| قصة سقوط طائرة الرئيس كما رواها وزير سابق رافقه في الرحلة (ح2/ 2) |
| الجمعة, 15 سبتمبر 2017 07:21 |
|
في خيمة آمنة
السابعة وخمس دقائق لحظات قليلة قبل صلاة المغرب، العقيد محمد ولد احريطاني يأخذ جملا ويصطحب مصباحا يدويا، لأن جحافل الليل بدأت ترخى سدولها، ومن الممتع أن ترى قائد "قارب" طائر، يمتطى سفينة من سفن الصحراء.. آخر رسل الشمس المشعة تودع سهل "ورگ انگط".. ومع هذا الوداع انطلقن.. خيمة آمنة تحتفظ بذكرى هذا اليوم الذي لا ينسى، حيث كانت تحتضن الرئيس الوشيك لموريتانيا السيد محمد ولد عبد العزيز. فبعد ساعة ونصف من السير على الأقدام، الرئيس والتومي، وأنا، صحبة قيس الذي كان يركب على جمل.. وصلنا إلى هذا الحي، وكانت هناك خيمتان إحداهما آهلة والأخرى غير آهلة، وقد اختار الرئيس تلك الخيمة التي بنيت.. إنها تعطي الانطباع بأنها من خيم "الأسكيمو".. اختيار الرئيس وقع على خيمة "آمنة" ولم تخيب هذه المرأة ظن مضيفيها، لقد كانت حاضرة ونشطة؛ فهي تحضر كل واجب الضيافة، تلبس بعض التمائم بألوان مختلفة وترتدى ملحفة "مدگدگه" من القماش الغيني الفاخر (النيله) ما زالت قشيبة وإن لبست لأيام، تترك على عرضها أثرا نديا، تلبس جوارب خضراء، وتضع على عينيها نظارات سوداء، تناسب ملحفتها، ورونقها.. وضعت بعناية الأغطية، عيناها الثاقبان الصغيرتان تنبئان عن نشوة وفرح كبيرين.. كانت تجلس دون نضدها (أشقاب) الذي يحمل الأمتعة، وهناك قِربٌ معلقة مملوءة بالماء البارد.. إنها تحضر الشراب بحيوية، الماء البارد الممذوق باللبن المطعم قليلا إنه "ازريق" أو على الأصح "ادخين".. لا أحد يستطيع أن يشرب لحد الري، رغم الحرارة الشديدة، والعرق المتدفق.. من أجل موازنة الحرارة في الجسم اقترحت تقديم الشاي، ومع كل هبة رياح تقدم آمنة قطعة من الأغطية لدرء الريح من هذا الجانب، أو ذاك، أو من أعلى الخيمة، أو من جوانبها.. حتى أصبحت خيمتها أقرب إلى معرض للأغطية الملونة.. في حدود الساعة الحادية عشرة أقيمت خيمة خاصة، لكن الرئيس عزيز اختار البقاء في خيمة آمنة… عزيز وفي لمبادئه ومنسجم مع مواقفه، فهو بحق رئيس للمهمشين والمحرومين والفقراء.. لقد كان أفراد الحي الذي قدمنا إليه يتخافتون حين رأونا نتجه إلى هذه الخيمة الفقيرة: ولكنهم.. وبسرعة ابتنوا خيمة لاستقبالنا بطريقتهم، حضروا كل شيء من غذاء وشاي وشراب، ومن راحة، ولكن الرئيس منح ثقته لآمنة واختار أن يبقى في خيمتها، وآمنة بدت فخورة بهذا اليوم الذي حظيت فيه بهذا الشرف الكبير، في حي "ورگ انگط".. قوة هذا الرجل تكمن في ثقته المطلقة والتحامه الحميم بفئة الفقراء، والعطف عليهم، هؤلاء الناس (ولو كانوا فقراء) هم روافد للإنسانية والالتزام الأخلاقي، وملامح المضيفة آمنة تنضح بهذه المعاني وكذا المقيمون في حي "ورگ انگط".. طيلة هذا اليوم المميز كانت آمنة تضع بصماتها على تميز ضيافتها، وعلى كرم محتدها، وقدرتها على أن تقدم كل ما يمكن أن يقدم لضيف كبير، لكي ينعم هذا الضيف ورفقته بأكبر قدر من الراحة.. وعند صلاة المغرب أخرجت آمنة كل فراش وثير لديها أمام الخيمة لينعم ضيوفها بالهواء الذي بدأ يلطف شيئا فشيئا، كما أوقدت أمام خيمتها نارا عظيمة للإضاءة، ولتكون علما يهتدى به أصحاب السيارات الذين يسبحون في هذه المتاهة التي يصعب الاهتداء بها نهارا، أحرى بالليل.. محمد وهو أحد الحراس الشخصيين ينادى مستبشرا بالنبأ السار، ها هي السيارات الثلاث قادمة.. الرئيس يودع الجميع بامتنان؛ خاصة آمنة، وكافة أفراد هذا الحي الرائع، فيما يخص هؤلاء فإنها المرة الأولى التي يجالسون فيها، بل يتحدثون ويفاكهون، بل يرون عن قرب، رئيسا موريتانيا بلحمه ودمه.. أخذنا معنا دليلا ركب في مؤخرة السيارة، لكن هذا الدليل أصيب بالدوار، والتقيؤ، وأصبح عبئا علينا بدون فائدة، سلكنا أثر سيارة رئيس الجمهورية، ولدينا مشاعر متجددة بالخوف من صعوبة الطريق.. |
