| هل بدأت الحرب الأهلية الأمريكية؟ |
| الاثنين, 27 فبراير 2017 08:00 |
|
زياد حافظ الأمين العام للمؤتمر القومي العربي
الدولة العميقة اليوم يتصدّرها مجمع مؤسسات الاستخبارات ضمن المجمع العسكري السياسي الأمني والمالي. واليوم يمكن إضافة السلطة الرابعة (أي الإعلام المهيمن) إلى ذلك التحالف؛ حيث أسقط الإعلام أيّ زعم بالمهنية وأخذ بتصنيع الأخبار الكاذبة حول ترامب. بالمقابل يعتبر ترامب أن "الإعلام هو العدو". ويجب الاعتراف أن ترامب سهّل - ويسهّل إلى حدّ كبير- مهمة خصومه بسبب تسرّعه في اتخاذ القرارات ثم التراجع عنها وكأنها ستكون دون أي تأثير. وهذا ما يجعل هدفه في "تجفيف المستنقع" مهمة في غاية الصعوبة لشراسة أرباب "المستنقع" وخفّة الرئيس الأمريكي في اتخاذ القرارات. وبالفعل، ارتكب الرئيس الجديد عدة أخطاء متتالية ساعدت الإعلام وأجهزة الاستخبارات على خوض حملة ناجحة ضدّه وكأنه عاجز عن الرد حتى الآن. وليس في الأفق ما يدّل على إمكانية ردّ فعّال غير المكابرة في الكلام أو التراجع المؤقت. أما الأخطاء التي ارتكبها فعديدة: أولا ما زال يعتبر نفسه في مرحلة الحملة الانتخابية ولم يستوعب أنه أصبح الآن في الحكم. فما زال يطلق مواقف لا تتجاوز مرحلة الشعارات؛ أي دون دراستها بعمق (وخاصة تداعياتها) وسرعان ما يقوم بالتراجع عنها. الخطأ الثاني هو عدم إعداده لفريق عمل متجانس يمكن الاتكال عليه. فالتسميات لمناصب عديدة أثارت العديد من الجدل.. خاصة فيما يتعلق بأمرين: 1. التناقض مع شعاراته الانتخابية بأنه يمثّل الشعب، وأنه سينقل السلطة إلى الشعب كما صرّح في خطاب القَسَم، وإذ يعّين العديد من أصحاب المليارات في وزاراته. 2. يفتقد العديد من أصحاب هذه التعيينات الحد الأدنى من الكفاءة في علم إدارة الدولة أو الشأن العام، أو لا يمتلكون تصوّرا لما يمكنوا أن يقوموا به. فوزيرة التربية بتسي ديفوس نالت موافقة مجلس الشيوخ بشق الأنفس بسبب قلة خبرتها وحنكتها، رغم أنها كانت رئيسة فرع الحزب الجمهوري في ولاية ميشيغان. وهي ومن أصحاب المليارات، وشقيقة أريك برنس مؤسس إحدى أكبر الشركات الأمنية في العالم (بلاك واتر). الجدير بالذكر أنها لم تكن من أنصار ترامب واعتبرت أنه لا يمثّل الحزب الجمهوري فكيف تمّت تسميتها من قبل ترامب؟ أو هل هناك جهة أخرى داخل الفريق المقرّب من ترامب تقترح الأسماء دون التعمّق في خبرة المرشّحين وكأنها تريد إفشاله؟ المرشح الثاني الذي اضطر إلى الانسحاب هو المرشح لمنصب وزارة العمل اندرو بوزدر؛ وذلك بسبب عدم كفاءته. مثال ثالث على عدم كفاءة فريق العمل داخل الإدارة تعيينه لشون سبايسر ناطقا باسم البيت الأبيض الذي يتخبّط في التناقضات والمعلومات الخاطئة أو الناقصة. ترافق كل ذلك أخبار وتسريبات عن صراعات داخل البيت الأبيض بين فئات متخاصمة تسعى للتأثير في الرئيس؛ وهو ما يزيد من البلبلة والغموض حول آليات العمل داخل الإدارة الجديدة في البيت الأبيض. هذه بعض الملاحظات حول فريق العمل الجديد، ويمكن الاسترسال في الأمثلة لتأكيد ما أوردناه. ومن الهفوات القاتلة في التعيينات تعيين مايك فلين مستشارا للأمن القومي الذي أربك الرئيس الأمريكي ونائبه مايك سبانس بسبب معلومات ناقصة لم يفصح عن كاملها، مما أفقده ثقتهما به. وقضية فلين تنذر بإعادة سيناريو إسقاط نيكسون في سبعينات القرن الماضي، حيث بادر بعض النوّاب والشيوخ في الكونغرس إلى طرح ضرورة تحقيق من قبل محقّق مستقل لمعرفة ما كان يعلم ترامب من محادثات بين فلين والروس. لسنا متأكدين أن هذه الحملة قد تنجح في إطاحة ترامب، ولكنها قد تضرب مصداقيته على الصعيد الدولي. وقد تجلّى ذلك من النتائج المحدودة للزيارة الأولى لوزير الخارجية الجديد ريكس تيللرسون ولقائه مع نظيره الروسي سيرغي لافروف. لكن رغم كل ذلك ما زال ترامب يتمتع بشعبية كبيرة تقارب أكثر من خمسين بالمائة، وهو ما يغيظ خصومه. فمعهد رساموسن لاستطلاع الرأي العام (المعروف بجدّية ودقّة استطلاعاته) نشر الأسبوع الفائت استطلاعا يدّل على مدى موافقة الجمهور الأمريكي على سياسات ترامب. والأهم من ذلك، جاء في ذلك الاستطلاع أن الجمهور الأمريكي يثق بترامب أكثر مما يثق بأخبار الإعلام المهيمن؛ أي بمعنى آخر أن مصداقية ذلك الإعلام لدى الجمهور الأمريكي مشكوك في أمرها. كما أكّد ذلك الاستطلاع عدم رغبة الجمهور الأمريكي في التورّط في قضايا خلافية خارجية. من جهة أخرى فإن استطلاعا آخر قام به موقع يوغوف (YouGov) حول التهديدات الخارجية كما ينظر إليها الجمهور الأمريكي أبرز أن روسيا تأتي في المرتبة السادسة (22 بالمائة) وراء كل من كوريا الشمالية (57 بالمائة) في المرتبة الأولى، ويليها كل من إيران (41 بالمائة) وسورية (31 بالمائة) والعراق (29 بالمائة) وأفغانستان (23 بالمائة). لكن جميع هذه الاستطلاعات (باستثناء الخطر الكوري الشمالي) تفيد أن التهديد لا يتجاوز الخمسين بالمائة عند الجمهور الأمريكي. فكل كلام الإعلام ورموز الاستخبارات أن روسيا هي الخطر الأول يتعارض مع رأي الأمريكيين. لكن بات واضحا أن الانفصام بين النخب والجمهور العام الأمريكي يتزايد. لذلك نرى "التقدّميين الليبراليين" في الولايات المتحدة يدعون إلى ابتكار الوسائل الفاشية كعدم السماح بإعطاء رأي مخالف لرأيهم. كما أن هذه الجوقة من "التقدميين الليبراليين" تدعو إلى تصعيد المواجهة مع روسيا والصين. فسخرية القدر هي تبدّل المواقع بين المحافظين التقليديين الذين كانوا من "الصقور" وبين الليبراليين الذين كانوا يبدون اعتراضهم على المغامرات الخارجية الأمريكية. فمنذ ولاية كلنتون أصبحت النخب الأمريكية بمختلف تشكلاتها تؤيّد التدخّل الخارجي، وهي اليوم متحالفة مع صقور الأمس من الجمهوريين في إعادة أجواء الحرب الباردة. وما يؤكد ذلك هو استطلاع آخر أجراه مركز المصلحة الوطنية بالاشتراك مع مؤسسة كوخ، تبيّن منه أن 69 بالمائة من الأمريكيين ترى أن المصلحة الوطنية هي التي يجب أن تحرّك السياسة الخارجية وليس المواقف العقائدية اتجاه الصين أو روسيا. كما أن نشر الديمقراطية في العالم عبر القوة العسكرية كما يتمنّاه المحافظون الجدد والمتدخّلون الليبراليون لم يحصل على 24 بالمائة من التأييد، بينما الأكثرية خالفت ذلك التوجه. تحالف مراكز الاستخبارات الأمريكية مع الإعلام الأمريكي أطاح بمايكل فلين، ولكن هل يستطيع ذلك التحالف الاستمرار في هجومه على الرئيس الأمريكي، إما للوصول إلى تنحّيه أو إسقاطه في الكونغرس؟ وماذا ستكون ردّة الفعل الشعبية؟ الانقسام الحاد بين الأمريكيين من جهة وبين النخب الأمريكية وجمهور ترامب يساهم في ضرب تماسك النسيج الاجتماعي؛ خاصة مع تفاقم الأزمة الاقتصادية. من الواضح أن النخب لا تكترث بحال المواطن الأمريكي العادي، وتريد أن تصوّر وتتصوّر أن معظم الأمريكيين يؤيّدونها في صراعها مع ترامب. من يتابع وسائل التواصل الاجتماعي والمواقع الإلكترونية يكتشف مدى حدّة الانقسام الذي يحاول أن يخفيه الإعلام المهيمن. واستمرار الصراع المفتوح دون ضوابط ينذر بالتحوّل إلى مجابهة شعبية مع أنصار ترامب الذين لا يقل عددهم عن نصف الناخبين. لم نصل إلى تلك المرحلة، ولكن في الولايات المتحدة هناك العديد ممن يعتبر أن احتمال حرب أهلية أصبح واردا. أجواء الحرب الباردة ضرورة حيوية للمجمع العسكري الصناعي؛ ففي عصر التراجع الاقتصادي تزداد الضغوط على الحكومة لخفض النفقات العامة. ولكن ما لا يمكن تخفيضه في نظر المجمع العسكري الأمني الصناعي هو نفقات الدفاع والأمن الذي يحظى بتأييد الجميع. يبقى تخفيض نفقات الخدمات الاجتماعية، وهذا يمس مباشرة مصالح الجمهور الأمريكي. فأصحاب المليارات الذين يتولّون مناصب في إدارة ترامب مهمتهم تخفيض نفقات الإدارة؛ وخاصة في البرامج الاجتماعية والتربوية والبيئية والصحية، ولكن دون المس بالدفاع والأمن. وفقا لهذه المعطيات فإن إدارة ترامب مقبلة على اتخاذ قرارات تمسّ من رفاهية المواطن الأمريكي. هناك أحاديث حول إعادة هيكلة الضمان الصحي للمتقاعدين. كما أن الحديث عن إبطال قانون التغطية الصحية الذي أوجده الرئيس أوباما، والمعروف "بأوباما كير" يتفاعل في الكونغرس رغم صعوبات إبطاله. الأوليغارشية الأمريكية أصبحت تحكم الولايات المتحدة بشكل مباشر، بينما كانت توظّف سياسيين لذلك الغرض. الغريب أن الهجوم على ترامب لا يتناول بشكل ملموس الأجندة الداخلية التي قد تكون - في الحد الأدنى- مطابقة للنيوليبرالية التي بدأت في الولايات المتحدة في عهد ريغان، وتصاعدت في عهد كلينتون، لتصل إلى ذروتها في عهد أوباما. الخلاف هو حول الأجندة الخارجية، حيث أعلن ترامب في حملته الانتخابية عن رغبة في "تحسين العلاقات" مع روسيا وعدم التورّط في حروب لا تخدم المصلحة الأمريكية كما يفهمها هو. فما هو مستقبل سياسة ترامب، على الأقل بخصوص الشعارات التي رفعها؟ من الواضح أن المجمّع العسكري الصناعي - ومعه الإعلام المهيمن- ربح جولة كبيرة في إبعاد مايكل فلين، ولكن هل كانت حاسمة؟ النتيجة الأولية هي إضعاف مصداقية الولايات المتحدة في المحافل الخارجية. المؤتمر الأمني الأخير الذي عقد في ميونخ الأسبوع الماضي تحدّت عن الخطر الروسي الذي يهدّد كلا من الاتحاد الأوروبي والحلف الأطلسي. الجدير بالذكر أن نفقات وزارة الدفاع الروسية في حدود 66 مليار دولار، بينما نفقات بلاد الحرمين وصلت إلى 88 مليار دولار. معظم الدول الأوروبية تنفق أكثر من روسيا على الدفاع، فكيف تحوّلت روسيا إلى تهديد حيوي لأوروبا؟ هذا التهديد هو ما شدّد عليه الشيخ الأمريكي جون ماك كين على هامش المؤتمر؛ مخالفا بالتالي موقف ترامب. صحيح أن وزيري الخارجية والدفاع الأمريكي تكلّما عن تهديد روسي، ولكن بشكل غير مقنع. فأين يقين الموقف الأمريكي؟ الأسابيع المقبلة ستحمل بعض الأجوبة، ولكن في اعتقادنا فإن إدارة ترامب - ومعها الولايات المتحدة- دخلت مرحلة لا توازن ولا استقرار وحالة ضعف خطيرة قد تطول طالما لم تستوعب النخب مدى عمق التغيير الحاصل في المجتمع وضرورة الانصياع لذلك الواقع الجديد. |
