| أدونيس: هذا هو اسمي (ح 5)* |
| الثلاثاء, 15 مايو 2018 07:17 |
|
"لا يستطيع الشاعر أن يبتكر جمالا بلغة يجهل تاريخها الجمالي"
أدونيس: دائما كانت هناك صعوبات. تحتاج إلى بعض الأصدقاء، إلى الأشياء العملية الحياتية، لكن كل هذا امتزج بخبزة الحياة فصار جزءا من خبرتي الحياتية العملية ولم يكن مجرد قضايا خارجية عابرة؛ بل دخل في عمق تجربتي، لا على مستوى الحياة اليومية العامة، وإنما على مستوى علاقاتي مع الأشخاص الذين قابلتهم وعقدت معهم علاقات صداقة ومودة. بيار: مفهوم الحداثة كان مائعا، متى صغته؟ أنت تقارن بين عصر الحداثة في القرن التاسع عشر وبين انفجار الحداثة في الخمسينات ببيروت. أدونيس: أعترف بأن من أخطائنا كون تأثرنا بمعاير الحداثة الخارجية كان أكثر بكثير من تأثرنا بمعاييرها التي كان العرب يطرحونها ويناقشونها منذ القرن الهجري الثاني مع أبي نواس وأبي تمام وابن الرومي في اهتمامه بتفاصيل الحياة اليومية.. وغيرهم من الشعراء، وأرى هذا أحد أخطائنا في مجلة "شعر". لم نركز على معنى الحداثة في الشعر العربي نفسه، وما يمكن أن نراه إذا أعدنا قراءة هذا التاريخ.. نرى أن مفهوم الحديث والقديم في الشعر لم يقم أولا على تغيير الشكل، وإنما قام على تغيير النظرة. كان الشعر العربي إجمالا بمثابة عالم من الأفكار والقيم والعلاقات، لكنه عالم موجود مسبقا، وعلى الشاعر أن يخترقه ويعيد تشكيله بحسب موضوع القصيدة مدحا كان أم هجاء أم رثاء أم غير ذلك. أما في الشعر الحديث فقد انهارت هذه الطبقة الفوقية من القيم والمعايير، وحلت محلها طبقة جديدة – أو تجربة جديدة- قائمة على الحياة والممارسة الحية؛ وهذا ما يجسده أبو نواس بشكل خاص. إذن فقد كانت هناك قيم جديدة في طور النشوء، وهذه القيم الجديدة هي التي عبر عنها آنذاك شعراء سموا شعرهم محدَثا، لدرجة أن أبا تمام أقام جدارا فاصلا بين ما يسمى القديم وما يسمى الحديث إلى حد قول أحد النقاد عن شعره: إن كان هذا يسمى شعرا فكلام العرب باطل! تمثلت الحداثة في هذا الأفق الجديد الذي أسس له الشعر العربي بدءا من القرن الثاني للهجرة؛ أي في القرن الثامن الميلادي! قبل بودلير ورامبو بكثير. كان علينا أن نهتم بهذه التجربة وأن نعمقها، وأن تكون مشكلتنا الأولى في الحداثة هي إحداث القطيعة بين القيم والأذواق والآراء المبنية على التأويل التقليدي للدين؛ حيث أُوِّلَ سلطويا ولم يؤول فكريا أو ثقافيا. نكتشف شكلا جديدا لهذه القيم الجديدة؛ وهذا ما لم نفعله مع الأسف. اكتفينا باستعارة الأشكال الشعرية الموجودة في القائمة؛ سواء أكانت من الجهة الكلاسيكية أم من الجهة الإنگليزية. وكان علينا أن نستفيد أولا، وأن نعمق تجربتنا فيما يتعلق بالموقف، لأن الشاعر لا يستطيع في أي بلد من العالم أن يبتكر جمالا جديدا بلغة يجهل تاريخها الجمالي. ومعظم شعرائنا في الحداثة كانوا – مع الأسف- يجهلون التاريخ الجمالي للغة الشعرية العربية. مثلا لا يمكن أن تجد [في الغرب] شاعرا حديثا لا يقرأ فيكتور هيغو أو شكسبير أو غوته بلغات الغرب، لكن كنت تجد 100 % من الشبان الشعراء يسخرون من الشعراء العرب القدماء دون أن يقرؤوا لهم! يمكن أن تقرأ لشاعر فلا تحبه، لكن عندنا شعراء يجهلون شعر هؤلاء وينتقدونهم، وهذا غير لائق؛ لا بالشعراء ولا بالشعر. " هي ذي أرض العذابْ لا غَدٌ آتٍ ولا ريحٌ تُضيءُ." بيار: وكان اللقاء مع يوسف الخال؛ وهو أيضا لقاء مفصلي نجمت عنه ولادة "شعر".. هل كنت تعرفه من قبل؟ أدونيس: في عام 1954 وأنا في دمشق، في بداية حياتي الأدبية، كتبت قصيدة عنوانها "فراغ" وكانت متحررة من القافية، لا من الوزن الذي كان تفعيلة. خلاصتها أن العالم العربي كله فراغ، ويجب أن نعيد ابتكاره ونملأه بشيء آخر، وكان هو يعمل مع د. شارل مالك ممثل لبنان في الأمم المتحدة، فقرآ القصيدة في انيو يورك فاتصل بي وكتب إلي معبرا عن رأيه في أن القصيدة تصلح لتكون نواة فيما يتعلق بالتفعلة والعلاقة مع العروض، وذكر أنه قادم إلى لبنان بعد أن أنهى عمله في الأمم المتحدة مع الدكتور مالك، وسيدرّس في الجامعة اللبنانية ون لديه مشروعا لإنشاء مجلة. وحدد لي تاريخ عودنه، ثم تواصلنا كتابيا وحددنا موعدا للقاء في أسبوعه الأول ببيروت، والتقينا في مقهى مصر – لا أزال أذكر حتى الآن- سنة 1956 وكان قد مر شهران على وجودي في بيروت، وناقشنا المشروع فقلت له: أنا جاهز لأكون معك، ورتبنا لإصدار العدد الأول من مجلة "شعر" وكان بدوي الجبل وقتها هناك، فقلت له: جميل أن نفتتح العدد الأول من مجلة "شعر" بقصيدة كلاسيكية لبدوي الجبل الذي هو آخر عظماء الكلاسيكيين العرب، والتقينا به فأوضحنا له المشروع وعرضنا عليه أن ننشر له قصيدة، وكان من المصادفة أن لديه قصيدة فرغ منها قبل قليل، فأعطانا إياها.
بيار: من المهم جدا أن أذكر أني قرأت لك عن كمية الأعداء، والمحاربة، وتهمة الاعتداء على اللغة، وبدأ الحديث عن الشعوبيين. الشعوبية تهمة غريبة لازمتك طيلة مسارك، فكيف استُقبل العد الأول؟ أدونيس: انقسم الوسط الثقافي إلى قسمين أكثرهما تأثيرا هو القسم الذي يصف نفسه بأنه قومي عربي ويساري. اليساريون والقوميون العرب كانوا ضد المجلة عموما، وكانوا ممثلين في مجلة الأدب. سُجِنَّا بمختلف الاتهامات، ووصفنا بتدمير اللغة العربية والشعر والتراث، وبالغ أحدهم إلى حد القول إننا لسنا إلا مجرد عملاء لتدمير الشعر العربي. الجانب الآخر شجع المشروع، لكنه كان الأقل حضورا في الوسط الشعري العربي. مع الوقت تغير المشهد كله وتيقن مختلف الاتجاهات إلا الأكثر تطرفا والأكثر تقليدية أن المجلة [ليست] ضد الشعر العربي، ويمكن أن تؤخذ نموذجا ككل المجلات والحركات الريادية. أتحدث عن مجلة "شعر" التي حوربت بضراوة، وعلى مختلف المستويات، وبمختلف الأساليب؛ البائسة أحيانا، والمخجلة أخرى. صارت هذه المجلة بالبرهان حدا فاصلا، بحيث يمكن بكل بساطة أن يقال: الشعر العربي قبل مجلة "شعر" والشعر العربي بعد مجلة "شعر" لكن أعتقد أننا لم نستفد من خبراتنا التاريخية بكل أسف، ولا أعرف لماذا لا نستفيد من التاريخ القديم، ولا حتى من الحديث. بعد 40- 50 سنة لا نزال في الأوساط الثقافية العامة نلوك الكلام ذاته، والعقلية هي هي، والوسط الثقافي نفسه دون سواه! هناك شيء ما - كما كان "هملت" يقول- فاسد في مملكة الدنمارك. هناك شيء فاسد في العالم الثقافي العربي.. ما هو؟ هذا هو السؤال الذي يجب البحث عنه؛ لا من طرف الشعراء وحدهم، وإنما من طرف المؤرخين والأنتر بولوجيين والمثقفين بشكل عام. من الاتهامات التي وجهت لمجلة "شعر" أنها كانت قومية سورية بحجة أني أنا كنت عضوا في الحزب القومي السوري الاجتماعي، ويوسف الخال أيضا كان عضوا فيه، وكذلك فؤاد رفقه وبعض الأشخاص. وهذه مناسبة لأذكر شهادة تاريخية أن الحزب السوري نفسه، الذي اتُّهمنا في المجلة بأنا تابعون له كان ضد المجلة! وأنا شخصيا تحدث معي قادته وقالوا لي: ماذا تريد؟ لماذا مجلة "شعر"؟ أنشئ مجلة أخرى واترك هذه. قلت لهم: هذا غير ممكن. لماذا تحاربون مجلة "شعر"؟ أوضحوا لنا السبب. طبعا لا أحد [أجاب]. هذه مجرد شهادة لأقول إن جميع المؤسسات الحزبية بكل تشكلاتها كانت ضد مجلة "شعر". ____________
* نقلا عن قناة الميادين. |
