من الأرشيف

الأستاذ محمدٌ ولد إشدو لـ"العربي الجديد": موريتانيا فتحت باب ثورات الربيع العربي (1/ 3)
الخميس, 03 مايو 2018 07:25

نواكشوط ــ خديجة الطيب

 

13 مايو 2015

 

altتاريخه النضالي جعله أحد أبرز المحامين في موريتانيا، لكن الأمر كلّفه مواجهة حملات شرسة على خلفيّة مواقفه الجريئة والمناصرة لبعض المتهمين في قضايا أثارت جدالاً في الشارع الموريتاني، وعلى سبيل المثال قضية كاتب المقال المسيء للنبي محمد. هو محمدٌ ولد إشدو الذي جمع بين السياسة والأدب والمحاماة، وخصص حياته لنصرة قضايا ضعفاء بلاده والمَقصيّين فيها وللوقوف إلى جانب المظلومين. وفي ما يأتي، نص حديث خصّ المناضل الموريتاني "العربي الجديد" به.

كيف ترى مستوى الحريات في البلاد؟

للحديث عن مستوى الحريات في موريتانيا يجب التذكير بادئ ذي بدأ بأن الموريتانيين هم أول من فجر - على طريقتهم- الثورة على القهر والهدر والطغيان يوم كسروا في 3 أغسطس 2005 أضعف حلقات منظومة القهر الأمريكية الصهيونية الرجعية التي سحقت العرب والمسلمين منذ معاهدة كامب ديفد؛ فأيقظوا بفعلهم المفاجئ شعوب المنطقة، وبرهنوا لها على قوة الشعوب ووهن حلف العدو وعدم جدوى الاحتماء في كنفه. ثم قاموا بإصلاحات كبرى تمثلت - على سبيل المثال- في: تحرير سجناء الرأي وإغلاق السجون، وإطلاق الحريات العامة إلى أبعد الحدود، وكنس معظم القوانين القمعية كالمادة 104 التي أضيفت إلى الدستور لتشريع الاحتفاظ بجميع القوانين القمعية الموروثة عن الحقبة العسكرية الاستثنائية، والمادة 11 من قانون الصحافة التي تجيز مصادرة ووقف الصحف بجرة قلم، وتقليص المأمورية الرئاسية إلى خمس سنوات قابلة للتجديد مرة واحدة فقط، وحظر تعديل الدستور في مادته المتعلقة بالمأمورية، وإقامة مؤسسة للمعارضة، وإزاحة مدن الصفيح، وتبني التمييز الإيجابي اتجاه النساء والفئات الفقيرة في المجتمع، ومحاربة الفساد والبطالة ونهب الثروة السمكية واختلاس المال العام، وإلغاء عقوبة الحبس من قانون حرية الصحافة.. وطرد سفارة إسرائيل صاغرة من بلادهم؛ فكان علمها المشؤوم الذي رفرف زمنا في موريتانيا أول علم إسرائيلي يطوى من بلد عربي نشر فيه.

قد تتساءلين - سيدتي – عن علاقة بعض ما تطرقت إليه بمستوى الحريات العامة؟ وهنا أؤكد مسألتين أساسيتين:

أولاهما أن الحرية والديمقراطية ليستا هدفا؛ بل وسيلة لبلوغ الشرط الإنساني الكريم والتمتع بحق الحياة من رزق وسكن وملبس ودواء وتعليم. وبدون ذلك لا يكون للحرية والديمقراطية معنى. لقد صدق قادة موريتانيا الحاليون - رغم أنه ما يزال هناك كثير مما يجب عليهم عمله - عندما قرنوا إطلاق الحريات وحمايتها بالقضاء على مدن الصفيح، وتوفير قطع الأرض، وتوفير الماء الصالح للشرب، وبناء وتجهيز المستشفيات والمدارس والجامعات، والطرق، وتأسيس شركة للإسكان. وصدق كذلك رئيس السنغال المجاور حين صرح أمس بأن إرساء الديمقراطية يمر عبر الحصول على سكن لائق.

وثانيتهما أن من شروط تحسن مستوى الحريات العامة والديمقراطية كبح "حرية" أعداء الحرية والديمقراطية. وهم أولئك الذين يسعون في الأرض فسادا ويعملون على زعزعة أمن البلاد وتخريب السلم الاجتماعي والوحدة الوطنية والاقتصاد.. فحرية هؤلاء الأعداء المتلونين تنتهي عندما تبدأ حدود حرية الشعب أو ينال من حرية الوطن. ومما لا شك فيه أن سوء استغلال الحرية وانتشار الفوضى وتكاثر الأدعياء في مختلف المجالات: في الصحافة، في الأحزاب، في النقابات، في منظمات المجتمع المدني، حيث اختلط الحابل بالنابل والطالح بالصالح والغث بالسمين وترتع عصابات الطابور الخامس يشكل خطرا حقيقيا على الحريات وعلى مسيرة الإصلاح في البلاد. وما لم تتم غربلة وتصفية وتصحيح هذه المجالات الأساسية، فلن تنهض شروط قيام مؤسسات جمهورية قادرة على حماية وصيانة وتنمية هذه المكاسب الثمينة التي رفعت رؤوسنا وألهمت جماهير عربية وإفريقية واسعة كيف تتحرك وكيف تبني وكيف تنتصر.

 

في القانون الموريتاني هناك أحكام متجاوزة كقطع اليد والرجم والجلد، كيف يتم تطوير منظومة القوانين والأحكام في موريتانيا؟

هذه الأحكام يزيد عمرها على ثلاثة عقود وقد تم سنها في فترة عسكرية خضع الحاكم فيها لإملاءات تيارات متزمتة كان في أمس الحاجة إلى دعمها في مواجهة الغضب الشعبي الجارف. وبتجاوز ذلك الحاكم وأمثاله وتلك التيارات تم تجاوز تلك الأحكام، ووقف تطبيقها. وسوف يتم تطوير وإصلاح منظومة القوانين والأحكام، وملاءمتها مع الواقع المعيش في البلد، ومع المصالح المرسلة لا محالة. خاصة إذا علمنا أن الوسطية والاعتدال والتسامح هي منهج المسلمين الموريتانيين دون إفراط أو تفريط. وللوسطية الموريتانية أئمة راسخون في العلم ورثوها عمن شرعوها، فرسخوها وحصنوها وبثوها، كالإمامين الراحلين بداه ولد البوصيري ومحمد سالم ولد عدود رحمهما الله، والإمام الشيخ عبد الله بن بيه أطال الله بقاءه الذي اعتزل الفتن وانتزعت آراؤه النيرة إعجاب أساطين الغرب والشرق معا.

 

لماذا لم يعد الإعدام ينفذ في موريتانيا؟ وهل هناك اتجاه لإلغاء هذه العقوبة؟

نعم. هناك اتجاه لإلغاء عقوبة الإعدام. وإن كنت شخصيا - رغم مناصرتي لهذا الاتجاه، لأسباب من بينها ضعف حصافة المنظومة القضائية الموريتانية وعدم عصمتها من الخطأ - أرى الاحتفاظ بتنفيذ عقوبة الإعدام في ثلاثة مجالات هي: جرائم الإرهاب، تجارة المخدرات، الاغتصاب.

 

تسارع للترافع عن المظلومين والمتهمين في قضايا "الرأي" ما هي أشهر القضايا التي رافعت فيها؟ وما هي المواقف التي لن تنساها وحدثت داخل المحاكم؟

نعم.. كان ذلك قبل انتفاضة الشعب والجيش التي تحدثت عنها في البداية. وكانت تجري اعتقالات ومحاكمات دورية تأتي على الجميع كفصول السنة الأربعة. لحد أن الكاتب المتميز حبيب ولد محفوظ رحمه الله قال إن كل مواطن ينتظر دوره من السجن والمحاكمة: البعثيون، الناصريون، القوميون الزنوج، زعماء أحزاب المعارضة، بعض الحقوقيين، الإسلاميون، وقادة انقلاب 8 يونيو، والمترشحون لرئاسيات 1997 و2003. لم أكن وحيدا؛ بل كانت معي كوكبة من خيرة المحامين الموريتانيين قيل عنهم يومها إنهم كالجوهرة المطمورة في الوحل. الناصريون الذين دافعنا عنهم كان عددهم قليلا وبرئوا. البعثيون كانوا بالعشرات وانتزعنا لهم البراءة أيضا في نهاية المطاف أكثر من مرة. وكذلك الرئيس أحمد ولد داداه والوزير محمذ ولد باباه.. لم يرتكبا ذنبا سوى التنديد بالعلاقات مع إسرائيل والمطالبة بالتحقيق في طمر نفاياتها في موريتانيا الذي تحدثت عنه تقارير وتسريبات عديدة، ومع ذلك، ورغم استماتتنا كدفاع لإنقاذهما من السجن، فقد كانا معرضين للإدانة لولا أن قيض لنا الله قاضيا فاضلا (يوجد اليوم بالإمارات) أقسم رغم جميع الضغوط التي مورست ضده أن لا يحكم بغير قناعته ولو قطعت يمينه. أما الحقوقيون وبقية زعماء الأحزاب والمترشحون للرئاسيات وقادة انقلاب 8 يونيو والإسلاميون فقد خضنا في سبيل الدفاع عنهم معارك حامية كانت أبرزها محاكمة الرئيس اشبيه ولد الشيخ ماء العينين في مدينة العيون، ومحاكمة الرئيس محمد خونه ولد هيداله وصحبه في نواكشوط، ومحاكمة قادة الانقلاب والرؤساء أحمد ولد داداه ومحمد خونه ولد هيدالة والشيخ ولد حرمه ولد بابانه في وادي الناقة. وهذه المحاكمة كانت الأصعب والأطول، فقد دامت 75 يوما وليلة في ثكنة عسكرية تجرعنا فيها الأمرين، وكنا نحارب على ثلاث جبهات هي: المحكمة والنيابة اللتان كان علينا إلزامهما باحترام القانون في كل صغيرة وكبيرة. والدرك الذي يجعل ولوجنا إلى الثكنة واتصالنا بموكلينا ومثولنا أمام المحكمة جحيما من التعقيدات التي لا تطاق، والمكتب الذي نصبته السلطة بواسطة عملية تزوير وغش على هيئة المحامين؛ والذي يتظاهر بالدفاع عن بعض المتهمين، وقليلون منهم الذين يثقون فيه، وبتنظيم علاقاتنا مع المحكمة، ويعمل مع النيابة والمحكمة والدرك في الخفاء ضدنا وضد المتهمين. ومع ذلك فقد نجحنا نجاحا باهراعندما حولنا المحاكمة من محاكمة انقلابيين أحدثوا فوضى وخرابا وجرى بسبب حركتهم سفك دماء إلى محاكمة نظام فاسد يضطهد شعبه ويوصد في وجهه آفاق التقدم والحياة. وبذلك قمنا نحن والرأي العام الوطني والدولي الذي استطعنا تعبئته، وقد استقدمنا زملاء من السنغال ومالي وفرنسا، بفرض معادلة صعبة على النظام بحيث إن أعدم سقط، وإن لم يعدم سقط. ولم يعدم فسقط.

وإني لأتذكر الكثير من الوقائع التي لا تنسى من يوميات هذه المحاكمات. لكني سأتوقف عند ثلاث منها فقط: 

الواقعة الأولى: لم تكن أول محاكمة صعبة أكتوي بنيرانها وأصلى لهيبها محاكمة سياسية؛ بل كانت تتعلق بجريمة قتل حاول أولياء الدم فيها بدعم من الدولة لأسباب تافهة، الإيقاع ببرآء. وقد بلغ الجموح بوكيل الجمهورية عندما بدأت حججه تتهاوى كالورق في مهب الريح أن هاجم الدفاع، فكلت له الصاع صاعين. وفي لحظة من لحظات الوطيس قال: سيدي الرئيس، إن محامي الدفاع من أصحاب السوابق ولا يحق له أن يكون محاميا ويرافع أمام المحاكم. فرددت عليه فورا بالقول: سيدي الرئيس إن السوابق التي ذكرها السيد ممثل النيابة صحيحة، ولكنها لا تتعلق بالسرقة أو اختلاس المال العام أو الرشوة.. بل تتعلق بمقارعة الاستعمار؛ ولولاها لما تم استقلال موريتانيا، ولما أممت صناعة الحديد فيها، ولما أنشئت العملة ورسمت اللغة العربية، أو كان ممثل النيابة ولا أنتم هنا؛ بل لكان قضاة المساعدة الفرنسية ما يزالون على هذه الكراسي. وفوق هذا وذاك، فإن تلك السوابق موضوع قانون عفو عام تقول مادته الثانية إنه يحظر على أي قاض أو عون قضائي أن يثيرها أو يتحدث عنها، وقد وقع السيد وكيل الجمهورية في ذلك الحظر وخالف القانون فوجب عقابه. ولا يعذر أحد بجهل القانون أحرى إذا كان وكيل جمهورية. كان وقع الرد قاسيا ومفاجئا ومباشرا، فما كان من السيد الوكيل إلا أن خلع بدلته وانسحب. فطلبت على الفور شطب القضية واعتبار انسحاب ممثل الدعوة العمومية تخليا عنها. علم المدعي العام بما حدث فاستشاط غيظا وأمر وكيله بالرجوع إلى القاعة ومعالجة ما أفسد.

ثانيا: في محاكمة زعماء الانقلاب وقادة المعارضة بوادي الناقة كاد أحد كبار المتهمين أن ينهار تحت إغراء بعض وسطاء النظام من المحامين، فصرح أثناء التحقيق أمام قاضي التحقيق بأن قادة المعارضة تآمروا معه وأمدوه بالمال. وكان هذا هو الهدف الأسمى للنظام الذي يسعى للتخلص من معارضته بهذه الطريقة. لقد كان الخطر الذي يتهدد زعماء المعارضة فادحا.. فهم معرضون بموجب ذلك التصريح للإعدام أو المؤبد. وكان أحد محامي الدفاع متواطئا مع سلطة الاتهام، وهو من أغرى المتهم بمثل هذا التصريح ويشارك في التحقيق معنا منتحلا صفة الدفاع. كانت صفحة المحضر قد امتلأت قبل أن يثبت فيها هذا التصريح الخطير وسلمت إلينا للتوقيع، وقبل أن يرتد بصر القاضي إليه، افتعل زميلي الأستاذ يربه ولد أحمد صالح مشاجرة حامية مع المحامي الآخر والقاضي أثارت هرجا ومرجا وسببت توقف التحقيق، فما كان مني إلا أن كتبت في جذر الصفحة "وكانت آخر كلمة من هذه الصفحة هي كذا". ووقعت. ولما أخرج المتهم واجهته بشراسة قائلا: إنهم يكذبون عليك ولن يبرئوك ويريدون توريطك والقضاء على مستقبلك السياسي باعتراف كاذب منك ضد المعارضة التي هي الذراع الذي سيحميك، فلا تطعهم. تدارك نفسك وتراجع، وإلا فستهلك. لقد أثرت كلماتي في الرجل تأثيرا بالغا. وانتهت المشاجرة وعدنا إلى التحقيق. فقال القاضي للمتهم: لنبدأ من حيث انتهينا: قلت لي إن أحمد ولد داداه ومحمد خونه ولد هيداله مدوكم بمئات آلاف الدولارات. هل لك أن تحدد لي المبالغ بالضبط بعد أن حددت الأسماء؟ فرد عليه المتهم قائلا: لا لم أقل شيئا من هذا القبيل. صاح القاضي وهو واثق من نفسه: لقد قلته وكتب. واختطف الورقة من يد الكاتب فإدا بها خالية من تصريح المتهم وفي نهايتها بخطي وتوقيعي "وكانت آخر كلمة من هذه الصفحة هي كذا" فاستشاط غضبا، وظل المتهم مصرا على الإنكار. وفشلت الخطة فشلا ذريعا. وبرئ قادة المعارضة.

ثالثا: كنت أمام قصر العدالة في تجمهر كبير لأصدقاء وزملاء وتلاميذ أستاذ متهم بقتل أمه انتدبتني المحكمة للدفاع عنه ولم توجد بينة كافية ضده، وكان مثالا في حسن الخلق والسلوك والبر بأمه، وكان أمره محيرا. وفجأة جاء شيخ ذو لحية كثة يشق الصفوف نحوي بصعوبة ولما صار في مواجهتي قال لي: يا ولد إشدو أعوذ بالله من حالك، تدافع عمن قتل أمه وأنت مسلم. فقلت له على الفور: أيها الشيخ الوقور أعوذ بالله من حالك كنت حاضرا عندما قتل الرجل أمه وكتمت شهادة الله خلال هذه المدة الطويلة التي كانت العدالة فيها تبحث عن بينة؛ أم نسيت قول الله عز وجل: {ومن يكتمها فإنه آثم قلبه}. عندها نكص الشيخ هاربا وهو يقول: والله لم أك حاضرا عندما قتل أمه ولا علم لي بالموضوع ولا أشهد على شيء منه. فضحك الجمهور. 

يتواصل

فيديو

فيديو

فيديو

فيديو

فيديو

فيديو

فيديو

الآن في المكتبات

فيديو

المتواجدون الآن

حاليا يتواجد 8 زوار  على الموقع