذو طابع عروبي.. حتى ولو تبرأ أصحابه عمليا من تلك الصبغة وأعلنوا "بظانية" مدويةً لمشروعهم لن تشفع لهم على كل حال (لأن "لَمّيها ألَّا من الظويّه"). محاربة حزب ولد أحمد عيشه سترتكز بداهة على تهم العنصرية والشوفينية وإقصاء الفئات الأخرى من الشعب الموريتاني وستكون مناسبة لبعث خطاب أحداث 89 والإرث الإنساني وتكرار اتهام البظان في التصفيات العرقية والتهجير.. إلى آخر المعزوفة.

يدافع ولد أحمد عيشه عن خطابه بقوله إنه بعيد كل البعد من العنصرية، والدليل أن مشروعه متضمن للبظان البيض والبظان السمر، ومفتوح لكل الفئات الأخرى.

لكن الرجل ورفاقه، رغم هذا التحصين لرؤاهم من التهم الجاهزة بإظهار حسن النيات، قد وقعوا فيما يشبه الفخ باعتمادهم مصطلح "البظان" كعنوان لمشروعهم الذي لا شك ليس من ورائه إلا النية في تصحيح خلل ذي خطر بالغ في المسار السياسي للبلد، ولا نملك أن نشكك في التصريحات التي أطلقوها، إلا أننا من الناحية العملية لا نرى جدوى - وبالأحرى مبررا- للمنافحة عن هوية بظانية ضيقة تمثل في النهاية خطأً جسيما وسباحة ضد التيار، أعنى محاولة فصل "البظان" - من حيث لا يدرون بالتأكيد- عن الشعب العربي ككل، وخلق هوية لا مبرر لها ولا حاجة كما قلنا، وأنهم بذلك سيقدمون للشعوبيين وأعداء الحضارة العربية في هذه الربوع المتربصين من كل الاتجاهات: الفرنكوفونية والإفريقوية والقطرية الضيقة والشوفينية الموريتانية (أي التي تقصر الانتماء على موريتانيا) فرصة لم يكونوا يحلمون بها.. وسينتعش خطابهم المعادي للهوية الحقيقية.. الهوية العربية. سيحرِّضون وسيؤجِّجون الحملة المسعورة على اللغة العربية مثلا بالمزيد من المحاولات الخبيثة، كافتعال تعارض ونِدِّية بين الفصحى والدارجة الحسانية.. "اللغة الحسانية" مصطلح أصبح شائعا في خطابهم. ويروِّجون بنفس المنطق لفكرة أن اللغات الموريتانية هي الحسانية والبولارية والولفية والسوننكية. إن المنطق الشوفيني الضيق (الهوية البظانية) لن يصمد أمام حملات تفكيك وشيطنة الأفكار والمبادئ المؤسِّسة للحزب من طرف هؤلاء الخصوم المتمرسين؛ ناهيك عن الآراء الناقدة للمحللين الموضوعيين.

هذه "الهوية" تعتريها عيوب ثلاثة:

أولا عبارة "بظان" التي تشير إلى اللون الأبيض، والتي توحي بالعنصرية أو العرقية؛ وهو بالمناسبة - كما يقول بعض الباحثين- مصطلح وضعه الفرنسيون أثناء وجودهم القديم في منطقة غرب إفريقيا ليميّزوا به بين الأقوام الذين يتعاملون معهم.

ثانيا الالتباس والغموض اللذان تحدثهما هذه العبارة عند السامع الذي يرتبك فيمن هو المعنيِّ بهذه الكلمة؛ هل هو الأبيض وحده أم عموم الشخص البظاني بغض النظر عن لونه، لأن البظان - كما قال ولد أحمد عيشه- هم ثقافة ونمط حياة، وليسوا عرقا واحدا؛ بل أعراق متعددة.. لكن هذا كله يتعذر شرحه في كل مرة تثار فيها المسألة.

أما العيب الثالث فهو الذي وصفناه بالخطِر والخطأ الجسيم؛ أي الابتعاد عن الحاضنة العربية والمزيد من العزلة عن العالم العربي الذي لا وجود ثابت لنا في التحليل النهائي من دونه، شأنا ذلك أم أبيناه.

على كل حال فإن تغير الأسماء والمصطلحات إلى أسماء أو مصطلحات أخرى مختلفة لن يكون ابتكارا في حالة تبديل عبارة "بظاني" أو "حرطاني" بعبارة "عربي" المختصرة الجامعة. مع أن ما وراء التعبيرات من أصالة يبرر لوحده هذه العملية؛ فقد سبق أقوام آخرون إلى مثل هذا التبديل. فالإخوة الزنوج قد أبدلوا في ماض قريب اسم "التكارير" بـ"بولار" و"سراكولى" بـ"سونينكى".. لكن المثال الأكثر دلالة بخصوص موضوعنا هو ما أقدم عليه أشقاؤنا في مالي - وهم من هم- من بني جلدتنا ومن قبائلنا، لكنهم ألقوا عبارة "بظان" وراء ظهورهم وجعلوا مكانها في التخاطب الرسمي مع الهيئات الخارجية على الأقل وكهوية يستظهرون بها عند الحاجة تسمية "عربي" فأصبح يقال: "عرب مالي.. عرب أزواد" ولا يقال: "بظان مالي.. بظان أزواد". مما ضمن لهم مزيدا من التلاحم والاتحاد. وحدة التعبير تعين على وحدة المصير. هم جد متقدمين علينا في هذا المجال وعلينا الاحتذاء بهم.

إن الوسيلة الأمثل للانفكاك من هذا المأزق اللغوي البالغ التأثير في تكوين أي تنظيم تحت يافطة الهوية البظانية هو الخروج إلى فضاء العروبة الأرحب ووضع الأمور في إطار الدفاع عن عموم الهوية العربية المشتملة بطبيعة الحال على الكينونية البيظانية ببعديها الأبيض والأسود، بشرائحها وفئاتها التقليدية المعروفة.. والتي يعلم الله أنها مهددة أيما تهديد!.. ويكون ذلك الخروج بحزم وشجاعة وتصميم على مواجهة الهجمات المعادية المتوقعة.

خلاصة القول إن تأسيس حزب ذي مرجعية بظانية صرفة - حتى بمفهوم البظان الواسع- من دون الاستناد إلى الظهير العربي أو أي ظهير آخر يمكن الاستقواء به في هذا المحيط المعادي (خلافا للمكونات الأخرى من الشعب الموريتاني ذات الوضع المريح في هذا المجال) سيعرِّض هذا المكون العربي الهش والمتناحر، وإن كان يمثل أكثرية ساكنة البلاد - كما سيعرِّض البلد عموما- لأخطار يصعب تحديدها ومواجهتها.

من المؤكد أن البعض في حملتهم على المولود الجديد سيبسِّطون الطرح إلى مستوى اعتبار ولد أحمد عيشه نظيرا لبرام ولد اعبيدي وحزب "نداء الوطن" نظيرا لـ"إيرا" رغم الفروق الجلية بين التنظيمين؛ فالأول أعلن أن توجهه وطني يشمل جميع فئات الشعب الموريتاني، وأن جانب الهوية من برنامجه هو ردة فعل على ما يواجهه البظان ككل من تهديد واستفزاز. أما على مستوى الخطاب فيحاول تجنب العنف اللفظي اتجاه كل الشرائح والفئات، فيما يعتمد برام خطابا راديكاليا يميل إلى التهجم وشتم فئة واحدة بعينها، فئة البظان على طريقة "افلام" المتحالفة مع منظمته (إيرا) ويجعل هدفا لمشروعه السياسي تدمير نظام "العرب-البربر" تماهيا كذلك مع فكر وخطاب المنظمة البولارية.

مهما يكن من أمر فإننا نطلب من جميع الفاعلين السياسيين، الجدد - ومنهم ولد أحمد عيشه وحزبه "نداء الوطن"- والسابقين الأولين من الطبقة السياسية، نطلب الرفق ببلدهم الهش والضعيف البنى كي لا يزول تحت أقدام المتعاركين، ولتبقى لهم - على الأقل- حلبة يمارسون عليها هوايتهم.

فيديو

فيديو

فيديو

فيديو

فيديو

فيديو

فيديو

الآن في المكتبات

فيديو

المتواجدون الآن

حاليا يتواجد 10 زوار  على الموقع