نهاية موسم الهجرة إلى الشمال.. نهاية حضارة!*
الأربعاء, 18 فبراير 2015 08:52

ننشر هذا المقال التأبيني بمناسبة الذكرى السادسة لرحيل الروائي والأديب الكبير الطيب صالح

alt"حين أخبرني ناظر المدرسة بأن كل شيء أعد لسفري للقاهرة، ذهبت إلى أمي وحدثتـها. نظرت إلي مرة أخرى، تلك النظرة الغريبة. افترت شفتاها لحظة كأنـها تريد أن تبتسم، ثم أطبقتـهما، وعاد وجهها كعهده، قناعا كثيفا، بل مجموعة أقنعة. ثم غابت قليلا، وجاءت بِصُرَّةٍ وضعتها في يدي وقالت لي:

لو أن أباك عاش، لما اختار لك غير ما اخترتـه لنفسك. افعل ما تشاء. سافر. أو ابق، أنت وشأنك. إنها حياتك، وأنت حر فيها. في هذه الصرة ما تستعين بـه" كان ذلك وداعنا. لا دموع لا قبل ولا ضوضاء. مخلوقان سارا شطرا من الطريق معا، ثم سلك كل منهما سبيله. وكان ذلك في الواقع آخر ما قالتـه لي، فإنني لم أرها بعد ذلك. بعد سنوات طويلة، وتجارب عدة، تذكرت تلك اللحظة، وبكيت. أما الآن فإنني لم أشعر بشيء على الإطلاق. جمعت متاعي في حقيبة صغيرة، وركبت القطار. لم يلوح لي أحد بيده ولم تنهمر دموعي لفراق أحد. وضرب القطار في الصحراء، ففكرت قليلا في البلد الذي خلفته ورائي، فكان مثل جبل ضربت خيمتي عنده، وفي الصباح قلعت الأوتاد وأسرجت بعيري، وواصلت رحلتي"!  (موسم الهجرة إلى الشمال ص 32).            

بداية هجرة مصطفى سعيد إلى الشمال.. ونـهاية هجرة الطيب صالح إليه: "جمعت متاعي في حقيبة صغيرة، وركبت القطار. لم يلوح لي أحد بيده ولم تنهمر دموعي لفراق أحد. وضرب القطار في الصحراء، ففكرت قليلا في البلد الذي خلفته ورائي، فكان مثل جبل ضربت خيمتي عنده، وفي الصباح قلعت الأوتاد وأسرجت بعيري، وواصلت رحلتي"! فيا للمفارقة!

هل كان الطيب صالح هو مصطفى؟ أم إن مصطفى كان كوجه أم الطيب صالح قناعا كثيفا بل مجموعة أقنعة يضعها كافة أهل الجنوب؛ وخاصة العرب منهم؟

عندما التقيت بالطيب صالح لأول – وآخر- مرة في القاهرة، سألته قبل أن نتصافح "من هو مصطفى"؟

فأجابني على الفور: "أنت مصطفى"!

        نعم. صدق الطيب. أنا مصطفى! وهذا شيء رائع جدا، أن يجد الفنان ـ أخيرا ـ بطله الأسطوري واقعا يمشي على قدميه! ولكن عبقرية الطيب صالح كانت تتجه من البداية إلى أبعد من ذلك! فمصطفاه الذي قدم في زهرة أعماله هو: هو وأنا وأنت وكل فرد من أمم الجنوب التابع المغلوب:

        إنه مثلا:

ـ ذلك النبي الذي تآمروا عليه وهزموه في حزيران، ثم قتلوه وصلبوه يقينا!

ـ والشهيد الذي اقتادوه إلى حبل المشنقة صباح عيد الأضحى في عقر داره، دار السلام!

ـ و"المستضعف" القوي بحقه وبشعبه، الذي يطلبونه للمثول في قفص اتهام محكمتهم "الدولية" الصورية التي تمهل وتهمل المجرمين!

ـ وأولئك المعذبون في غوانتنامو وبوغريب والسجون الطائرة عبر العالم.

ـ وهؤلاء الذين يتعرضون للإبادة في فلسطين ولبنان والعراق والسودان وأفغانستان وباكستان والشيشان وغيرها!

ـ وصفوف الشباب الهاربين من الموت البطيء في أوطانهم إلى الموت الناجز في جوف الصحاري والبحار!

ـ وكل فرد من شعوبنا المهدورة التي يسحقها الاستبداد والفساد والفقر والجهل والمرض في أوطانـها التي أصبحت سجونا تحكمها الدبابة والمدفع والبوليس السياسي حينا، وطغيان المال والجاه في جميع الأحيان!

ـ وهو كذلك، ذلك الماجن العابث الفاسد الذي كان - وما يزال - يدمن "الهجرة إلى الشمال" حاملا طيبات بلادنا لإطعام "مساكين" الملاهي، شاهرا رمحه الأسود البالي، ضحية وجلادا في آن واحد!

وحدها بنت المجذوب ظلت شامخة "بطولها، معتدلة القامة، لا انحناء في الظهر ولا تقوس في الكتفين" تدخن بنهم، وتقهقه "بصوتها الرجالي المبحوح" تتحدى أشباه الرجال ولا رجال.. إنها روح الأمة التي لا تموت!

 

عندما تطغى حضارة ما، فتؤله المادة وتعبدها، وتهدر الإنسان، وتدمر العقل والعدل والقيم والثقافة، فآذن بزوالها. مهما كانت قوتها المادية. لأنها تصبح حضارة بلا روح!

وعندها.. تبدأ هجرة جديدة! هجرة من نوع آخر! هجرة الحضارة! إلى أين؟ فالحضارة لا تموت، ولكنها تـهاجر من بلد إلى بلد. إنها كما قال مالك بن نبي: "تسير كما تسير الشمس، فكأنها تدور حول الأرض مشرقة في أفق هذا الشعب، ثم متحولة إلى أفق شعب آخر"!  

رحم الله الطيب صالح ما كان أروعه!

* كلمة ألقيت في حفل تأبين الكاتب والروائي السوداني الكبير المرحوم الطيب صالح

فيديو

فيديو

فيديو

فيديو

فيديو

فيديو

فيديو

الآن في المكتبات

فيديو

المتواجدون الآن

حاليا يتواجد 10 زوار  على الموقع