| أدونيس: هذا هو اسمي (ح 7)* |
| الجمعة, 25 مايو 2018 08:01 |
|
الشعر يتخطى التاريخية الزمنية ويخاطب الزمن المطلق
أدونيس: كتبتها في أواخر أيامه، قبل مرضه بالسرطان، وكنت في باريس. بيار: "يوسف.. كنا في حلم حقا، نوحد بين الأطراف ولا نعرف أين تنتهي حدود أشواقنا. لم يغلبنا مرة هَمُّ المادة، أو هَمُّ العيش، كان هَمّنا الأساس أن نكتب، وأن نغير لغة الكتابة وأفق الكتابة. كنا مأخوذين كليا بشيء آخر؛ التأسيس لحقوق أخرى، حقوق الحلم والحب، الرغبة والمخيلة؛ إذ ما معنى أن تكون لنا الحقوق التي تقتضيها مدينة العيش – على افتراض وجودها- وليست لنا الحقوق التي تقتضيها مدينة الكتابة؟! إن نجاحنا شعريا مدين في الأساس – ويا للمفارقة- لهامشيتنا". هل تحس.. وخصوصا بعد ما أنجزت جزءا كبيرا من مشروعك، أن فكرة النخبية.. أدونيس كاتب نخبي ومفكر نخبي وشاعر نخبي. وأنتم هنا كنتم هامشيين منذ البداية! أي على هامش المجتمع، على هامش نظام القيم ونظام الثقافة الرسمية؟ أدونيس: هذا كان شعوري شخصيا، وهو عند يوسف وعند أنسي الحاج كان أكثر. كنا هامشيين. كان ينظر إلينا بوصفنا هامشيين، لا بهذا المعنى الشعري فقط؛ كنا هامشيين بالمعنى الوجودي. كان ينظر إلينا كنتوء غير صالح في جبل جميل اسمه الثقافة العربية. وإذن لا بد من القضاء على هذا النتوء. وتجلى هذا – مع الأسف- عند الأحزاب القومية والأحزاب اليسارية الشيوعية. بيار: صارت الأجيال تعتبر"شعر" المنارة والمرجع الذي تعود إليه دائما. حتى على مستوى المواقف. أدونيس: صحيح.. حسنا أن معظمهم وصل إلى هذه القناعة. بيار: إذا أردت التلخيص ما هو الفراغ الذي أكملَتْه (شِعْر) في الثقافة العربية؟ أدونيس: كل معنى مجلة "شعر" أنها أسست لمشروعية التعبير بحرية. مشروعية خلق الأشكال. وأعتقد أن هذه المشروعية قائمة على خلق الأشكال إلى ما لا نهاية. وهذا إلغاء المعاني المسبقة.. المعنى يولد ولا يفرض. أظن هذا أهم شيء. طبعا للوصول إلى هذه الممارسة لا بد من حرية داخلية، وإذن حرية التعبير ضمن حدود اللغة لا حرية الوجود، لأن المجتمع العربي كله لا توجد فيه حرية وجود. لا توجد فيه حرية حرة كما كان يعبر رامبو. أظن هذه أهم ميزة لها. لم يعد أحد يتردد في الكتابة الشعرية خارج الأوزان التقليدية العربية. كسر الأوزان نهائيا. بيار: أعطت الشرعية لقصيدة النثر. أليس كذلك؟ أدونيس: نعم. بيار: هل رسخت مفهوم الحداثة في ثقافتنا ووعينا العربي؟ أدونيس: لا، أثارت مفهوم الحداثة؛ فحتى تؤسس مفهوم الحداثة عليك أن تغير مؤسسات التربية. على هذا المستوى لا توجد الحداثة في المجتمع العربي. بيار: الثقافة على هامش المؤسسة التي نحن نعايشها وأفراد كثير كذلك. أدونيس: أفراد لا مؤسسات. بيار: لكنها قيمة موجودة نراها وإن لم نلحق بها. أدونيس: لكن هذا العالم المكون من أفراد لم يتمأسس؛ لا في المدرسة، ولا في الجامعة. لا يتغير المجتمع، ولا تتغير ثقافته إذا لم تتغير المؤسسة في المجتمع، وتبدأ بالتربية والمدرسة والجامعة. والتربية والمدرسة والجامعة لا تزال تسير في أفق التقليد وما هو قديم. بيار: هل هذا ما تسميه بإيجاز فشل مشروع الحداثة العربية؟ أدونيس: طبعا. بيار: حتى إنك دعوت إلى التأسيس لحداثة ثانية. أدونيس: كل ذلك كان تحريضا على أنواع جديدة من الكتابة، لأنه يجب التخلي عن الموضوعات. لا أحد يبتكر البطولة، لا أحد يبتكر الموت، لا أحد يبتكر الهم أو الحزن. هذه قضايا موجودة من بداية البشرية حتى اليوم. والخلاصة أن الشعر يجب أن يتوقف عن الكتابة عن الحب بشكل عام كما كان يكتب العرب حتى الآن. الحب، البطولة، الثورة، المقاومة.. اكتب لي عن تجربتك في الثورة، اكتب لي عن تجربتك الشخصية في المقاومة. لا أن تأخذ المقاومة كأنها موضوع إنشاء فتمدحها وتهجو العدو كأنك وحدك في مقامك التقليدي القديم. هذا هو ما خلقته مجلة "شعر" لا تكتب لي عن الحب فلا يوجد حب! يوجد حب الشخص المعين لامرأة معينة. اكتب عن هذا الحب الشخصي المحدد. ولا أحد يفعل! اقرأ كل ما كتب عن الحب في العالم العربي الحديث وسترى أنه واحد، لم يكن هناك بشر وتجارب حياة وعذاب أو غير عذاب.. إلى آخره. بيار: هنا سؤال عن مجلة "شعر" له علاقة بشعراء المقاومة. في مرحلتها الأخيرة كان محمود درويش قد بدأ يظهر ويكتب وهناك غيره من شعراء المقاومة. هل تعني أن الكل لم يأخذوا محلهم بشعر صحيح؟ أدونيس: عملنا عددا عن المقاومة في الشعر الجزائري والثورة الجزائرية، وكان هذا بداية اهتمامنا بما يتعلق بفلسطين.. لكنا كنا نرى الشعر الفلسطيني جزءا من الشعر العربي، ولم نكن نعطيه هذا المعنى الذي يعطى اليوم.. شعر المقاومة. شعر يتناول قضايا وطنية عامة، لكنا أصدرنا عددا خاصا عن شعر الثورة الجزائرية وأعتقد أنه كان عددا مهما. كنت في باريس آنذاك، واتصلت بمعظم الكتاب الجزائريين، وفي طليعتهم كاتب ياسين، ومحمد ديب، ومولود معمري.. وغيرهم.
أدونيس: نحن كنا نبحث دائما.. كانت المجلة رغم الهجوم الذي وجه إليها والعداء الذي حوصرت به والمنع الكامل لها من مختلف الأنظمة العربية، كانت ظاهرة جريئة جديرة بالدراسة على حدتها! كيف تمنع مجلة شعرية! كانت تهرّب. وكنا ننشر لجملة من الشعراء من جملتهم بدر شاكر السياب الذي كنا نتواصل معه بواسطة صديق يعيش في بغداد؛ هو جبرا إبراهيم جبرا. كان الاتصال بشعراء العراق أسهل بفضل جبرا إبراهيم جبرا. حتى إننا نشرنا لنازك الملائكة أيضا، ولبلند الحيدري، ولمعظم شعراء العراق آنذاك. اتصلنا به وقلنا له: أقنعنا أحد الأصدقاء بأن يؤسس جائزة للشعر باسم مجلة "شعر" وأظن الجائزة كانت عشرة آلاف ليرة لبنانية آنذاك، وهو مبلغ لا بأس به في ذلك الوقت. وقررنا أن نمنحها لك، وأن نطبع لك كتابا، لذلك نرجو أن ترسل لينا شعرك ونحن نختار منه المجموعة التي نراها ملائمة، فوافق رأسا وأرسل إلينا كتبه، وكلفني أنا باختيار المجموعة، واخترتها وسميتها "أنشودة المطر" وعرضتها على بدر فوافق عليها كليا، وسألني: ماذا نفعل ببقية القصائد؟ فاقترحت عليه إبقاءها للتاريخ، لأن شعره الحقيقي موجود في "أنشودة المطر" هذا الكتاب الجديد. وافق على ذلك وجاء ونشرنا له الكتاب ومنحناه الجائزة. وكان مدهشا ببساطته وعفويته، وشعريته أيضا، وإذا كان لنا أن نقوّم شعراء الحداثة في القرن العشرين بدءا من الخمسينات فأعتقد أن بدر شاكر السياب هو العلامة الفارقة الأساسية بعد جبران. ككل العلامات الفارقة في التاريخ كله – لا عندنا فقط- كمية القصائد البديعة قليلة، كما لو أن كتابة القصائد الأقل جمالا - أو الأقل عمقا- لا تعدو تمرينات على كتابة بضع قصائد فقط. وهكذا إذا أخذت الآن بودلير تجد أنه يمكن أن يحتفى ببضع قصائد له. وإذا أخذت رامبو وجدته يمكن أن يختصر في بضع قصائد أيضا. وأظن أننا لو أعدنا الآن قراءة "أنشودة المطر"لأسقطنا منه قصائد وبقيت قصائد مدهشة. أنا شخصيا أتساءل عادة عندما أقوّم شاعرا أو شعرا هل التاريخ جزء من هذا الشعر، أم الشعر جزء من التاريخ الذي كتب فيه؟ هل أبو نواس جزء من تاريخ بغداد اليومي الذي عاشه، أم تاريخ بغداد في تلك المرحلة كان جزءا من شعر أبي نواس؟ الشعر يتخطى التاريخية الزمنية ويخاطب الزمن المطلق، وهذا معيار أساسي في أهمية الشعر، وأظن أننا يمكن أن ننظر إلى شعر السياب بهذا المنظار. ____________ * نقلا عن قناة الميادين. |
