الزراعة.. توضيح وتعقيب (2)
الخميس, 10 ديسمبر 2020 07:34

 

محمدو ولد البخاري عابدين*     

altولأننا تحدثنا عن "التخادع" بین وزارة التنمیة الریفیة والمزارعین، واغترار قادة البلد بتقاریر ودعایة أطر القطاع وروبورتاجات التلفزیون الوطني عن "الثورة الزراعیة" وشمامه الخضراء التي ھم من یدفعون لمعدیھا، فإن ما تحقق في مجال زراعة الأرز خلال السنوات العشر الأخیرة ما كان لیتحقق لو كانت القیادة اعتمدت ھذا الأسلوب وصدقت تلك المعطیات، لكن القائد ھنا كان ھو الرئیس السابق محمد ولد عبد العزیز الذي كان ھو الرئیس الوحید الذي وقف بنفسه على كل شبر من أرض الوطن وكل منشأة من منشآته؛ مزارعه، وقنواته، وسدوده، وواحاته، وحظائر حیوانته، ومدارسه، ومعاھده، ومحاظره، ومستشفیاته، ونقاطه الصحیة ومستوصفاته، وموانئه، ومطاراته، وآباره، ومحطات كھربائه، وشبكات مائه، ووحداته الإنتاجیة، وقواعده العسكریة وثكناته.. وقد كانت ولایة اترارزه؛ باعتبارها مركزا لإنتاج الأرز، أكثر ولایة تردد علیھا خلال فترة حكمه. إما للإشراف على إطلاق حملات زراعیة، أو على انطلاق استصلاحات زراعیة، أو شق قنوات. وكان في كل زیارة یلتقي بالمزارعین والفاعلین؛ مستمعا لما یطرحونه دون انخداع برؤاھم، أو انجرار واستجابة لما دأبوا على طرحه مما یدرك ھو أنه لا یخدم القطاع بقدر ما یخدمھم ھم أنفسھم..

وردوده على مداخلاتھم في تلك اللقاءات مسجلة وموجودة، وقد سمعناه یقف لھم أمام قراره بتوقیف خطة تسویق الأرز التي أطلقھا سنة 2013 دعما للمزارعین وتشجیعا لھم، والتي حولھا أطر المقبورة "سونیمكس" - بالتمالؤ مع أطر الوزارة وأصحاب معامل التقشیر- إلى عملیة ھدر كبرى یتم بموجبھا شراء الدولة للطوب والأرز الرديء بسعر الأرز الجید، وأقام المزارعون الدنیا ولم یقعدوھا بسبب إلغاء عملیة التسویق تلك، لكنه ضرب لھم الطاولة في روصو، وقال لھم إن تلك العملیة أصبحت من الماضي ولن تواصل الدولة فیھا مھما كلف الثمن؛ داعیا إیاھم لإنتاج الأرز الجید، وعندھا لا حاجة لعملیة تسویق لأن الإنتاج الجید یسوّق نفسه بنفسه. وسمعناه یقول لھم إن مشكلتھم التي لم یطرحوھا قط ولم تطرحھا الوزارة ھي أنھم لا یمتلكون من معامل الأرز ما یكفي لتقشیر ربع إنتاجھم، وھو ما یخلق مشكلة التسویق، موجھا وداعیا الفاعلین إلى الاستثمار في إقامة معامل التقشیر. ونتج عن ذلك تضاعف عدد ھذه المعامل عشرات المرات؛ مما شكل حلا جذریا لمشكلة التسویق، حیث أصبح أصحاب معامل التقشیر یتسابقون لشراء الأرز الخام؛ بل إن بعضھم أصبح یشتریه من المزارعین وھو لا یزال في الحقول.

وسمعناه یقول لھم إنه إذا كانت ھناك دولة كانت تتغاضى عن أسالیبھم مع القرض الزراعي فإنه ھو لن یقبل ذلك؛ فإما أن یتحملوا مسؤولیاتھم، ویساعدوا الدولة على مساعدتھم، أو أن الاستمرار في تلك الأسالیب سینتھي بـ"كذبه واگفه" علیھم وعلى الدولة؛ مستخدما نفس العبارة.. فأدرك المزارعون وأطر الوزارة أن الرجل یعي ویعني ما یقوله، فتحققت تلك المكاسب بتلك الصرامة وعدم محاباة المزارعین على حساب المصلحة العامة والإنتاج الملموس.

إلا أن ھذه المكاسب تعرضت لضربة قویة عندما خسرنا نصف إنتاجنا خلال الموسم الصیفي (یولیو - أغسطس 2020) بسبب تلف نصف المساحات المزروعة بفعل الأمطار والنقص في آلیات الحصاد. ومن طبیعة الزراعة والمواسم الزراعیة أن أیة مشكلة في أحد المواسم تلقي بظلالھا وتداعیاتھا على الموسم الذي یلیه.. وھكذا لم نخسر نصف إنتاجنا في الموسم الصیفي 2020 فحسب؛ بل إننا الآن في الطریق إلى خسارة، لیس نصف الموسم الخریفي الحالي، وإنما خسارة ثلاثة أرباعه، ولذلك لا تُفاجَؤوا إذا كان إنتاج الأرز ھذه الموسم ھزیلا أو معدوما؛ فالمساحات المزروعة متواضعة أصلا، وقد تضافر العدید من العوامل للتأثیر علیھا سلبیا، فخسارة المزارعین لإنتاجھم العام الماضي وانشغالھم بطلب التعویض من الدولة أخر انطلاقة الموسم الزراعي الحالي؛ وبالتالي تناقصت المساحات المزروعة، وكذلك الفیضانات التي اجتاحت بعض المساحات حالت دون إعدادھا وزراعتھا، كما أن أغلب المساحات المزروعة الیوم لم تكن مزروعة بالطرق العادیة التي تمر بإعداد التربة وحراثتھا وبذرھا؛ بل كانت ما یسمیه المزارعونrepousse حیث تطلق المیاه في المساحات المحصودة حدیثا لتنبت البذور المتناثرة من عملیة الحصاد السابقة، وتستأنف نباتات الأرز التي لا تزال حیة نموھا من جدید؛ أي ما یعرف محلیا بـ"تَنَكْرَه" وھي عملیة تسمى "البذر الكاذب" ولا یعول علیھا في الإنتاج؛ لا من الناحیة الكمیة ولا من الناحیة النوعیة.

أضف إلى ذلك الآفات التي ھاجمت المساحات ھذا الموسم؛ والتي سمعتھم یسمونھا بالآفات المستجدة، ویستنجدون في شأنھا بخبراء منظمة "الفاو" بینما ھي - في الحقیقة- لیست آفات مستجدة، فلیست سوى القوارض العائمة المعروفة؛ والتي تظھر من موسم لآخر تسبح في أحواض الأرز وتقرض أوراقه، أما الآفة الأخرى التي ظھرت ھذا الموسم أیضا فھي حشرة البقة الخضراء؛ وھي إحدى الحشرات الماصة المعروفة، وقد ظھرت مرات خلال مواسم سابقة، حیث تختبئ نھارا في الفروع السفلى للنبات، وبحلول الظلام تصعد للأعلى وتھاجم النبات ماصة عصارته، مسببة له تأخرا - أو توقفا- في النمو. فقط الطواقم الفنیة للوزارة لم تكتشف ھذه الآفات، أو اكتشفتھا ولم تتصد لھا في الوقت المناسب. وھكذا نجد أن الـ15 ألف ھكتار التي كانت ھي مجمل المساحات التي تزرع سابقا، وضاعفناھا ثلاث - أو أربع- مرات خلال السنوات العشر الأخیرة بكثیر من العمل والموارد والجھود عدنا إلیھا الیوم خلال سنة واحدة، وھي - لعمري - انتكاسة ما كان لھا أن تكون.

وللزارعة عموما مشكلاتھا وصعوباتھا التي لا تفارقھا، ولكنني لا أبرئ ولا أعفي السیاسة وربط الزراعة بالسیاسة ھنا حیال ھذه الانتكاسة، حیث تزامنت زراعة وحصاد الموسمین الأخیرین مع انتقال السلطة في البلاد، وتعلق الأفئدة والقلوب بتشكیل الحكومة، ومن ھو "المحظوظ" الذي سیدخلھا، ومن ھو "سیئ الحظ" الذي سیكون خارجھا، وما تلا ذلك من انخراط وانشغال السلطة وأجھزتھا في محاسبة وشیطنة ومحاكمة وتجریم العشریة الماضیة والتنكر لمكتسباتھا البارزة.. فكان ما كان!وقد سمعنا وزیر التنمیة الریفیة یقول إن عھد ممارسة السیاسة بالزراعة قد ولى؛ وھذا جید، لكن فلتبدأ الدولة في ھذا الجانب بنفسھا، وإلا فستكون ھي "ضاربة دف" ممارسة السیاسة بالزراعة، ولن یلوم أحد المزارعین إذا رقصوا لھا على إیقاعھا؛ خصوصا وأنھم، ما شاء الله، راقصون سیاسیون بارعون..!

______________

* مھندس زراعي

(عن "أقلام حرة")

فيديو

فيديو

فيديو

فيديو

فيديو

فيديو

فيديو

الآن في المكتبات

فيديو

المتواجدون الآن

حاليا يتواجد 8 زوار  على الموقع