في معنى العروبة (1/ 2)
الجمعة, 28 أكتوبر 2016 07:26

 

زياد حافظ    

الأمين العام للمؤتمر القومي العربي

altفي إحدى الندوات الفكرية التي حضرناها تبيّن لنا أن هناك من يخلط بين العروبة كهوية والقومية العربية كنهج سياسي. وهناك من يتكلّم عن القومية العربية وكأنها فكر جامد لا يواكب التطوّرات بينما هو نابع من وجدان أبناء الأمة. وهناك من يعتبر سياسات دول وحكّام رفعوا شعارات قومية تجسيدا للقومية العربية. فإذا كانت سياسات الحكام خاطئة فإذن القومية العربية "خاطئة" أو "مثالية" أو "غير واقعية".  

نعتقد أن الالتباس ربما من صنع بعض القوميين العرب أنفسهم الذين لم يحسنوا تفسير مفهوم القومية العربية أو التعبير عنها. كما أن سلوك وسياسات بعض الحكام الذين رفعوا الشعار القومي العربي كانت مسيئة للشعوب وللفكرة القومية فتمّ الحكم على الفكرة والنهج السياسي بحجة الحكم على الحاكم. كما أن الالتباس يعود في الأساس إلى أعداء العروبة من عرب وغير عرب. فبغض النظر عن المسبّبين في الالتباس وأسباب الإخفاقات في بعض السياسات عند بعض الحكّام فإن من واجبنا توضيح وتعريف العروبة والقومية العربية والتمييز عن السياسات التي انتهجت تحت شعار القومية العربية أو العروبة.

العروبة في الأساس هوية وليست برنامجا سياسيا أو نهجا سياسيا وإن استلزم الدفاع عن الهوية العمل السياسي فشكّل ما نعرفه بالقومية العربية. وهذا العمل كان تاريخيا يسعى إلى تحقيق الاستقلال الوطني وتحرير الأرض من المحتلّ الغربي والصهيوني، وإقفال القواعد العسكرية الأجنبية، ووحدة الأمة التي تجزّأت بفعل التاريخ الاستعماري وارتباط النخب الحاكمة بسياسات الاستعمار، وإقامة مجتمع الكفاية والعدل، وحرّية المجتمع التي تكمن في التحرّر من الاستبداد السياسي والاستغلال الاقتصادي. كما أنها تنتهج سياسات للدفاع عن تراثها ومبادئها اتجاه الغزو الفكري والثقافي المدمرّ لمجتمعاتنا والمدمّر أيضا للمجتمعات الغربية التي تصدّره لنا. لذلك، فإن القومية العربية حركة تحرّرية أولا ووحدوية ثانيا، ومتطلّعة إلى نهضة الأمة ثالثا.

هذا الطموح لإنجاز أهداف سياسية واضحة تحافظ على الهوية هو ردّة فعل طبيعية على كل المحاولات لطمس الهوية العربية. تاريخيا كانت خلال السنوات الأخيرة للسلطنة العثمانية التي حاولت تتريك الولايات العربية، وفيما بعد الاستعمار الأوروبي الذي استكمل احتلال معظم الأقطار العربية بعد الحرب العالمية الأولى. وهذه المحاولات لطمس الهوية تأتي عبر عدّة محاور.

المحور الأول هو التهجّم على الهوية العربية ووصفها بالتعصّب العرقي أو القومي والمتعارف عليه بالمصطلح المستعرب (بفتح الراء) بـ"الشوفينية".

والمحور الثاني هو التحقير لهذه الهوية عبر استعمال مصطلحات كـ"عربان" بما يحمل من نظرة دونية لسكّان شبه الجزيرة العربية.

المحور الثالث هو عبر نفي المساهمة العربية في الحضارة الإنسانية ونسبة القسط الأكبر لإنجازات الحضارة الإسلامية إلى الحضارات المجاورة غير العربية كالفرس والهند والصين ومصر الفرعونية.. إلخ.

وأخيرا وليس آخرا، الهجوم على العروبة عبر نفي وجودها؛ فالحديث الغربي عن الأقطار العربية مبني على قاعدة أن الشعوب القاطنة فيها هي تجمّعات طائفية ومذهبية وعرقية وليست عربية الهوية والهوى. فالعراق مكوّن من سنّة وشيعة وأكراد. فللكرد قومية يُعترف بها بينما تُنفى عروبة السنّة والشيعة وحتى عروبة المكوّنات الأخرى للمجتمع العراقي والمجتمعات العربية!  وكذلك الأمر في بلاد الشام وذلك لتبرير وجود الكيان الصهيوني المبني على قاعدة عنصرية ودينية. وبعض المثقفين العرب المتغرّبين يعتبرون أن المشكلة الأساسية في الحركة القومية العربية هي التنكّر للأقلّيات العرقية متناسين - عن قصد أو غير قصد- أن الهجوم القائم هو على الأكثرية الساحقة من مكوّنات الأمة وتجاهل "الأكثرية" (بالإذن من المفكّر الراحل الأستاذ منح الصلح ومقولته المعروفة). طبعا هذا الادعاء غير صحيح لأن مفهومنا للعروبة لا علاقة له بما يتكلّمون عنه. وسنقارب الموضوع في فقرة لاحقة ولكن كان لا بد لنا من الاستطراد بعض الشيء في عرضنا للهجوم على العروبة.

إذا أردنا التدقيق في مصطلح الهوية نجد أنه مصطلح عربي، ولكن غير أصيل. فهو مصطلح صناعي، أي مركّب كما يؤكّده الدكتور أنطوان سيف. فهو يتكوّن من ضمير "هو" تسبقه "أل" التعريف ومن اللاحقة المتمثلّة بحرف "الياء" المتشدّد إضافة إلى التأنيث. كما يعتبر بعض الباحثين أن المصطلح ليس عربيا بالأصل؛ بل هو اشتقاق قام به المترجمون القدماء من أل "هو" أي حرف ربط، يدلّ على ارتباط المحمول بالموضوع في جوهره كالقول إن فلان هو إنسان. وفي الغرب فجذر المصطلح يدلّ على التساوي (identity) أي الشيء المتطابق في ذاته.

أما مكوّنات الهوية العربية فهي متعدّدة وتحمل في طيّاتها التراكمالحضاري والثقافي عبر القرون نتيجة للتفاعل بين الشعوب إثر الهجرة أو الفتوحات. لكن ما يميّز الهوية العربية ويشكّل نقطة ارتكاز جوهرية - إن لم تكن الأهم- هو اللغة أو اللسان؛ فاللسان العربي هو الذي يوحي بالهوية ويعبّر عنها وعن العقل العربي، كما أبرزته عدّة دراسات في هذا الموضع. لذلك نجد أن الحفاظ على اللسان العربي من الحفاظ على الهوية. وهناك دراسات وأبحاث عديدة توضح علاقة اللسان بالهوية، ليس عند العرب؛ ولكن عند جميع البشر، ولن نذكرها لضيق المساحة. يكفي التأكيد على العلاقة بين الهوية العربية وأهمية ودور اللسان العربي في تجسيدها والتعبير عنها.

وهنا لا بدّ لنا من مقاربة إضافية حول تعريف مصطلح "عرب". جاء في "لسان العرب" لابن منظور أن كلمة "عرب" تعني الذي يعرف نسبه، وعكسه الأعجمي الذي لا يعرف نسبه. ومن مشتقّات الكلمة "إعراب" و"تعريب" بمعنى التفكيك التحليلي والتمييز؛ فالعربي يصبح الإنسان الذي يعرف نسبه ويستطيع التفكيك والتحليل والتمييز، أي الإنسان العالم (بكسر اللام). بالمقابل هناك الإعرابي الذي لا يجيد معرفة نسبه بالكامل، وقدرته على التفكيك والتمييز محدودة. فإضافة حرف الألف على مصطلح "عرب" وكسره لجعله متعدّيا يعطى معناً آخرا. هذا نموذج عن بلاغة اللسان العربي.

لذلك قضية العرق غير موجودة عند العرب كما يزعم البعض، وإن اعتبروا أن النسب مبني على رابطة الدم. فإذا كنّا لا ننكر أنه في مرحلة تاريخية سابقة كانت رابطة الدم بداية تحديد النسب فإن التطوّرات السكّانية والسياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية ساهمت في تطوير مكوّنات الرابطة وجعل اللسان والتاريخ والمصير المشترك أساس الانتماء العربي.

بالمقابل فإن قضية العرق كمكوّن أساسي للرابطة موروث غربي. فالغرب كان يُعرّف العرب في القرون الوسطى بالسراسنة. وكلمة "سراسنة" مشتقة من اليونانية "سراكونوس" تعني المنحدرين من خارج "سارة". فالنسب الأسطوري للعرب هو هاجر وابنها إسماعيل؛ أي أن الغرب هو الذي أوجد مسألة "الآخر" في تعريفه عن العرب أنهم ليسوا منحدرين من الزواج الشرعي بين سيدّنا إبراهيم وزوجه سارة؛ بل من الجارية هاجر!  ومشكلة الهويات الفرعية أوجدها المستعمر الأوروبي واعتبرت مدخلا للحداثة! وفقا للباحث سري مقدسي. أما الدكتور جورج قرم فيعتبر أن مشكلة الهوية نشأت في الغرب لتبرير المشروع الاستعماري عبر اختراع مفهوم "الآخر" كموضوع يُدرس كالحشرات والحيوانات.. فأوجد علم الأنثروبولوجيا لذلك الغرض. والنظرة للآخر نظرة دونية بطبيعة الحال، وهي تختلف كلّيا عن نظرة التنوّع والاختلاف الموجودة في الأمة وفي الأمم الأخرى؛ والذي يفرض الاحترام كما جاء في آية من سورة الحجرات {وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا} (13).   

فإذا كانت العروبة هوية، وهوية جامعة، وإذا كان العرب لا ينتمون إلى عرق محدّد؛ بل إلى نسب ومعرفة مما يمكّن الجمع بين المكوّنات، وإذا كان البعد العرقي اختراعا غربيا، وإذا كانت اللغة مكوّنا أساسيا للهوية، وإذا كانت المكوّنات الأخرى للهوية نتيجة تفاعل مع الحضارات المجاورة، وإذا كانت مكوّنات المجتمعات العربية تؤمن بالتاريخ والمصير المشترك، فمن هو العروبي في القرن الحادي والعشرين؟ 

العروبي في نظرنا ونظر من يشاطرنا في المقاربة، هو من ينطق باللسان العربي ويؤمن بالمشروع النهضوي العربي. والمشروع النهضوي العربي مشروع يسعى إلى نهضة الأمة عبر تحقيق أهداف الاستقلال الوطني والوحدة وإقامة مجتمع الكفاية والعدل وإيجاد منظومة معرفية عربية تسمح للعروبيين بمقاربة أوضاعهم في السياسة والاقتصاد والاجتماع والثقافة وفقا لمناهج وأدوات تحليل نابعة من واقعهم وغير مستوردة. لذلك تصبح طبيعة العروبة طبيعة جامعة وغير إقصائية لأنها مبنية على أسس موضوعية ومتفاعلة مع التاريخ ونابعة من الوجدان.

فيديو

فيديو

فيديو

فيديو

فيديو

فيديو

فيديو

الآن في المكتبات

فيديو

المتواجدون الآن

حاليا يتواجد 9 زوار  على الموقع