في موكب الخالدين أيها البطل (الحلقة 3) |
الثلاثاء, 27 أبريل 2021 18:51 |
في تأبين الرفيق محمدٌ ولد عابدين المواجهة الشرسة والنصر المؤزر
كانت الضربة الأولى التي سددها النظام للكادحين موجعة جدا، حين أصدر قرارا رقمه 2315 بتاريخ 22 نوفمبر 1972 يقضي بالقبض على جل الصف الأول من قادتهم ونفيهم إلى أقاصي البلاد نصت مادته الأولى على ما يلي: "المسمون 1 دافا باكاري، 2 محمدٌ ولد إشدو، 3 محمدو الناجي، 4 المصطفى ولد اعبيد الرحمن، 5 تراوري لادجي، 6 المصطفى ولد بدر الدين، تم وضعهم تحت الإقامة الجبرية لمدة ستة أشهر؛ وذلك في الأماكن التالية: بير أم اغرين الولاية 7 بالنسبة للأول، عين بنتيلي الولاية 7 بالنسبة للثاني، باسكنو الولاية 1 بالنسبة للثالث، ولاته الولاية 1 بالنسبة للرابع، تيشيت الولاية 5 بالنسبة للخامس، تامشكط الولاية 2 بالنسبة للسادس، وذلك ابتداء من تاريخ هذا القرار". وقد تم القبض على خمسة من المعنيين ونفيهم، واختفى واحد منهم هو رقم 2. ولم يقف الأمر عند ذلك الحد؛ بل جَنَّدَ في صفوف الجيش قادة اتحاد الطلاب والمتدربين الموريتانيين (U.G.E.S.M) وشن موجات متتالية على مدى حولين كاملين من الاعتقالات والتعذيب والبحث عن المطلوبين كمثل هؤلاء الذين وردت أسماؤهم كالتالي في أحد أعداد صيحة المظلوم: "الذين يجري البحث عنهم بصورة هستيرية هم: محمد الأمين ولد يحي (طالب) الطالب محمد ولد لمرابط (طالب) دياغانا يوسف (طالب) الخليل ولد أحمد (طالب) الإمام شريف (طالب) سي هاسمي (طالب) باباكار موسى (طالب) محمدٌ ولد إشدو (حقوقي) وهذه اللائحة جزئية لا تحمل أسماء البحارة الأشاوس المضربين في سجن نواذيبو ولا العمال السجناء أيضا". واكتظ معتقل بيلا سيئ الصيت وغيره من السجون والمعتقلات بالأحرار والحرائر الثوار! وتمت تصفية وطرد كافة أنصار الحركة الوطنية من وظائف الدولة أيا كانت مواقعهم وقذف بهم في الشارع! وفي هذا الوضع المأساوي، كان على "بَيَّادَه" (الاسم الحركي لبَدِّنْ) ومن بقوا طلقاء معه من القادة أن يصمدوا ويقودوا المواجهة ويحققوا النصر! وكان لهم ما أرادوا: فلقد حموا عرينهم وبيضتهم وحافظوا على سلامة وأمن قادتهم وأجهزتهم ورفاقهم المطلوبين؛ وأججوا النضال وخاضوا المعارك اليومية ضد النظام على مدى سنتين (نوفمبر 1972 تاريخ اعتقال ونفي القادة - نوفمبر 1974 تاريخ تأميم ميفرما) ودبروا شؤون من تركوا من حركتهم في العراء! كانت فترة عصيبة جدا، ومع ذلك فلم تتوقف صيحة المظلوم، ولم تتأخر عن الصدور يوما واحدا، وظلت المظاهرات والإضرابات والاحتجاجات وتوزيع المناشير والكتابة على الجدران تجري على قدم وساق في معظم التراب الوطني، ولم يعتقل مطلوب واحد، وتم ابتكار أنواع من التكافل الاجتماعي من بينها فتح مراكز إيواء أهلية معلومة كأهل امَّيَّنْ (أولاد امَّيَّنْ) وأهل اعبيد الرحمن، وأهل بدر الدين، وأهل عابدين. وعلى ذكر مراكز الإيواء وقيادة بدن للكادحين، لا بد من التنويه بدوره ودور أسرته الاجتماعي؛ حيث كانت أقدم وأبرز مراكز الكادحين، وكانت والدته ميمونة بنت أحمد ولد عبيد (رحمهما الله) أم جميع الكادحين، أيا كانوا وأينما كانوا، ليس في منزلها المأوى فحسب؛ بل وفي المفوضيات والمعتقلات، فهي التي تقول عنها شرطة المفوضية المركزية التي كانت المفوضية الوحيدة في العاصمة: "هذه العجوز تدعي دائما أنها أم لجميع الكادحين! ما اعتقلنا أحدا منهم، سواء أكان من مواليد الحوض الشرقي أم أهل الساحل أم أهل تيرس أم أهل آدرار، إلا وجاءتنا تحمل الطعام والملابس النظيفة لتسلمها لأولادها وما أكثرهم...". وهي كانت أول من انتزع الإذن ففك العزلة في الحبس الانفرادي (تبكي وتنوح) عن المناضل الشجاع المرحوم لمرابط ولد حمديت الذي اعتقل بعد رميه البيض وإصابته الرئيس الفرنسي جورج بومبيدو أثناء موكب زيارته الرسمية لنواكشوط؛ ولكي تثبت للجلادين أنها أمه، قامت، على ورعها وحفاظها وحفظها لكتاب الله العزيز، باحتضانه أمامهم! وهي التي أقول في رثائها من قصيدة بعنوان "صلاة الغائب": رحلت ولم تزل ذكراك هــــديا ** ونورا في الزمان وفي المــكان رويدك؛ إن نسينا كيف ننــــسى ** وقوفك في خضم المعــــــمعان تخوضين الصفوف إلى صفوف ** من الأسرى.. وتحيين الأمـاني وكنت "الأم" في زمن عصــيب ** تفر الأم فــــيه من الحـــــــنان فكم آويت منــــــــكوبا شـــــريدا ** وكم نفـــــست أو فرجت عـان وكم أنفــــــقت من مـــــال وجاه ** مدى الســبع الشداد.. أو الثـمان ومنها:
جـــزاك الله عـــــنا كل خـــــير** وأسكــــنك الفســــيح من الجنان (ديوان أغاني الوطن، ص 175 - 182). وإن أنس لا أنس رحلتيْ خروجي من التراب الوطني ودخولي إليه بعد هدوء العاصفة نسبيا! ففي رحلة الخروج كنت بين أيدي رجاله، رجال "المهمات الخاصة" الأمناء يقوم على ضيافتي وأمني وزيرا خارجية هما معالي الوزير حمادي ولد حمادي ومعالي الوزير محمد فال ولد بلال، وكان هو في وداعي حين عبرت النهر فجرا إلى الضفة اليسرى. أما في رحلة العودة فقد استلمني عقب ليل على الضفة اليمنى من يد "الربان" ذي المجداف الذهبي الرفيق لمرابط ولد ابوه شفاه الله وعافاه الذي عبر بي النهر في زورقه الفاره ليلا من الضفة اليسرى! وقد أشرف هو بنفسه على تنظيم رحلتي، وعلى دخولي بأمان مدينة نواكشوط التي تقوم الدنيا ولا تقعد فيها بحثا عني!
|