| أدونيس: هذا هو اسمي (ح 14)* |
| السبت, 30 يونيو 2018 07:24 |
|
"هل المعارضة أن تصارع سياسيا فقط؟"
ولد المعهد كمغامرة أكثر مما هو نتيجة قرار حكومي أو ثقافي. إنه ثمرة جهود مشتركة لمجموعة من الأفراد رأوا أنّ وصول المنشورات المعاصرة إلى الجمهور يستغرق وقتا طويلا فيما بات الباحثون بحاجة أكثر فأكثر إلى مزيد من المادة الأرشيفية المعاصرة. هكذا ولد المعهد بمبادرة من هذه المجموعة وبدعم من مجمل الناشرين الفرنسيين الذين أسهموا في إنشاء معهد ذاكرة النشر المعاصر. وتحديدا في حالة أدونيس الآتي من منطقة مضطربة وبلد غير مستقر كسوريا، وقد كان أرشيفه مشتتا بين الأماكن، وكان لا بد من مكان يحفظه فيه بأمان. ويبدو واضحا من أرشيف أدونيس أنه كان دائم الحرص على حفظ آثار مغامرته الفكرية والشعرية. صحيح أنه رجل من هذا الزمن منشغل بمواجهة قضايا الراهن وأسئلته الحارقة، لكنه أيضا رجل مسكون بهاجس الذاكرة مهتم بمواكبة الأحداث التي عايشها، وتلك التي سبقته أيضا. فالجزء الأكبر من مشروعه – كما نعلم- قام على إعادة قراءة نصوص التراث. وشغله على دراسة أعمال الماضي وإعادة النظر في الموروث والتقاليد من العوامل التي جعلته مهتما بحفظ آثار مسيرته الشخصية. بعد كل رحلة إلى سوريا أو بيروت كان أدونيس يعود بحقيبة ملأى بالأرشيف، ونعرف أن أدونيس ما زال في عز العطاء؛ لذا يأتينا بين الحين والآخر بأرشيفِ أحدثِ إنتاجاته. نحن بلا شك في حضرة أرشيف حي لمؤلف معاصر نابض بالحياة، ولدينا أكثر فأكثر كُتّاب أحياء يأتمنوننا على أرشيفهم، ونحن نفضل أن نرافقهم في مسيرتهم، بدلا من الاكتفاء بمخلفات مغامراتهم المنجزة، وإن كان ذلك شرفا عظيما لنا. وهناك كُتَّاب كثر نسعى لاحتضان أرشيفهم، وللورثة الحرية في اختيار المكان الذي يناسبهم، لكن معهدنا مفتوح لهم، وإنه لشرف عظيم لنا أن نحصل على أرشيفهم. وهناك أيضا عامل أساسي هو أن مختلف المحفوظات تتكامل؛ إذ يلتقي هؤلاء الكتاب بأفراد آخرين هم على صلة بهم. هكذا يلتقي أدونيس بأرشيف جورج شحادة، والأول عرّب أعمال الثاني كما هو معروف. لدينا أيضا فينوس خوري غاتا التي ترجمت أعمال أدونيس إلى الفرنسية. إن عالم الأرشيف كقطعة بازل تتكامل أجزاؤها. كل قطعة تشهد على حقبة معينة، ومع الوقت يكتمل لدينا المشيد ليعكس روح عصر أو مرحلة، لذا يحدث التفاعل بين شخصيات متعارضة كليا؛ فأحيانا تقع على كاتبين لا ينسجم أحدهما مع الآخر، وفي النهاية يتكفل المشهد النهائي الذي تكوّن بمصالحتهما، فكلاهما بات جزءا من هذا المشهد، وأي طرفين متواجهين ينتميان في النهاية إلى الإشكالية نفسها. أدونيس: وجه يافا طفلٌ هل الشجَرُ الذابل يزهو؟ هل تَدخل الأرض في صورة عذراء؟ مَن هناك يرجّ الشرق؟ جاء العصف الجميلُ ولم يأتِ الخرابُ الجميلُ صوتٌ شريدٌ... (كان رأسٌ يهذي يهرّجُ محمولاً ينادي أنا الخليفةُ) هاموا حفروا حفرةً لوجهِ عليٍّ كان طفلاً وكان أبيضَ أو أسودَ، يافا أشجارُه وأغانيه ويافا. تكدّسوا، مزّقوا وجهَ عليٍّ دمُ الذبيحة في الأقداحِ، قولوا: جبّانة، لا تقولوا: كان شعريَ وردًا وصار دماءً، ليس بين الدماءِ والورد إلا خيط شمسٍ، قولوا: رماديَ بيتُ وابنُ عبّادَ يشحذ السّيفَ بين الرأس والرأسِ وابنُ جَهْورَ ميْتُ. لم يكن في البدايهْ غير جذْرٍ من الدمع أعني بلادي والمدى خيطيَ - انقطعتُ وفي الخُضْرَةِ العربيّهْ غرِقتْ شمسيَ الحَضارة نَقّالةٌ، والمدينهْ وردةٌ وثنيّهْ- خيمةٌ: هكذا تبدأ الحكايةُ أو تنتهي الحكايَهْ. والمدى خيطيَ - اتَّصلْتُ أنا الفوهةَ الكوكبيهْ وكتبتُ المدينهْ (حينما كانت المدينة مقطورةً والنواحْ سورُها البابليُّ) كتبتُ المدينهْ مثلما تنضحُ الأبجديّهْ لا لِكَيْ ألأمَ الجراحْ لا لِكَيْ أبعثَ المومياءْ بل لكي أبعْثَ الفروقَ... الدِّماءْ تجمعُ الوَرْدَ والغرابَ لكي أقطَعَ الجسورْ ولكي أغسل الوجوه الحزينه بنزيف العصورْ. بيار: نسجل هذا الحديث ونحن على بركان وحولنا أنهار الدم.. كيف يمكنك أن تصف هذه اللحظة ما سمي الربيع العربي، وهو كابوس أكثر مما هو ربيع؟ أدونيس: أنا شخصيا كنت من البداية – مع كثير غيري- نستبشر خيرا مما سمي الربيع العربي وكتبت أكثر من مقال، وكتابا كاملا بالعربية وترجم إلى الفرنسية وإلى لغات أخرى، لكني كنت دائما أقول: إذا حدث تمرد أو ثورة على وضع قائم فلا بد أن يكون هذا التمرد حاملا قضية كبرى. ينقل المجتمع من وضع مشكو منه إلى وضع أفضل أو أقل بؤسا على الأقل، لكن كما رأينا، بدون نقد أي إنسان أو أي اتجاه، كانت النتيجة عكسية تماما، ورأينا أن ما سمي بالمعارضة ليس إلا الوجه الآخر للسلطات القائمة إذا لم تكن أكثر سوءا. وإذن فما سمي بالربيع العربي إنما كان كارثة على جميع المستويات. بيار: ولكن المطلب الأساسي كان شرعية الحكم والعدالة؛ أليس هذا المطلب كافيا للانتفاض؟
بيار: أنت تقيم في باريس، لديك موطئ قدم في بيروت - مدينتك الثانية- وأعدت بناء بيت في قريتك قصابين، ولكن في النهاية أنت كاتب كوني معروف عالميا معترف به، مسموع في الحواضر الغربية، وخارج المركز الأوروبي. كيف ترد على النقد الذي يوجه إليك أحيانا بأنك تعيش بعيدا عن المعمعة، بأنك لا يلفحك الجحيم العربي في هذه اللحظة. أنت مجرد متفرج؟ أدونيس: للناس الحق في قول ما يشاؤون، لكن لنا الحق أن نتساءل: ما مسوغات هذا الخلط؟ ثم ماذا تعني المعارضة؟ هل المعارضة على المستوى السياسي، أن تصارع سياسيا فقط؟ لكن هل يمكن أيضا أن تصارع سياسيا إذا لم تصارع فكريا؟ هذا الفصل بين ما هو سياسي وما هو ثقافي جزء من مشكلات الثقافة العربية، وجزء من مشكلات السياسة العربية. ليست هناك سياسة في العالم لدى أي شعب يمكن وصفها بأنها عظيمة إذا لم تقم على ثقافة عظيمة. والسياسة العربية غير قائمة على رؤية مهمة ولا على ثقافة عظيمة. معظم القادة العرب لا يستطيعون أن يلقوا خطابا كتب لهم! فلا علاقة للسياسة العربية بالثقافة العربية. إذن أنا لا يمكن أن أكون معارضا على المستوى السياسي البحت. المعارض الحقيقي هو المعارض لثقافة بكاملها، ولقيم بكاملها ولاتجاهات بكاملها. هذا هو النتاج لمن أراد أن يقرأ، فيجد أنني كنت من بين الأوائل من جيلي الذين حاولوا أن يؤسسوا لنقد شامل؛ لا سياسي فقط، وإنما هو ثقافي أيضا. أنا لا أريد أن أرد على أحد، وإنما هذا مجرد إيضاح.
____________ * نقلا عن قناة الميادين. |
