الزوايا"و"لمعلمين".. وحتمية تجاوز إرث الماضي
الثلاثاء, 31 ديسمبر 2013 09:12

 

altبلقم: أحمد ولد السالم

هذا البريد الإلكتروني محمي من المتطفلين و برامج التطفل، تحتاج إلى تفعيل جافا سكريبت لتتمكن من مشاهدته

أثار المقالان اللذان كتبهما الأخ والناشط الحقوقي عبد الله ولد آلويمين مؤخرا، وكان عنوانهما على التوالي: "ذنوب الزوايا ونبل لمعلمين" و"لمعلمين وجحيم المجتمع النازي" أثارا-موجة من ردود الأفعال المتباينة أمكنني رصدها بوضوح من خلال مسارين اثنين:أولهما بريدي الالكتروني الذي تلقى كما من الأسئلة كان أبرزها السؤال عن موقفي الشخصي والطيف الذي أمثله مما أثاره الكاتب من آراء.

وأما المسار الثاني (وهو الأهم في نظري) فهو الفضاء الافتراضي لشبكة التواصل الاجتماعي (الفيس بوك) حيث أمكنني رصد حجم الانقسام الواضح لرواد هذه الشبكة ما بين مؤيد متشدد ومعارض متطرف؛ في حين غاب بالكامل أنصار المنطقة الرمادية أو الوسطى، ما عكس لي بوضوح حالة من الاستقطاب والتخندق غير الحميد، وهذا أمر مؤسف ومخجل ولا يبشر بخير في بيئة يفترض في روادها أنهم من المتعلمين ونخبة المجتمع.إن الرأي يجب أن يقابل بالرأي والحجة بمثلها. وإن أي رأي - مهما بلغت درجة تشدد صاحبه وتطرفه- لا بد أن يؤخذ منه ويرد وفق قاعدة الإمام مالك بن أنس رحمه الله، من خلال فهم وتفهم ما بين سطوره وتلمس مواطن أوجاع صاحبه والبحث الموضوعي عن دواعي سخطه وثورة غضبه..مع الأخذ في الاعتبار أن لصاحب الحق مقالا.

لقد أثار الكاتب جملة من الحقائق والوقائع المريرة والمؤلمة جدا، وتكلم بمرارة وجرأة لا مثيل لها عن نكبة شريحة ضعيفة مسلمة ومسالمة ومبدعة استهدفت في عرضها وكرامتها ودينها وكينونتها، فلم يشفع لها دينها الذي به اعتصمت وفي تعاليمه نبغت، ولا صناعاتها التي فيها أبدعت وأعطت وما بخلت.. والأدهى من ذلك والأمر أنها أوتيت من مأمنها فانهالت عليها سهام الغدر والخيانة من حيث لم تحتسب؛ فكان هذا الإرث الثقيل من الظلم والحيف والكراهية الذي بدأت شرارة بركانه تتطاير منذرة بتفجره بعد أن ضاقت به الصدور وملت النفوس وكلت من تحمل عذاباته ومراراته. لقد تلكأ الجميع - دولة ونخبا ومجتمعا- في إخماد ثورة بركان غضب هذه الشريحة بعد أن أيقنوا خطأ أنها حديقتهم الخلفية وأنها بالتهميش والازدراء راضية مرضية، لذلك لم يُبذل أي جهد من أجل إطفاء نار بركان غضبها الدفين أو تبريده وتحييد مفاعيله من خلال التبكير باتباع مقاربة شاملة عاقلة وفاعلة تصحح الصور النمطية المسيئة الهاجعة بقوة في العقول المريضة، وتُعلي من شأن ومفهوم المواطنة لتضمد بذلك جراح المظلومين وتشعرهم بأن في الوطن عقلاء ومؤمنين ومنصفين.. وأن طريق المعاناة - وإن طال- فله نهاية، وأن ثمة ضوءا في نهاية النفق..وأن عقود التخلف والكراهية والعار يمكن تجاوزها ومحو آثارها وتحويلها إلى مجرد ذكريات عابرة تتسلى بها العجائز في الليالي الباردة لترحل وتدفن معها في ذات النعش، لتعيش الأجيال الجديدة كريمة متآخية ومتماسكة وقد تحررت من ربقة الكراهية وسطوة الخرافة.

 لقد تعمد ولد آلويمين رمى حجر في قعر بركة راكدة آسنة، ودفعته جرأته إلى الغوص عميقا في العالم السفلي لمجتمع البيظان؛ فخاض وصال وجال في المسكوت عنه في العرف الاجتماعي، وهو ما شكل - من وجهة نظر المناصرين- جرأة مطلوبة وتنفيسا ضروريا عن حالة حادة من الاستياء والغضب ظل مكبوتا لعقود من الزمن اتجاه شريحة الزوايا على وجه التحديد، فيما رأى آخرون في الأمر تطاولا متعمدا وغير مبرر نال من شريحة اشتهرت بالنبوغ في العلم وحمل لواء الإسلام.

وإزاء هذا الانقسام الواضح والتضارب في الآراء وتوجس بعض الخائفين على الوحدة الوطنية من أن يكون حراك " شريحة لمعلمين "، الذي بدأ يتعاظم، يشي بقرب دق مسمار جديد في جدار الوحدة الوطنية ونذير شؤم بدنو انفراط عقد مجتمع البيظان بعد أن انفض عنه أهم مرتكزات قوته (شريحة لحراطين) بسبب الممارسات الخاطئة أيضا، إزاء كل ذلك برزت الحاجة لتوضيح بعض الأمور ووضع مجموعة من النقاط على الحروف حتى نحدد معالم الطريق الذي عليه نسير، وحتى لا يحيد القطار الحقوقي لهذه الشريحة الكريمة عن سكته فينحرف به طاقمه عن مساره الطبيعي والسلمي إلى مسار آخر تُجهل نهاياته ومآلاته، إذ لا يصح ولا يستقيم أن نتحول من طلاب حقوق إلى دعاة فتنة، ومن مظلومين إلى ظلمة نستعمل نفس الأدوات ونمارس نفس الممارسات التي ندينها ونناضل من أجل إزالة آثارها ومحو مخلفاتها.

إن مبادئ الدين الذي به ندين ومنطق العدل والإنصاف الذي إليه ندعو يفرضان عليَّ هنا أن لا أحابي أحدا ولا أجامله ولو كان ذا قربى {وإذا قلتم فاعدلوا ولو كان ذا قربى وبعهد الله أوفوا ذلكم وصاكم به لعلكم تذكرون} مع علمي بان البعض من رفاق النضال الحقوقي قد تساورهم بعض الشكوك فيظنون خطأ أني قد حدت عن الطريق وتخليت عن القضية وليس الأمر كذلك، بل العكس هو الصحيح. فحين نقول للمخطئ منا أخطأت ففي ذلك نصرة له وللقضية، فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: «انصر أخاك ظالما أو مظلوما» قيل: عرفنا كيف ننصره وهو مظلوم فكيف ننصره وهو ظالم؟ قال: «تحجزه (أو تمنعه) من الظلم، فإن ذلك نصره» ومن هذا المنطلق فليسمح لي هنا أخي الكريم والناشط الحقوقي الكبير عبد الله ولد آلويمين الذي أجله وأقدر صدق نواياه في أن اختلف معه جذريا في مسألتين اثنتين:

أولاهما حدة خطابه الذي كاد أن يجنح إلى التشدد والغلو بسبب عظم مصابه وعمق جرحه، والمسالة الثانية هي وقوعه - عن قصد أو عن غير قصد- في فخ التعميم وورمي مكون بأكمله عن قوس واحدة، وهذا لا يليق بكاتب مثله وحقوقي في وزنه؛ إذ تقتضي الموضوعية التفريق بين الصالح والطالح والعادل والظالم والمنصف وغير المنصف، إذ لا يخلو أي مكون أو شريحة من أن تضم بين صفوفها كل صنوف الخير والشر، وتلك سنة الله في خلقه {ولن تجد لسنة الله تبديلا ولن تجد لسنة الله تحويلا} ومن ثمة كانت تقتضي المصلحة كسب الفريق الأول وتعرية الثاني من خلال توجيه سهام النقد له فحسب.

صحيح أن فئة قليلة من الزوايا اختارت قديما أن تبيع الآخرة بعرض من الدنيا والحق الأبلج بالباطل الأعرج؛ فقررت - بعد أن أعماها التعصب وحجبت الكراهية عن بصرها وبصيرتها نور الحق- أن تصبح خصما لدودا وسيفا مصلتا على رقاب شريحة بأكملها، بعد أن رأت في فقهائها وعلمائها منافسا ومزاحما لها غير مرحب به في سلطتها الروحية التي سعت إلى احتكارها والظفر بامتيازاتها وثمارها ومنافعها الدنيوية والأخروية، فراحت تلك الأقلية المتعصبة تنسج من وحي خيالها الخصب الأحاديث المكذوبة على رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا خير في الحداد ولو كان عالما" وتنظم أراجيفها في أراجيز شعرية:

شهادة القين ترد سرمدا             والمقتدي به يعيد أبدا

وتوزع الفتاوى المجانية، وتدس في السيرة النبوية: (كقولها إن من كسر رباعية النبي - صلى الله عليه وسلم- في غزوة أحد هو "امعلم"!!).. مستخدمة كل أنواع الأسلحة وكل ما من شأنه أن يقوي حجتها ويقوض جهود الآخر بهدف وضع حد لطموحاته ونسف أية إمكانية لنجاح مسعاه، فكان أن تلقف الجهلاء من الشرائح الأخرى تلك المزاعم والفتاوى والأباطيل والخزعبلات - باعتبارها جزءا من الدين - ليستخدموها سلاحا مدمرا في وجه شريحة بأكملها، كان كل ذنبها أنها أرادت أن تحيا حياة كريمة فتجمع بين فضيلة العمل وشرف تحصيل العلم، لتزاوج بين ما هو نافع دنيويا وأخرويا؛ معتمدة على الله ثم على نفسها، فكان التحدي صعبا والثمن باهظا.

لكن، وفي مقابل تلك الأقلية الظالمة، انبرى علماء شناقطة أجلاء كثيرون من الزوايا مدافعين عن شريحة رأوا فيها الخير والصلاح والنفع الوفير للمجتمع، فذادوا عن أعراضها وحموا بيضتها وأصدروا الفتاوى الصريحة التي دحضت تلك المزاعم وفضحت زيفها وسوء طوية أصحابها.. كالفتوى الشهيرة التي أطلقها العلامة الكبير سيد أعمر ولد شيخنا الكنتي وأوردها المختار ولد حامدٌ في موسوعته (ص 104 – 105)يقول العلامة سيد أعمر ولد شيخنا الكنتي: "وما ذكر عن الحدادين بديهي البطلان؛ إذ من المعلوم أنهم لا يرجعون إلى أب واحد، وإنما جمعتهم الحرفة، فمنهم من هو شريف الأصل، ومنهم من هو عربي محض، والظاهر من حال أكثرهم أنه من السودان. وفيهم أئمة وأفاضل، وعوامهم كسائر العوام؛ بل هم خير من كثير، فمن نسبهم إلى الرق أو الشؤم أو أبطل شهادة من ظهرت عدالته منهم أو منع إمامته ضل وكذب وقال ما لا علم له به ولشيخنا جد الوالد كلام في كتبه استدل به بعض الجهال لهذا السؤال ولا حجة له فيه".

إن هذه الفتوى المهمة من هذا العالم الجليل المتوفى عام 1930متعكس ثلاثة عناصر أساسية يمكن التوقف عندها؛ فهي تعكس أولا - وبشكل واضح- شدة الهجمة الشرسة التي كانت تتعرض لها هذه الشريحة من متطرفين من الزوايا كقوله: وما "ذكر" عن الحدادين بديهي البطلان. وكقوله: فمن نسبهم إلى "الرق" أو "الشؤم" أو "أبطل"شهادة من ظهرت عدالته منهم أو "منع إمامته"ضل وكذب و"قال" ما لا علم له به !

والعنصر الثاني الذي يمكن التوقف عنده أيضا في هذه الفتوى هو قوله: "وفيهم أئمة وأفاضل"وهما صفتان لا تنالان إلا بعد بلوغ أعلى درجات العلم والاستقامة. وهذه الشهادة الصادرة عن هذا العالم الكبير تؤكد وجود عنصري النبوغ والمنافسة التي كانت سببا في هذه الهجمة، والعنصر الثالث الذي تفيده هذه الفتوى - أو الوثيقة- المهمة جدا هو وجود علماء كبار منصفين كهذا العالم الجليل الذي عارض هنا فتوى جده، التي استغلت من قبل الجهلاء كما قال، بقصد الإساءة إلى هذه الشريحة. وهذا ما أردت التأكيد عليه هنا.

 ومن العلماء الكبار المنصفين أيضا العلامة البارز سيدي عبد الله ولد الحاج إبراهيم العلوي رحمه الله، الذي ناصرهم حتى أنه قام بتزويج إحدى بناته من أحد طلابه المنتمين لهذه الشريحة بعد أن توسم فيه العلم والاستقامة؛ لينسف بذلك مقولة عدم الكفاءة الاجتماعية والدينية.

ومن العلماء المعاصرين المنصفين العلامة الحاج ولد فحفو الذي اختار - وإلى اليوم- احد علماء هذه الشريحة نائبا له في مسجده يخلفه في غيابه وعند مرضه؛ ناسفا بذلك قول من يزعم بطلان الصلاة خلف إمام منهم.

هذا بالإضافة إلى بعض المواقف الاجتماعية العظمية والمنصفة التي جاءت مناصرة لأسر من الشريحة بعينها. من ذلك - على سبيل المثال- ما يعرف على نطاق واسع في منطقة آفطوط بولاية لعصابة برحلة "ما تقدر" التي جاءت انتصارا لرجل معروف من الشريحة اعتدي على أحد أبنائه وسلبت منه راحلته من قبل زعيم إحدى القبائل الحسانية المجاورة خلال حقبة "السيبة" فقررت عشيرته ترك تلك القبيلة التي كانت ترتبط معها بحلف، وارتحلت لأكثر من ثلاثة أيام متواصلة قطعت خلالها عشرات الكيلو مترات وسميت برحلة " ما تقدر"نصرة لأحد أبنائها وهذه العبارة في حد ذاتها تعكس الكثير من معاني الوفاء والعزة وموقف نبيل لا ينسى.

وفي أيامنا هذه لا يستطيع أحد أن ينكر مواقف علماء بارزين ومثقفين يشار إليهم بالبنان من مسألة الظلم الذي لحق بشريحة "لمعلمين" فهذا الشيخ محمد ولد سيدي يحيى الذي يستحق منا أن نلقبه بـ"عالم الضعفاء ونصير المستضعفين" لما اشتهر به من الذود والدفاع الحازم عن أعراض الشرائح الموريتانية المظلومة وتحميله من أسماهم بعلماء "بنافه" مسؤولية ذلك قديما وحديثا، لقد أفرد شريطا كاملا للدفاع عن "لمعلمين" و"لحراطين"مؤكدا فيه كفاءتهم الدينية والاجتماعية. يباع هذا الشريط في الأسواق تحت عنوان "شريط العنصرية" وقد أفتى فيه بعدم جواز الصلاة خلف من يزعم أن "لمعلمين" و"لحراطين" لا تصح إمامتهم لكونه عنصريا ويفتري على الله الكذب. ثم من ينكر مواقف الشيخ محمد الحسن الددو حفظه الله والشيخ محمد ولد آبواه، الذي سبب له دفاعه عن "لمعلمين" متاعب مع وسائل الإعلام الرسمية. وكذلك الصحفي الكريم محمد لمجد الذي تعرض لتهميش الإعلام الرسمي بسبب جرأة طرحه، وكيف ننسى المواقف المناصرة والمؤازرة للأستاذ الكبير والمحامي البارز محمدٌ ولد إشدو الرئيس الشرفي لمنظمة "إنصاف" الذي أعلن انضمامه لها من أول يوم، وهو يحرص على حضور جميع أنشطتها الإعلامية والتحسيسية مدافعا ومنافحا عن حق هذه الشريحة في الإنصاف والعيش الكريم على هذه الأرض.

إن علينا جميعا أن نعمل على تجاوز إرث الماضي بكل مآسيه ومراراته والتطلع إلى المستقبل بروح غير انتقامية كي لا نوسع الفجوة من حيث أردنا ردمها أو تضييقها ولا ننكأ جرحا نسعى إلى علاجه، ولن يتم ذلك إلا من خلال نهج مقاربة عاقلة وراشدة تقوم على المزاوجة بين الحزم في طلب الحقوق وعقلانية الخطاب مع التشبث بالصبر وطول النفس، فذلك وحده ما يضمن لنا ربح معركة استمالة القلوب وكسب المزيد من الأصدقاء والمتعاطفين الخيرين من نخب شعبنا الدينية والثقافية والسياسية الحقوقية.

 إن قضية شريحة "لمعلمين" رغم آلامها وآثارها النفسية والاجتماعية والاقتصادية والسياسية والاجتماعية المدمرة، لم تأخذ يوما – من وجهة نظري-طابعا عنصريا واضحا ولا بعدا استرقاقيا؛ لذا لا يمكن إخراج حلها عن سياقه الاجتماعي وإطاره المحلي، فنحن لسنا أقلية أو عرقا قائما بذاته له خصوصياته الثقافية أو السوسيولوجية أو الدينية.. وليس من مصلحتنا محاولة تجذير ذلك وترسيخه، وإنما نحن جزء من أمة وحدها الإسلام، وشريحة أصيلة من شرائح مجتمع البيظان الذي وإن كنا نحترمه ونجله ولا نسعى للإضرار بوحدة نسيجه أو الانسلاخ عنه، فإننا بالمقابل لن نقبل بعد اليوم بظلمه وتجبره وغطرسة سياساته وتخلف عقلياته المجافية للدين الإسلامي الحنيف ومبادئ الديمقراطية وحقوق الإنسان.

 

فيديو

فيديو

فيديو

فيديو

فيديو

فيديو

فيديو

الآن في المكتبات

فيديو

المتواجدون الآن

حاليا يتواجد 9 زوار  على الموقع