| ذهابا.. إيابا |
| الثلاثاء, 10 مارس 2015 08:29 |
|
بقلم محمد فاضل سيدى هيبه
بعد الاستيقاظ وتناول وجبة لا يُملّ مذاقها في المطعم الراقي يخرج أحمد للتفرج على المشاهد الساحرة من أبنية تعانق السماء في شموخها وجنّات غنّاء وأسواق تعج بالبضائع الثمينة تقتنيها جموع غفيرة من الزبناء الميسورين. يلقى نظرة رضى على شوارع المدينة الواسعة ودورها الزجاجية الواجهات المتلألئة تحت الشمس كأنما فرَغ من غسلها للتو مطر هطول. يستسلم بلذة إلى الهدوء والسكينة التي تلفّ الأحياء السكنية الراقية، وكل الأحياء في هذه المدينة راقية تزدان دورها بألوان بهيجة وتحيط بها مساحات خضراء منعشة مغطاة بالأعشاب الطرية والزهور الفوّاحة والأشجار الوارفة الظل المتدلية الثمار، وتنتشر فيها المطاعم الفاخرة التي ينبعث منها شذى المأكولات الشهية. أما الفنادق المهيبة - وكلها من خمسة نجوم- فتتمركز في وسط المدينة بمعماره العجيب البارع الهندسة، وبدوائره وتقاطعات طرقه الواسعة التي تعجّ بسيل متدفق من العربات الفاخرة الزاهية الألوان في وهج شمس الربيع، وتنتشر المتاجر ودور الترفيه والاستجمام في تناغم بديع.. وإلى جانبها عديد المدارس والجامعات حيث تدَرّس أنواع المعارف والفنون بلسان عربي مبين وبانفتاح مفيد على لغات العالم المختلفة.. وفي الاتجاهات الأربعة تبرز لأحمد المسكون بتديّن عميق مآذن المساجد الكثيرة التي تخترق الغيوم، وعلى مئات الأمتار الدوائر الحكومية بأبنيتها الفخمة الأنيقة وطراز معمارها الأصيل. وغير بعيد ترتفع مدخنات المصانع مطلة على الميناء الكبير حيث ترسو أعداد من المركبات العصرية بمختلف الأحجام والأشكال، سفن تجارية وقوارب صيد ويخوت مترفة. وعلى الشاطئ الذهبي يتزاحم في صخب مَرِح وسعادة بادية جموع من المصيّفين من مختلف الأجناس والألوان والأعمار. سكان "وانوط" كما خبرهم أحمد مسلمون مسالمون تطبعهم الأخوة والانسجام، مظهرهم مثل المحيط حولهم نظيف وأنيق، وجوههم مستبشرة يتقلبون في رغد العيش لا يصيبهم من الأسقام إلا الخفيف، لا يُعرف فيهم تفاوت في الأحوال.. كلهم في الغنى سواء. حكومتهم لشعبهم وشعبهم لحكومتهم في انسجام تام واحترام متبادل. الهدوء والنظام يطبعان حياتهم وعملهم. شرطتهم لا وظيفة لها إلا تنظيم المرور. ليس في المدينة سجون لأن العدل والمساواة والسلم تعمُّ وتسود، ولا تعرف ساكنتها رهقا ولا مشقة.. إلا في اثنتين، العلم والعمل. تناهى إلى أذنيه صوت كأنه ينبعث من بئر عميقة، وصدى يتبعه يلحُّ عليه للعودة إلى عالم مألوف.. لينسلخ ببطء وتحسُّرٍ من بحار من الأنوار المشعة الجميلة والألوان الزاهية غاص فيها لمدة لا يعرف هل كانت لحظة أو سنين. ـ "استيقظ يا أحمد!.. الشمس قد طلعت".. تلسعه "ناموسة" في الفخذ وتزغرد أخرى في أذنه.. "أفِق!".. يشعر بركلة على ساقه.. يدبُّ النشاط ببطء في جسمه.. لكن عينيه ترفضان الانسياق للصوت النشاز.. واللسعة المؤلمة.. والركلة المزعجة.. وتبقيان مطبقتين في مطاردة يائسة لبقايا الأشباح الجميلة الهاربة المتلاشية.. يحملق في الجدار الخشن والسقف المألوف والغرفة المألوفة.. أتفو!.. تكاملت يقظته الآن.. يخرج.. شمس الصيف بدأت ترسل أشعتها الحارقة وغيمة مغبرة تلفُّ المكان.. رائحة نتن لا يمكن تحديدها تزكم أنفه.. كومة من القاذورات بجانبه.. نهيق حمار ينبعث من القرب.. وطابور حُمُر أخَر تجُرُّ "شاريتات" تتهادى وسط فوضى وازدحام عشرات السيارات المتهالكة التي ينبعث من عوادمها دخان وسِخٍ كثيف. يرجع إلى غرفته على عجل، كمن يريد أن يتوارى عن هذا المشهد الصادم.. المألوف.. فوق المنضدة مذياع يبث أنباء الصباح.. "هنا نواكشوط"!.. |
