أدونيس: هذا هو اسمي (ح 17)*
الاثنين, 16 يوليو 2018 08:14

 

السريالية ليست إلا صوفية، لكن دون دين أو إله

altبيار: يجب أن نعطي الشعر حقه؛ فنحن بحضور شاعر كبير.. إذا لم يكن أكبر شعراء العرب. كأن الطفولة الصعبة التي عشتها، وانسلاخك عن بيئتك الأولى وتعاطيك مع المدينة ومع الاغتراب لم تنعكس على شعرك بقدر انعكاسهما على اتجاهات الشعر العربي الحديث وقصيدة التفعلة.. وما إلى ذلك. هناك ثيمة هي الهجرة إلى المدينة والنزوح عند محمد عبد المعطي حجازي وغيره. لا نجد أثرا لهذه الغنائية البكائية في المرحلة الأولى من شعرك! ليس هناك انعكاس مباشر لتجربتك الشخصية في شعرك.

أدونيس: هذا صحيح. منذ بداية حياتي الشعرية كتبت قصائد مفقودة، وهي بسيطة وعادية ورديئة ويجب أن تمحى من تاريخي الشعري. كانت طفولية وغير فنية. كتبت أشياء يجب أن أحذفها من تاريخي الشعري ككل الشعراء في العالم، لكن منذ وعْيِ شعري سلكت منهجا مخالفا. لكل شاعر داخل تراثه تاريخه الخاص، وثقافته الخاصة، وشعراؤه الخاصون. وإذن حرصت على أن أعيد النظر في تاريخي السياسي والاجتماعي والشعري خصوصا، وأن أكتب لنفسي تاريخا جديدا خاصا بي، لكن لكي أكتبه يجب أن تكون عندي رؤية ما.. ما يكون هذا التاريخ؟ أردت دائما أن أؤسس لتاريخ شعري عبر تاريخ حياتي، ولذلك ينطلق شعري كله من رؤية للإنسان وللعالم، وللتاريخ العربي؛ وهو بمثابة نظرية متكاملة مع نوع من التبسيط. كل ما كتبته نثرا فهو لتوضيح رؤيتي الشعرية مثلما هو نقد للموروث الثقافي؛ فإذن لكي أُفْهَمَ شعريا يجب – في اعتقادي- أن يقرأ كل ما كتبته نثرا،

بيار: بما فيه الدراسات والأعمال التحليلية..

أدونيس: كل ما كتبته نثرا. حتى في الفن التشكيلي هو لتوضيح شعريتي، ولتوضيح لغتي الشعرية، ولتوضيح موقفي. ولذلك عندي بناء متكامل بحيث يمكن أن تقرأ التاريخ العربي كله من خلال شعري، وهذا نادر في الشعر العربي.

بيار: أو يمكن أن نقرأ شعرك من خلال قراءتك للتراث الشعري العربي.

أدونيس: مثلا أعطيك مثالا بسيطا: عبد الملك بن مروان كان يجمع الشعراء: جريرا والفرزدق والأخطل، والأخير كان مسيحيا، وفي إحدى قصائده يقول:

إذا ما نديمي علني ثم علـــني ** ثلاث زجــاجــات لهن هـدير

خرجت أجر الذيل تيها كأنني ** عليك – أميرَ المؤمنين- أمير!

وكان أمير المؤمنين يصفق له.

أنا في هذا القصر العظيم، قصر الثقافة العربية، أراني أشبه الأخطل؛ لي عالمي الخاص، لكن أنا داخله.

بيار: كان من الصعب أن تحب أبا نواس، وتحب أبا العلاء المعري، لكن بعد كل ما قرأته عن المتنبي من خلالك، أفهم جيدا صداقتك معه، فلعله أقرب الشعراء إليك لأسباب كثيرة أولها أنه فعلا شاعر نظام، شاعر سلطة..

أدونيس: هكذا قدم. أولا الشعر كان وظيفة في المجتمع العربي، فالشاعر قديما ككاتب في الديوان أو في وزارة الثقافة، أو مدرّس في جامعة. كان الشعر وظيفة يعيش منها الشاعر. بعضهم كان يقبل هذه الوظيفة ويرضخ لها، كما يفعل المثقفون اليوم، لكن يتاح لهم أن يقولوا أفكارهم بحرية معينة أو بحد أدنى من الحرية. لا بد من النظر إلى وضعنا الراهن لكي نفهم الوضع القديم.

كان هذا قائما، وكان المتنبي نفسه يحس به، وكان يقول عن كافور، وقد مدحه بعدة قصائد:

وما كان شعري مدحا له ** ولكنه كان هجو الورى.

ما معنى هجو الورى؟ هجو العالم القائم، هجو المؤسسات، هجو عدم القدرة على أن يعيش الشاعر ويجد حياته. إذن فهناك الظروف الاقتصادية التي عاش فيها الشاعر.

بيار: أليس هذا خطابا تبريريا لشاعر كبير تحبه؟

أدونيس: لا أعتقد.

بيار: لأنه في نفس العصر كان يعيش شعراء موهوبون كبار، ظلوا متصعلكين على الهامش ولم يقبلوا..

أدونيس: جميع الشعراء مدحوا الخلفاء، بدون استثناء، إلا المتصوفين فقط.

بيار: المتصوفون كانوا خارج هذا النظام، وبالتالي كان احتمالا واردا.

أدونيس: لا تجد شاعرا لم يمدح، ولا تجد شاعرا كبيرا كان متدينا، وهذا أكبر تناقض على تعقيد وضعه الاجتماعي، لأنه إذا كان يمدح الخليفة أو يهجو أعداءه فلا بد من أن يكون متدينا بشكل أو بآخر. كيف يمكن أن يكون شاعر داخل ثقافة قائمة أساسا على الدين وهو غير متدين؟!

أبو العلاء المعري لخص موقف الشعراء بهذا البيت:

اثنان أهل الأرض: ذو عقل بلا ** دين وآخر ديِّنٌ لا عقل له!

هذا يختصر موقف الشعراء كلهم.

والجميل في الحياة العربية وفي تناقضاتها أن المجتمع العربي قبل هذا الكلام ولم يشنق المعري ولم يسجنه ولم يقتله.

بيار: لكنه قتل شعراء المتصوفة.

أدونيس: إنما قتل المتصوفة الذين غيروا معنى الدين. أولا رفضوا فكرة الإله الواحد المنفصل عن العالم.

بيار: لو حدثتنا عن كتابك الذي قارنت فيه بين المتصوفة والسريالية..

أدونيس: النتيجة الكبرى لمجلة "شعر" أني كنت دائما أقول بشكل عام: لا بد قبل الرجوع إلى الآخر والاستفادة منه أن ندرس ما لدينا، وتوصلت من دراساتي إلى نتيجة هي أن السريالية ليست إلا صوفية لكن دون دين أو إله. فالمنهج ذاته هو الذي قامت عليه السوريالية على سبيل المثال. عملت كتابا كاملا وترجم إلى الفرنسية وإلى الانگليزية وإلى عدة لغات أخرى.

أولا لنأخذ الكتابة الآلية؛ فهذه موجودة عند المتصوفين، ويسمونها الإملاء. يصل المتصوف إلى درجة من السيطرة على العقلانية، وعلى الرأس والجسد بحيث يشعر كأنه أصبح جزءا من الأثير الكوني، وفي هذه اللحظة يهبط عليه الكلام، ويسمى الإملاء. إملاء الكون، أو إملاء الغيب عليه. هذا نوع من الكتابة الآلية.

الشيء الثاني مفهوم الواقع مثلا، أعني ما نسميه الواقع لا ما نراه ونلمسه؛ هذا مظهر من مظاهر الواقع. الواقع هو المرئي وغير المرئي معا، ولكي نفهم المرئي تماما يجب أن نفهم غير المرئي قبل ذلك، وإلا لم نعرف من الكون إلا قشوره ومظاهره، فالعالم وحدة لا تتجزأ.

النقطة الثالثة نقطة التناقض؛ فابريتون نفسه يقول: تصل المعرفة – أو يصل الإنسان- في سيره السريالي إلى نقطة تزول فيها التناقضات. الأبيض والأسود والأحمر.. إلخ، اليأس والأمل، الحزن والفرح.. نقطة جوهرية تنمحي فيها جميع التناقضات. هذا كلام صوفي خالص.

درست هذا كله وأعطيت أمثلة له في الكتاب، وفي الأخير توّجته بمقال عن رامبو، بوصفه شاعرا مشرقيا، بالمعنى الحضاري للكلمة، وليس شاعرا غربيا؛ فشعره قام على رفض الثقافة الغربية.

altثم استخدام اللغة؛ اللغة في التصوف هي ما لم توضع له في الأصل، فالكلمة أفرغت تماما من معناها التقليدي! تصور أن لديك معجما أفرغه المتصوف من معناه التقليدي وملأه بمعان جديدة ابتكرها هو في علاقاته مع العالم؛ وهذه مسألة سوريالية أيضا في المقام الأول، ومن أجل ذلك كل اللغة الشعرية لغة غير قرآنية؛ بل لغة تناقض القرآن. لغة قائمة على المجاز وعلى الرمز. وتعرف أن الفقه في الإسلام.. المسلمون أهل السنة بالخصوص يرفضون مجازية اللغة القرآنية؛ أي أننا يجب أن نفهم القرآن على أنه كلام صادق كما هو بحرفيته، فإذا نظرنا إليه بعين المجاز لم نميز الحقيقة عن غيرها.

وإذن فكل اللغة الصوفية مجازية كاللغة الشعرية، وليست لغة واقعية حقيقية، ومن أجل ذلك يؤول كلام الصوفي تأويلات بلا نهاية، ومنع التأويل في الإسلام عائد إلى هذا، فلو كانت لغة القرآن مجازية لما انتهى التأويل، ولصار كل مسلم قائما بذاته وحده، لأن التأويل تابع للعقل والقرآن شرع، ولذلك يجب أن نفهمه حرفيا.

وإذن فالتصوف ثورة على جميع المستويات؛ وهذا ما يجعلنا نفهم كيف رفضه الشرع الديني. ثورة عظيمة جدا، ونحن نهمله ونهمشه.

أدخلت التصوف في هذا البعد الكوني وربطتُه بالسريالية، وربطتُ السريالية به لكي أعطيه المشروعية التاريخية.

ولذلك فالحركة الصوفية حركة عظيمة، ومما يدل على عظمتها أنها لم تكن أبدا إلا في الخط الذي لا يأبه بالسياسة ولا بالسلطة. كان المتصوف يقول: إذا رأيت عالما يلوذ بباب سلطان فاعلم أنه لص.

مقابل ذلك كان الفقيه التقليدي يقول: من قال برأيه في القرآن فهو مخطئ وإن أصاب. محو للذاتية محوا كاملا.

الشيء الرابع إعطاء بعد كياني للأنوثة في الحياة العربية وفي الوجود. ابن عربي يقول: كل مكان لا يؤنث لا يعول عليه. وإذن فبُعد الأنوثة – بُعد المرأة- يلغي المسافة بينها وبين الذكورة، فتصير المرأة كائنا حرا مستقلا سيد مصيره ونفسه مثل الرجل.

ولذلك فالحركة العميقة التي قامت بها الصوفية ورجال التصوف في الثقافة الإسلامية مع كل عظمتها، وهي التي أثّرت في الفكر الغربي، وأثّر الإسلام عن طريقها، هذه الثقافة ليست مهملة أو مهمشة فقط، وإنما هي مرفوضة ومنبوذة وتعد كفرا في التأويل السياسي الثقافي السائد للإسلام. وهذا يمثل ضرورة قصوى لإعادة النظر في التاريخ الإسلامي العربي، ولكتابته من جديد.

____________

* نقلا عن قناة الميادين.

فيديو

فيديو

فيديو

فيديو

فيديو

فيديو

فيديو

الآن في المكتبات

فيديو

المتواجدون الآن

حاليا يتواجد 1 زائر  على الموقع