ب ـ التغني بالوطن وأمجاده واستنهاضُه في ديجور نكبته
لم تدم فرحة النهوض والاستقلال والانعتاق التي غمرت العالم في ضحى القرن العشرين طويلا للأسف. ذلك أن الطبقة السياسية في العالم الثالث عجزت لأسبابها عن صيانة الاستقلال وحماية مكاسب الشعوب من العواصف الاستعمارية الهوجاء المضادة، فجنحت سفن الأوطان في معظم البلدان. وأخذت الثورات والأنظمة الثورية والوطنية تتساقط كأوراق الخريف تحت أحذية العسكر المتآمر مع العدو: الكونغو، الجزائر، غانا، اندونيسيا، بورما، ومالي.. وغيرها.
وحلت النكسة بساحة العرب في حزيران من عام 1967. ولم تكن بلادنا استثناء، فجُرّت للدخول في حرب عبثية في الصحراء، تلاها انقلاب عسكري عشائري أنجب نظاما قمعيا فاسدا أهلك الحرث والنسل وأفسد القيم وبدّل.. وآل أمره إلى رفع العلم الصهيوني المَقيت فوق سارية الوطن!
أقبل الليل فجر يوم حزين** فنسينا المنى وذقنا الهوانا
حين جاس المغول نهبا وسلبا** وانتهاكا وعاث جنكيز خانا
لجنة بعد لجنة بعد أخرى** نخرتنا طبيعة وكيانا
هذه هذه مدائن يحيى** وابن تاشفين يوسف ثم غانا
بعد ما كان من جمال صباها** وسناها وكان منها وكانا
أصبحت بعدهم قبائل شتى** تلعق الذل تنبت الخذلانا
تتفشى روائح الخزي منها** والتلاشي وتدمن الإذعانا.
يومها اضطربت الأذهان واختلت المفاهيم وانحسر الإبداع وجفت اللحون وانقلب الخيال خاسئا وهو حسير. وأصبح الحاكم المستبد هو الوطن؛ وصار التزلف له والتغني به تغنيا بأمجاد الوطن؛ واختلط حابل المتشاعرين بنابل الشعراء. ولم ينج من التردي في مستنقع الرذيلة إلا من رحم ربك ممن رفضوا الركوع وآثروا الوقوف في وجه الردة والطغيان وتشبثوا بأطناب الحرية والكرامة. وقد أبدع الشعراء الوطنيون في رفض ورصد تلك الفترة الحالكة من تاريخنا وفي تحدي وفضح القمع والطغيان لما واجهوهما رأي العين وكانوا شهداءهما. فسطروا ملحمة الصمود الوطني في نصوص شعرية خالدة كـ "السفين" و"الدرب" و"تلمسي".. وغيرها، سنورد نماذج منها في هذا المقام:
يقول الشاعر أحمد ولد عبد القادر مبرزا جوهر الشعب الموريتاني الأصيل:
خلقنا بهذي الأرض قوما أعزة** وأرواحنا بالخير تُبنى وتعمر
إذا غاب عنا الماء والخبز لم تغب** كرامتنا فيما نقول ونبصر
وترضعنا الصحراء روح انعتاقها** نسيما طليقا في العوالم يعبر
فكيف تربينا السلاسل أمة** سوى ما خلقنا كيف نسبى ونقهر؟
إذا ملك الإنسان حق احترامه** فكل اعتبار بعد ذلك يصغر
ويقول أيضا في قصيدة "السفين" راسما التحول:
رحلنا كما كان آباؤنا يرحلون
وها نحن نبحر
كما كان أجدادنا يبحرون
تقول لنا: ضاربة الرمل:
- واعجبا
سفينتكم رفعت كل المراسي
مبحرة
ألا تشعرون؟
إلى أن يقول:
قالت: سأصدع بالحق
"حلفكم" سفين
يغالبه ثبج كالهلام
تراميتم فوق ألواحه
قبائل شتى.. إني
رأيت خياماً من الصوف
تطوى بأطنابها وأوتادها
مكدسة
داخل القمرة
المشحونة من كل لون
ومن كل جنس وقالت
رأيت رؤوسا من المعز
تقضم أخشاب
بعض العوارض
وتلحس صارية
صدئت
ومالت على نفسها
ومال الشراع. وقالت
رأيت عجائز
طالت أظافرهن
يرتلن شعر "البوصيري"
شوقا إلى الحج
ويحملن بعض المصاحف
ملفوفة معها
زجاجات عطر من السند
وأخرى تحتوي سائلا
لصبغ الشفاه. وقالت
رأيت رجالا
يشربون الأتاي
في العنبر الواسع
يتضاحكون ملء حناجرهم
ولا زاد عندهم
غير حقائب من علف الإبل
ويقول الخليل النحوي من قصيدة "الدرب":
فاحتمل إن في الكرامة ثوبا**سابغا.. والإباءُ نعم الحُلِي
وإذا ضاقت البلاد بِحُرٍّ** لم يضق عنه مخفر شرطي
كل زنزانة تثور فتغدو** وطنا كي يزورها وطني
ذنبه أنه شريف النوايا** مخلص للبلاد بر حفي
إن يقلْ رأْيه صريحا نزيها** قيل: هذا مشاغب فوضوي
وَهْو إن كان مؤمنا وحدويا** تبعي وملحد عصبي
وطني أين من بنيك نسيم** وهواء طلق نقي زكي
أين أفياؤك الظليلة منا** أين ماء عذب زلال شهي
في الغيابات لا يشع ضياء** ما لظمآن في الغيابات رِي
وطني ما دها علاك، لماذا** غاض في كفك العطاء السخي
كيف ضاقت بنا الرحاب اللواتي** يسع الكونَ حضنها الأبوي
البنون الأبرار إما سجين** أو طريد مشرد منفي
كل من همه الكرامة والمجـ** ـدُ تعيس بهمه وشقي
في سبيل العلى هموم الأساري** والإهاناتُ والسباب البذي
في سبيل العلى يُضَرَّجُ حي** بدم طاهر ويدفن حي
في سبيل العلى تئن فتاة** ليلها شاحب النجوم شجي
كلما استعطفت صراخا، وأَََنَّتْ** سحرا، واستهل دمع عَصِي
جاوبتها الصخور صما وبكما: ** ليس إلا الصدى وإلا العِصِي
والرجال الملثمون حضور** أَوَما في الملثمين حَيي!
أَوَما في الحمي شريفٌ عفيفٌ** أوَما في العباد عبد تقي
سُبيتْ ها هنا المروءةُ والرحـ** مة والدين، والحياء سَبِي
في سبيل العلى يعذب شيخ** وفتى يافع وطفل صبي
وشتات من كل أرض فهذا** حضري وجاره بدوي
وحدت بيننا صروف الليالي** ولهذا فكلنا وحدوي
ويقول فاضل أمين في طاغية صنعوه فقلب لهم ظهر المجن:
اسمع أخي سأقص عما قد جرى**طرَقَ اللصوصُ بيوتنَا غبّ الكَرى
كان المؤذن يا أخي يدعو الورى**"الله أكبر" فالصباح قد اَسفرا
لكنهم كانوا هناك بجيشهم** وكلابهم تعوي وتنبش في الثرى
جاؤوا كعاصفة الجراد من المدى** تجتاح في الظلمات نبتا ً أخضرا
هتكوا البيوت بخيلهم وبرجلهم** واستجوبوا حتى الشقيق الأصغرا
حتى دمى الأطفال حتى مصحفي** ظن الكلاب به حديثا مُفترى!
إلى أن يقول:
أنا ما أردت سوى الحياة عزيزة** أنا ما وردت سوى العقيدة مصدرا
أنا هكذا فهل الحياة جريمة! ** أم أن حب الأرض أصبح منكرا!
أنا يا أخي سأظل مثلك صامدا** أنا لن ألين لمن طغى وتجبّرا
إن يقهروا جسدي فإن إرادتي** أقوى من الليل المخيم في الثرى!
ليس الطلائع من عهدت نزالهم** في السفح يشوون الجراد الأصفرا
لولا نضال البعث واستبساله** ما كنت أنت ولا علوت المنبرا
فهم الرجال على الضفاف عشية ** مدوا سواعدهم إليك لتعبرا
هم ألبسوك على القماءة جبة** وهم الذين ثنوا عليك المئزرا
إذ أنت أحقر من حذاء ساقط** وأدق من شخص النذالة منظرا
فإذا وفيت فإنها لعجيبة** وإذا غدرت فشيمة أن تغدرا
ومما تجدر ملاحظته في هذه الحقبة، أنه على الرغم من عمق المأساة التي حلت بالوطن وأهله، وفداحة معاناتهم، وصدق وقوة هذه الدرر المتلألئة النازفة التي نعتها؛ فإن الحياة "الأدبية" في الوطن ظلت تسير على وتيرتها المعهودة. وانبرى "آلاف" الشعراء والفنانين يمتاحون من معين الانحطاط والتصحر والجفاف "أدبا" ثرا لا ساحل له. بيد أن "أذكارهم" ـ وإن جندت لها وكرست كل إمكانيات الدولة ـ ذهبت أدراج الرياح وصارت نسيا منسيا! أو أليس الأدب مأساة أو لا يكون؟ "أما الزبد فيذهب جفاء وأما ما ينفع الناس فيمكث في الأرض".
وإذا كان الشعر قد تصدر واجهة الرفض خلال هذه الحقبة لمكانته الاجتماعية، فإنه لم يكن وحده في الميدان؛ بل هبت لنجدته ورفده فنون أخرى كالقصة والفن دخلت ساحة المعركة من أوسع أبوابها. من ذلك قصة مدينة الرياح للأديب موسى ولد أبنو. وكذلك أغاني الفنانة والمؤلفة المعلومة بنت الميداح التي ألهبت حماس الجماهير وأيقظت ضمير الوطن مثل:
دولتنا ما اتلات سمعتها** فالداخل والخارج تطرب
بيها ضاعت مصداقيتها** والا عادت مركز للنهب
و:
قــــتالين المحــــــــبــه** والبسمه والنظر العذبه
شرايـــــــين العواطف** بالمال وبالكذب العاصف
خلوا دنيتنا ترجع** والنجم ال طاف يلمع
ــــــــــــــــــــــــ
* ورقة أعدت للمهرجان السنوي السابع للأدب الموريتاني، المنظم من طرف اتحاد الأدباء والكتاب الموريتانيين في نوفمبر 2011.