مقابلة مع وكالة "العلم"
وكالة العلم: كيف تنظرون لانقلاب الـ6 من أغسطس؟
الأستاذ محمدٌ ولد إشدو: أي الانقلابين تقصدون؟ إن ما جرى في 6 أغسطس لم يكن في الواقع انقلابا واحدا، بل انقلابين اثنين:
- انقلاب دُبّر بليل قام به رئيس الجمهورية في أقلية سياسية وبرلمانية ضد المجتمع الموريتاني، وضد شرعية 3 من أغسطس ومؤسساتها التي يستمد منها - على علاتها - شرعيته، وضد أمن واستقرار البلاد. وكان الهدف من وراء ذلك الانقلاب هو تكريس عودة حكم الفساد، الذي أطيح به في 3 من أغسطس 05، مهما كان الثمن!
- وانقلاب جرى في وضح النهار قاده رؤساء المؤسسة العسكرية المغدورة حفاظا على وحدة الجيش وأمن ومصالح وثروات البلاد!
ومن أغرب ما في الأمر أن وسائل الإعلام غير الرسمية النافذة (قنوات ومواقع وصحف) التي يسيطر عليها "أنصار" الرئيس السابق شنت حملة شجب سافرة على انقلاب النهار، وغيبت - بصورة واعية ومدروسة - أية إشارة إلى انقلاب الليل، رغم خطورته، وغبائه، ومخالفته لأبسط قواعد السياسة التي هي فن الممكن!
أوليس في ذلك اعتداء على الحقيقة، واستخفاف بوعي وعقل الإنسان الموريتاني، وانتهاك لحقه في الإعلام؟
إن الذي جرى في 6 أغسطس، كان مؤسفا ومخيبا للآمال. ولكنه كان نتيجة منطقية لتراكم الكثير من الأخطاء.. نعم؛ لقد أخطأ قادة المؤسسة العسكرية عندما نكثوا وعدهم، ووقفوا في وجه التغيير، وفرضوا على شعبهم المقاييس التي تلائمهم، لا تلك التي تتطلبها الأعباء والمهمات التي تطرحها إرادة التغيير التي تتصدر جدول أعمال المرحلة. وقد ندموا ندامة الكسعي على ذلك! ولعلهم أدركوا أن أمن ومصلحة كل فرد منا - أو جماعة - مرتبط بأمن ومصلحة البلاد! ولكن هل يعفي خطأ قادة المؤسسة العسكرية القوى السياسية والاجتماعية الأخرى من مسؤولياتها فيما جرى؟ لا طبعا. وفي اعتقادي أن من غير الممكن التقدم خطوة واحدة والخروج من هذه الأزمة ما لم تُحدد تلك المسؤوليات ويتم الاعتراف بالأخطاء والقيام بتصحيحها! الشيء الذي ما يزال بعيد المنال - فيما يبدو- للأسف!
أما عن سؤالكم لي كيف أنظر إلى انقلاب 6 أغسطس (انقلاب النهار طبعا)؟ فها أنا أحيلكم على رأيي الثابت من الانقلابات عموما ومن هذا الانقلاب خصوصا وهو منشور في معظم الجرائد والمواقع وملخصه: "من تعاليم الحياة أن الانقلابات شتى. منها انقلاب موبوتو في الكونغو، وبوكاسا في وسط إفريقيا، وولد محمد السالك وولد الطايع في موريتانيا... ومنها انقلاب عبد الناصر في مصر، وكيتانو في البرتغال، وسوار الذهب في السودان، وتوماني توري في مالي... الصنف الأول كان نقمة ووبالا على الشعوب ودمارا وخرابا لما بنته البلدان. والنوع الثاني حقق بعضه التحرر من الديكتاتورية، وجلاء القواعد الأجنبية، وآل البعض إلى إرساء الديمقراطية والتناوب السلمي، وعودة الجيش إلى ثكناته!". (حتى لا نركع مرة أخرى ص 19). وأنا ضد الصنف الأول ومع النوع الثاني طبعا. وقد اعتقدت منذ الوهلة الأولى أن هذا الانقلاب من النوع الثاني لأنه امتداد وتصحيح لمسار انقلاب 3 من أغسطس وقد أزاح قوى النكوص والفساد، وحافظ على وحدة وسلامة الجيش، وأمّن الأمن والاستقرار في البلاد. وعلى القوى السياسية الوطنية أن تخلق الشروط والوسائل الكفيلة بتحقيق الباقي من مهمات المرحلة!
"العلم":هل لديكم تصور بشأن حل الأزمة السياسية التي تتخبط فيها البلاد؟
ذ/ م. إ: نعم. إني أدعو إلى ما يدعو إليه العقلاء في هذا البلد؛ ألا وهو: الكف الفوري عن التصعيد والمزايدات الرخيصة، وجلوس جميع الأطراف على مائدة الحوار. وسوف يتوصلون - إن صدقت نياتهم وكانت المصلحة الوطنية رائدهم - إلى حل مرضي يحمي الوطن ويصون المكاسب ويخفف معاناة الشعب ويضع أسسا أكثر جدية من ذي قبل لإقامة مؤسسات ديمقراطية ملائمة، تعبر عن ميزان القوة الحقيقي، وتعطي دورا معلوما ومطمئنا للمؤسسة العسكرية التي هي درع الوطن والقائمة على شؤونه منذ ثلاثين سنة! فالتناقضات الحالية - مهما بلغت- هي تناقضات بين الموريتانيين، ولن يوجد لها حل ملائم ومرضي إلا على أيدي الموريتانيين.
"العلم": قلتم في تصريحات صحفية إن الطبقة السياسية الموريتانية تقتصر على اللونين الأبيض والأسود. كيف تعللون ذلك؟
ذ/ م. إ: ما قلته هو أن على الذين يهتمون بالشأن العام أن ينظروا إلى الأمور "نظرة أكثر جدية من الشجب المطلق أو التأييد المطلق، وإن كانت الألوان قد انحسرت هذه الأيام في أبيض وأسود بسبب المطامع والمصالح والتعصب القبلي والاتني والجهوي التي أعمت القلوب التي في الصدور!"
ويعني هذا أن الجمود الناجم عن الضعف النظري والحِرَفية والانتهازية - وهي أمراض متفشية تنخر جسم النخبة عموما - جعل الألوان عندنا، في هذه المرحلة الحرجة التي نحن أحوج ما نكون فيها إلى بعد النظر والتروي والجدلية، تنحسر في أبيض وأسود! والمواقف في مع وضد. وهذه - في نظري- أكبر مأساة نعاني منها اليوم. لأن هذا العمى يقف حاجزا دون فهم وتحليل الأشياء والظواهر التي نكون قد أصدرنا عليها حكما مسبقا قد لا يكون بالضرورة يوافق طبيعتها بقدر ما يوافق هوانا ويشبع غرائزنا المتحفزة. وستكون الحقيقة والمصلحة الوطنية في مقدمة ضحايا هذا الإفك. إذ سيستقطب "المعِيون" كافة الانتهازيين والمرتزقة الإمّعيين الذين لا يسيرون إلا في جنازة الوطن. بينما يفرز "الضديون" طفيليات تدعو على المنابر وفي المواقع لأمير المؤمنين جورج بوش ووزيره الصالح نغروبونتي، وتطالب علنا بفرض الحصار وبالتدخل العسكري الأمريكي لإنقاذ "العباد والبلاد" من "الجنرال الأرعن" وإرجاع "ديمقراطيتنا السليبة"!
"العلم": أصدرت منظمة العفو الدولية أمس تقريرا عن التعذيب في موريتانيا اعتبرت فيه أن الأمن الموريتاني يقترف أصناف التعذيب والإهانات ضد المحتجزين. بوصفكم أحد أبرز المحامين الموريتانيين ومن المهتمين بحقوق الإنسان هل توافقون هذا التقرير؟
ذ/ م. إ: لا شك أن الأمن الموريتاني بشرطته الإدارية وشرطته القضائية يعاني مما يعاني منه مختلف أجهزة الدولة. ويمكن الجزم - والحالة هذه - بأن لا يكون الإنسان وحماية حقوق الإنسان في مقدمة أولوياته؛ خاصة أنه ترعرع في العشرين سنة الماضية على عقلية مقايضة حمايته للنظام بإطلاق يده في ارتكاب جميع المحظورات. وقد ظل هذا القطاع في منأى عن يد الإصلاح، خلال الفترة الانتقالية كلها؛ إذ لم يضارّ قاتل ولا جلاد! بل تم تكريم بعضهم وترقية بعض! وظلت دار ابن لقمان على حالها في عهد الرئيس "المؤتمن" ولا أظن أنها من أولويات الحكام الجدد وإن كانت لم تعرف تدهورا في ظلهم. ومن الظلم أن نحمّل السلطة الجديدة أوزار السلطات السابقة. إن هذا القطاع يحتاج - قبل غيره - إلى الإصلاح والتطهير وإعادة التثقيف ومراجعة الأولويات والسلوك إذا كانت لدينا إرادة جدية في القيام بالإصلاح وإرساء دولة القانون! فمن هذه الزاوية أنا مع ما ورد في التقرير.
"العلم": تحدث المراقبون عن إجماع هو الأول من نوعه في الهيئة الوطنية للمحامين؛ ما أسباب ذلك في نظركم، وكيف تتم المحافظة عليه؟
ذ/ م. إ: هذا الإجماع صحيح. وسببه أن الهيئة الوطنية للمحامين التي ظلت عقبة في طريق البغي خلال سنوات الجمر، صارت ضحية لانتقام السلطة التي لم تكتف بتهميش وتجويع المحامين الوطنيين الديمقراطيين لحساب صنائعها في المهنة؛ بل أقدمت في سنواتها الأخيرة على تخريب المهنة نفسها، فاغتصبت قيادتها، وفتحت أبوابها على مصاريعها لكل من هب ودب، وطمست معالم الأخلاق والسلوك المهني، وجعلت منها وكرا للفساد والتجسس والنذالة.. وهي صفات أبعد ما تكون عن روح وتقاليد وسلوك المحاماة. ومن سوء طالعنا أن يصادف تغيير 03 من أغسطس 2005 تكريس قيادة فاسدة نخرتنا ثلاث سنوات أخرى، وسدت أبواب هيئتنا أمام رياح التغيير التي هبت على الوطن. فوصلت هيئتنا في نهاية المطاف إلى درك الحضيض الذي لا جدال فيه. وهنا أجمع جل المحامين على ضرورة نبذ التفرقة، والعمل على وضع حد للانهيار، وعلى انتخاب مكتب صالح يسعى إلى انتشال ما يمكن انتشاله. وقد نجحوا في ذلك عموما. وكان المكتب الجديد عند حسن الظن به؛ حيث تقدم إلى المحامين في جمعيتهم العامة الأولى بحصيلة طيبة عن عمله خلال خمسة أشهر بينت أن الإصلاح ممكن في هذا البلد شريطة أن تكون هناك إرادة ورواد! ولا شك أن إجماعنا سوف يتعزز ويتسع، حول مكتبنا ما دام سائرا في نهج الإصلاح؛ خاصة أن قادة المرفق القضائي أظهروا الكثير من الاستعداد والرغبة في مساعدة الهيئة على إصلاحها.
نشرت في أغسطس 2008 على الموقع الألكتروني للوكالة
(من كتاب "أزمة الحكم في موريتانيا)