من تاريخ الكادحين (10)
الجمعة, 09 أبريل 2021 08:04

بدن ولد عابدين     

altالمهمات الخاصة

يطلق هذا الاسم على خلايا نظمها الكادحون بعد التأسيس في تكومادي بولاية غورغول، ليست لها صلة مباشرة بباقي التنظيم مهمتها إصدار جريدة "صيحة المظلوم" وتوزيع مراسلات الحركة وتوجيهاتها السرية وحراسة المطاردين ونقلهم من – وإلى- مخابئهم، وتأمين اجتماعات الهيئات المركزية للحركة.

في بداية العمل كانت مجموعة قليلة العدد شديدة السرية لا يكاد يعرفها أحد. بعد رحيل المناضل سيدي محمد سميدع طيب الله ثراه (في يناير 1970) تعاظم النضال بين صفوف الحركة العمالية والنقابية والطلاب فعمدت الحكومة إلى سياسة الإبعاد، سبق أن تحدثت عنها في معرض ما كان قائما إبان اجتماع تكومادي حيث فرقوا زعماء الحركة في أنحاء البلاد تفصِلُ بعضهم عن بعض مسافات شاسعة. لما أضرب الطلاب إضرابات شاملة لم يتخلف عنها أحد ولم تنجح سياسة القمع في المدارس، أقرّت الحكومة إبعاد وتشتيت الطلاب في أطراف البلاد بعد أن نثرت المعلمين والقادة النقابيين على عموم التراب الوطني.

أحضر الحكم شاحنات كبيرة وشرع يملؤها طلابا، يسيرونها تطوف البلاد عرضا وطولا، كأنهم - عن غير قصد- ينظمون المسيرات لبث شعارات الكادحين! فعمّت صيحاتهم المدن والقرى وسُمِّعت هتافاتهم في بقاع لم يكونوا ليصلوها لولا "كرم" الحكومة و"فضلها".

ضاعف المشهد المذكور عبْء خلية المهمات الخاصة؛ حيث اتسع المسرح الذي تلعب على خشبته وشمِل جميع الاتجاهات. أذكر أنه في بداية سنة 1971 اجتمعت خلية المهمات الخاصة في انواكشوط في مركز سري ورتبت مهمة توزيع كمية من المخطوطات الثورية على كبريات المدن والقرى. تكلف بعض الرفاق بالرحلات المتوجهة إلى الشمال حيث يواصل العمال نضالهم الذي لم يعرف هدوءا حتى بعد أحداث الزويرات الدامية في مايو 1968، بل لا يكاد يخبو احتجاج إلاتلاهُ آخرُ أشدّ صرامة وعنفا.

توليتُ مهمة البريد المتوجه إلى الجنوب والوسط والشرق الموريتاني، فحملت زادي من البضاعة المحظورة حظر المخدرات اليوم. مررت بسلام على مدن روصو وبوغي وكيهيدي. سلمتُ الرفاق هناك نصيبهم كاملا غير منقوص. واصلتُ رحلتي الماراتونية، نزلت عند الرفاق في كيفه عاصمة لعصابة. كان جلهم من أنصار الحزب الموريتاني للعمل الذي كنا معه في تنسيق وثيق، لا تنفصم عراه، يتقدمهم الرفيق الطبيب سي زين العابدين شفاه الله وعافاه وأطال عمره. أخذوا قسطهم مضافة إليه شحنة يوصلونها إلى مدينة كنكوصة. بِتّ معهم ليلة ناقشنا متطلبات العمل النضالي ومخططاته، ولما أدركنا الصباح. ذهبتُ إلى نقطة انطلاق السيارات المتوجهة إلى لعيون، ومنها أنوي مواصلة السفر إلى النعمة؛ آخر محطة من المسار الطويل.

لما وصلت مكان تجمع المسافرين جلست مع مجموعة منهم نتجاذبُ أطراف الحديث، بعد أن طرحتُ بضاعتي بجانب أغراضهم المتناثرة بالمكان، عندها حصل ما لم يكن في الحسبان! داهمنا أفرادٌ من الجمارك فتشوا محتويات الطرود بما فيها صُرّتي كانت عيني عليها. اكتشف المفتشون أنها مليئة بالمنشورات صاح أحدهم بفرنسية مكسرة: "سا سي إكول" في إشارة إلى أنها من بضاعة أهل المدارس المحظورة أشد الحظر! جرى كل ذالك أمام ناظري، تقدمت خطوات نحو بائعٍ للخبز موهما أنني زبون عاديّ. أخذت خبزا لا أريد أكله لكنه لحاجة في نفس يعقوب، ثم ابتعدت عن المكان، لا هربا وإنما "متحرفا" لقتال! عدتُ إلى منزل الرفيق الشهم سي زين العابدين شفاه الله وعافاه وكان يتولي إدارة مستوصف المدينة. ناقشنا الموضوع المستجِد، قررنا مواصلة الرحلة إلى لعيون عبر طريق رملية ملتوية تمر بتامشكط. أخبرني أن عنده بعثة تحمل معدات طبية سيُجهزها بسرعة، لأنها فرصة للخروج من المدينة دون تفتيش.

تركتُ للمجموعة حصة كيفة تُقسم نصفين، نصف لها ونصف لكنكوصة وحملتُ حصة كنكوصة لتوزع في. لعيون والنعمة. عبرنا المسافة بين كيفة وتامشكط، حيث بِتُّ ليلتي مع الممرض إبراهيما صو الذي رافقني في الرحلة وقدمني له سي زين العابدين أني قريب لمدرس في المدينة قدمتُ لأزوره. في صباح اليوم الموالي تجولتُ في شوارعِ تامشكط وعدت إلى مُضِيفِي أخبرته أن المعلم الذي جئت لزيارته بلغني أنه سافر قبل وصولي إلى مدينة لعيون وبما أن الطريق في تلك. الأيام لا تسلكها السيارات إلا نادرا قررت تأجير جمَلٍ أسافر علي ظهره حاملا بضاعتي عبر البراري. وبعد أيام وصلتُ مدينة لعيون حيث استقبلني الرفاق هناك يتقدمهم سيدي ولد أحمد دَيَّه، وكان في إقامة جبرية وقد تقلد بعد ذلك وظائف سامية منها وزارة المالية، خرج من تلك الوظائف كلها نظيف اليد، بريء الذمة. ومع أنه أشتهر بمعارضته نظام المرحوم المختار ولد داداه إلا أنه أرسل له وزيره للمالية نيابة وأبلغه رسالة من رئيس الجمهورية المختار ولد داداه
تُكرّمُه وتُعبّرُ له عن كامل تقديره لما قام به من عملٍ خدمة لوطنه، حين استرد المال العام إلى خزينة الدولة إبان تفتيش أجراه في أحدى المؤسسات.

بعد انتهاء المهمة في لعيون ونظرا للبحث الكثيف الذي ما زال متواصلا عن الهارب المطلوب رتب لي أخي وصديقي سيدي ولد أحمد دَيَّه بواسطة المرحوم شُعَيْبُ جاغانا - وكان أستاذ رياضيات في لعيون- رتبا لي سفرا إلى النعمة منتهزين فرصة مرور وزير المالية على رأس وفد من وزارته.

في ليلة الرحيل وجدا لي مقعدا في سيارة للجمارك تُرافقُ موكب الوزير؛ وهي نفس المؤسسة التي اكتشف أفرادها قبل أيام بضاعتي في كيفة كما ذكرتُ سالفا. قبل مغادرة لعيون ودعني الوزير سيدي ولد أحمد دَيَّه بعد أن أكرم ضيافتي.

في الطريق الى النعمة توقف الوفدُ تحت شجرة كبيرة على الحدود بين الحوضين الغربي والشرقي. وجدنا والي الحوض الشرقي قد أعد الطعام منتظرا الوفد الذي كان يرافقه والي الحوض الغربي. جلس الجميعُ على فراشٍ تحت الشجرة. أخذت ُ مكاني محتفظا ببضاعتي لا تفارقني. بدأ الحديث عن الكادحين، كانوا شغل الناس الشاغل. تبارى المتكلمون في انتقادهم ونعتهم بأبشع الأوصاف ورميهم بأقبح التهم، استنكارا لسلوكهم وتبخيسا لأهدافهم. لم يساندهم أحد ولم يدافع عنهم أي من المتحدثين. أخذ أحد الحاضرين الكلام فسار في النهج نفسه مُصرا على أنه لاحظ أن الكادحين أغلبُ مريديهم وأنصارهم من قبائل الزوايا المتدينة، واستطرد قائلا إنه في إحدى المرات زُعم إن عجوزا (امْرَابِطَه) طلبت من زميلة لها من الوَسَطِ المحافظ المذكور أن تعطيها سُكّرا لإعداد الشاي. فأقسمت العجوز بأغلظ الأيمان أنها لا تملك ما طَلبت منها، ولم تقتنعْ صاحبتُها؛ فلما حلفت باسم الزعيم الصيني "مَاوْ" قالت لها الآن: اقتنعت! فضحك الجميع مستغربين ما حدث، ولم أعلق والتزمت الصمت على مضض

 

نقلا عن معالي الوزير عبد القادر ولد أحمدو

فيديو

فيديو

فيديو

فيديو

فيديو

فيديو

فيديو

الآن في المكتبات

فيديو

المتواجدون الآن

حاليا يتواجد 8 زوار  على الموقع