الأسس العلمية لضرورة تدريس العلوم باللغة العربية في المغرب
الاثنين, 03 يونيو 2019 00:55

 

 د. محمد عدنان التازي      

altصراع حاد يجري هذه الأيام في البرلمان حول "مشروع القانون الإطار لإصلاح منظومة التربية والتكوين والبحث العلمي" وأهم نقطة خلاف تتمحور حول لغة تدريس المواد العلمية؛ حيث يتداخل في هذا النقاش ما هو سياسي وهوياتي وثقافي واقتصادي.. إلخ. ولكن الذي يجب أن يحتكم إليه الجميع هو الأسس العلمية التي يجب على أساسها اختيار لغة التدريس بحيث تضمن أعلى مستويات الاستيعاب والتمكن من الخبرات ونشر المعرفة بين أفراد المجتمع وكذا الاستفادة من تجارب الدول المتقدمة التي تملك ناصية العلم.

فمن قراءة عرضية للتجارب الكونية سنلاحظ أن كل الدول المتقدمة تَدرُس سائر العلوم بلغاتها الوطنية، وعلى رأسها الولايات المتحدة الأمريكية وروسيا وأوروبا واليابان والصين وكوريا.. ولا يوجد استثناء لهذه القاعدة التي تشمل الدول القليلة السكان كذلك. وخير مثال على ذلك دولة أيسلندا؛ دولة صغيرة في شمال أوربا لا يتجاوز عدد سكانها 350 ألف نسمة، تدرس كل العلوم باللغة الأيسلندية وتحتل المركز 19 في مؤشر الابتكار العالمي للمنظمة العالمية للملكية الفكرية (المغرب في المركز 84) بينما اللغة الأيسلندية لغة لا يتكلمها أحد خارج أيسلندا ولا ترتقي لمستوى اللغات الكبرى في العالم مثل اللغة العربية. فهل هذه صدفة؟

هناك 19 دولة تتصدر العالم تقنياً يسير فيها التعليم والبحث العلمي بلغاتها الوطنية، كما أن أفضل 500 جامعة عالمية موجودة في 35 دولة كلها تدرس بلغاتها الوطنية، بينما تُعتمَدُ اللغة الإنغليزية أساسا في التواصل العلمي مع الدول الأخرى وفي النشر العلمي. والصِّين التي تعد لغتها مِن اللغات التصويرية البدائية وعدد رموزها يزيد على 47000 (منها 3000 على الأقلِّ تجِب مَعرفتها ليُمكِن التعامُل باللغة الصينيَّة) لم تَقف هذه اللغة عائقًا أمام تعليم كافَّة العلوم بها، ولم يَتذَرَّع أهلُها بصعوبتها، أو عدم قدرتها على مسايرة التطور العلمي والمُصطَلحات العلمية والتقنية. نفس الشيء في دول شرق آسيا الطامِحة للتقدُّم كاليابان وكوريا.. إلخ. حتى الكيان الصهيوني يعتمد تدريس جميع العلوم - بما فيها الهندسة والطب- باللغة العِبريَّة.

ويظهر التصنيف العالمي للإنتاجات الفكرية للدول في مجال الطب للفترة 1996 – 2013 أن أفضل 30 دولة تدرس الطب بلغتها الوطنية، وأن أكثر من 80% من هذه الدول يدرس فيها الطب بلغة وطنية غير الإنغليزية.

كما تجب الإشارة إلى أن دولا مثل ماليزيا والفلبين جربت في لحظة من الزمن التدريس باللغة الإنغليزية (لغة العلم الأولى في العالم) أملا في مزيد التقدم العلمي والنمو الاقتصادي، فماذا كانت النتيجة؟

في ماليزيا، وبعد بعد 6 سنوات من مشروع تدريس العلوم باللغة الإنغليزية قررت الحكومة إيقاف التجربة والعودة إلى التدريس باللغة الماليزية (المالوية) حيث بينت الدراسات التي أجريت على أكثر من 10 آلاف مدرسة فشل التجربة وأن التدريس بالإنغليزية أدى إلى تدهور مستوى الطلبة على المدى البعيد، وتدهور في مستوى أدائهم في الرياضيات.

في الفلبين تراجعت وزارة التربية والتعليم عن التعليم ثنائي اللغة بعد 37 عاما من تطبيقه، وجعلت اللغة الأم لغة تدريس جميع المواد الدراسية التي كانت تدرس باللغة الإنغليزية.

بعض الدول العربية قامت بدراسات حول هذا الموضوع وكانت نتائجها جد متشابهة، من بينها مقارنة بين تدريس الطب بالعربية والإنغليزية في كليات طب سعودية، بينت أن الطلبة الذين يدرسون باللغة العربية أسرع قراءة بـ43% وأقدر على الاستيعاب بـ15% مع زيادة المشاركة أثناء المحاضرات، وزيادة في نسبة التحصيل العلمي بـ66% مقارنة بالطلبة الذين يدرسون باللغة الإنغليزية. وبالتالي فالتدريس بالعربية يؤدي إلى توفير مهم للزمن الدراسي (القراءة والكتابة) مع زيادة الاستيعاب للمعرفة عند الطالب.

نتائج مماثلة بكلية الصيدلة بجامعة القاهرة، حيث يتحدَّث الدكتور عبد الملك أبو عوف، الأستاذ بهذه الكلية، عن تجرِبته حين انتُدب لتدريس الكيمياء العضوية بجامعة دِمَشق، بالقول: "ما أحبُّ أن أركِّز عليه هو حُسن النتائج التي أحرَزها الطلاب السوريون الذين يدرسون بالعربية، بالنِّسبة لنتائج أقرانهم طلاب كلية الصيدلة بالقاهرة الذين يدرسون بالانغليزية، وكثافة التَّحصيل وحُسن الاستيعاب الذي توصَّلوا إليه، لأنَّ تفهُّم الطالب للغة المُحاضَرة وشرْحها، كان يُعفيه مِن بذْل مَجهود مُضاعَف يَنصرِف نِصفُه لفهْمِ اللغة، والتعرُّف على المُفرَدات الصَّعبة في اللغة الأجنبية التي يدرس بها، ويَنصرِف النِّصف الآخَر مِن الجهد لاستيعاب المادَّة العلميَّة نفْسِها".

أما في المغرب، فقد عقدت الجمعية المغربية للتواصل الصحي سنة 2014 مؤتمرا بكلية الطب والصيدلة بالرباط للإجابة على سؤال: بأي لغة يجب تدريس العلوم الصحية؟ وقد استدعت إليه خبراء مغاربة وعربا، وحضرته مجموعة من عمداء كليات الطب والصيدلة وطب الأسنان ووزير التعليم العالي والبحث العلمي، وكانت من أهم توصيات هذا المؤتمر: ضرورة تدريس العلوم الصحية باللغة العربية لتمكين الطلبة من أعلى مستويات التحصيل والاستيعاب لتخصصاتهم، إلى جانب دعم تدريس اللغة الإنغليزية في كل المستويات من الابتدائي إلى المستوى الجامعي حتى يتمكن مهنيو الصحية من الانفتاح على العالم في هذا المجال.

وكما هو معلوم، فإن اللغة الإنغليزية هي لغة العلم الأولى في العالم من حيث الإنتاج العلمي وفي مجال التواصل العلمي (مؤتمرات، ندوات..) وبالتالي يعتقد الكثيرون أن الدول المتقدمة تدرس العلوم باللغة الإنغليزية، وهذا من بين المغالطات الشائعة؛ بل الحقيقة أن الدول المتقدمة تدرس العلوم بلغاتها الوطنية لا بالإنغليزية، والتي تدرس بالانغليزية فلأن الإنغليزية هي لغتها الوطنية، مثل بريطانيا والولايات المتحدة واستراليا.

كذلك هناك من يقول إن تدريس العلوم بالعربية أمر صعب لعدم وجود المصطلحات العلمية بالعربية، وهذا من المغالطات الشائعة كذلك؛ حيث ما يجب معرفته: أولاً أن نِسبة المُصطَلحات العلمية في الكُتب والمقالات العلميَّة حوالي3% في المتوسط من مجموع الكلمات أما 97% الباقية فهي لغة أدبية عادية، وثانيا أن جُل المصطلحات العلمية التي قد يحتاجها المتعلم من المستوى الابتدائي إلى الجامعي متوفرة باللغة العربية. يكفي أن نشير هنا إلى ما يقوم به معهد تنسيق التعريب في هذا المجال، حيث أنتج أكثر من 40 معجما تحتوي على أكثر من 100.000 مصطلح (عربي إنغليزي فرنسي) متفق عليها في مختلف التخصصات العلمية، وكذا المعجم الطبي الموحد، الذي أنتجته منظمة الصحية العالمية؛ والذي يوفر عشرات الآلاف من المصطلحات الطبية باللغة العربية.

إن صرَف التَّدريس باللغة العربيَّة في المجالات العلميَّة إلى لغة المُستعمِر الأجنبيِّ (الإنغليزية في المَشرِق، والفرنسيَّة في المَغرِب) لَمِن أبرز رواسِب الاستعمار في الدول العربية؛ فالتعليم العالي في الدول العربية – والذي قطَع أشواطًا بالتدريس باللغة الأجنبيَّة- هل يُضاهي نظيره في الغرب أو بعض الدول الإسلامية المُتقدِّمة؟

وبالتالي فإن فرنسة تدريس العلوم بالمدرسة والجامعة في المغرب غير مبنية على حجة علمية؛ بل البحوث العلمية تؤكد تفوقَ اللغة الوطنية في التعليم، وقد سبق أن أوصَتِ اليُونِسكو باستِخدام اللغة الوطنية في التعليم إلى أقصى مَرحلة مُمكِنة. كما أن الاعتراض على تعريب العلوم لا يعدو أنْ يكون مُشكِلة مع ذاتنا التي لم تتخلص من تَبعيَّتها النفسيَّة للمستعمر، ومن شُعورها بدُونيَّة اللغة العربية مقارنة مع لغة المستعمر. وقد قال ابن خلدون: "إن النفس أبداً تعتقد الكمال فيمن غلبَها وانقادَت إليه، إما لنظرةٍ بالكمالِ بما وقرَ عندها من تعظيمِهِ، أو لما تُغالَطُ بهِ من أن انقيادَها ليس لِغُلْبٍ طبيعي، إنما هو لكمالِ الغالبِ".

إن اللغة العربية، المُفتَرى عليها ظلما بالعجز عن استيعاب علوم العصر، تعد حاليا اللغة الثالثة عالميا من حيث استعمالها (بعد الإنغليزية والصينية) والأولى في البحر الأبيض المتوسط، من حيث عدد الناطقين بها، والأولى في إفريقيا، حيث يتكلمها ثلث سكان القارة، وهي اللغة الرابعة على الإنترنت في 2018، وتتميز بغنى معجمها اللغوي الذي لا تضاهيه أية لغة أخرى في العالم، ولها قدرة اشتقاقية ضخمة لا مثيل لها في غيرها.. فكيف تعجز هذه اللغة عن استيعاب المفاهيم العلمية.

كما أن الدعوة لتدريس العلوم في جامعاتنا باللغة العربية لا تتعارض مع الدعوة الى تعلم اللغات الأجنبية (وخاصة الإنغليزية والفرنسية والإسبانية) بل واجب وضرورة من أجل الانفتاح على الآخرين ومن أجل التواصل العلمي.

لن يُصبِحَ العِلمُ جزءًا مِن ذاتنا، إلا عِندما نُفكِّر فيه بلُغتنا ونُطوِّره بلُغتنا، والمجتمع الذي يَستعير لغةً أجنبيَّة لتكون لغته العلميَّة لن يتفاعل أبناؤه مع العلوم أَخذًا وعَطاءً.

 

(عن "العمق" المغربي)

فيديو

فيديو

فيديو

فيديو

فيديو

فيديو

فيديو

الآن في المكتبات

فيديو

المتواجدون الآن

حاليا يتواجد 2 زوار  على الموقع