لوعة غياب جديد.. أو ذكريات من زمن آخر! (ح 2/ 2)
الأربعاء, 26 ديسمبر 2012 16:02

 

alt... واستقلت موريتانيا في العام الموالي. فهب أولئك البدو الرحل يخوضون غمار إنشاء دولة عصرية!

توجه في بعثة خارجية، ونجح بعض أقرانه في حقل التعليم، والتحق بعضهم بمعهد أبي تلميت، وبُعِث آخرون إلى مصر!

كانت أول ثلمة في منظومة "عصره" هي وفاة المغفور له سيد المختار ولد عبد الفتاح غرقا وهو في ريعان شبابه وفتوته وأوج عطائه.

رثاه بعد سنة من أفوله بشعر لم يعد يتذكر منه إلا هذه الأبيات:

 

زين الشباب تحية وســــــــــلام         عام مضى وكأنه أيــــــام

قد كنت فيه دائما بجـــــــــوارنا         لم تمح ذكر فعالك الأيــام

سيدي الطريق وما تزال طويلة         الكل يقعد حولها ويُـــــقام

قامت وراءك في بلادي ثــورة          كادت تطيح بهم وهم نيام.

 

لم يترك الاستعمار شيئا يذكر في موريتانيا، وتركها خاوية إلا من بعض قواعده ومكايده وأعوانه المدسوسين هنا وهناك. وكان الاستقلال الذي حُصِل عليه - رغم أهميته- هشا يفتقر إلى مضامين سياسية واقتصادية وثقافية، فكان أقرب إلى استعمار جديد منه إلى استقلال.. وكانت هناك مطامع أجنبية من الشمال ومن الجنوب بضم موريتانيا أيضا... وكانت مسألة جَلْيِ الهوية المغيبة حاضرة على جدول الأعمال كذلك..

... وثار الشباب الموريتاني ضد الاستعمار الجديد وضد التخلف، ووضع على جدول أعماله أهدافا وطنية كبرى من شأنها أن توطد الاستقلال وتعطيه معناه المفقود؛ وكان من بين تلك الأهداف: مراجعة الاتفاقيات المجحفة مع فرنسا، والانضمام إلى الجامعة العربية، وترسيم اللغة العربية، وإنشاء عملة وطنية، وتأميم شركة ميفرما، وتحسين أحوال الشعب المعيشية، وتصفية العبودية، وتحقيق الديمقراطية، وتطوير بنى المجتمع والدولة ...

وكان هو جزءا من تلك الثورة التي انتصرت في نهاية مطافها بعد سبع عجاف، يوم انطلق الحوار الوطني ونجح في تحقيق الوحدة الوطنية حول إنجاز وصيانة مكاسب الوطن الكبرى ... وانطلقت معركة البناء الوطني من جديد على أسس جديدة وسديدة. وصعدت موريتانيا بوعي شبابها ووحدتها الوطنية وإنجازاتها التقدمية إلى ركب الدول الناهضة! 

ولكن القوى الرجعية والاستعمارية المعادية للجبهة الوطنية سرعانما نجحت في جر الوطن إلى حرب الصحراء التي أثخنت البلاد وهيأت الظروف التي أنجبت الانقلاب الاجتماعي والأخلاقي الذي عشش ثلاثين سنة وقضى على مكاسب وآمال الوطن، وعصف به وبالدولة إلى الحضيض!

وفي تلك الظروف القاسية جدا، تفاقم الجفاف والتصحر فأكلا الأخضر واليابس، وأهلكا الحرث والنسل: صوحت الطبيعة، ونفقت المواشي، وجاع الناس وجاؤوا لاجئين من البدو إلى الحضر يتكدسون مثل السردين في أحياء الصفيح البائسة الممسكة بتلابيب المدن الكبرى والمحدقة بها كالسوار بالمعصم، ويسلك بعضهم طريق الهجرة والاغتراب!

هل كان الأديب العبقري محمد عبد الرحمن ولد المبارك ولد يمين يستشرف ويرصد ويصف ما آلت إليه الأحوال في بلادنا قبل قرن من وقوع هذه الكارثة؟ أم أن دورات الجفاف والتصحر التي تعتري البلاد من حين لحين - ولما تكتسب بعد مناعة تحميها من صروفها المأساوية- كان بعضها يشبه بعضا؟

يقول ولد المبارك ولد يمين: 

سبحانك يالحي المجيد       مذا من مال اصحاح انجاح

أمذا من حد اعليه ابعيد      يلتاح افمرجع فيه التــــــاح

 

كدية زوگ أزوگ ألوتاد     والكور ألسهاب ألمهاد

ما فيهم حد اتلاو أواد      الجنه من لسراح ارتاح

وال كامل كان ابلجواد    عامر من لمساح البطاح

عــاد اتبـط لرياح أعاد     بلريـاح اتبـط لريــــاح

 

هُجِرت "تگرمن" و"انبيكه" و"بُرغوة" و"المنار" و"المحرد" و"المنحر" وجل أماكن "إگيدي" الأخرى، وصارت غابات البشام (آدرس) بـ"الغلفه" - و"الغلفه" نفسها- قاعا صفصفا! أما "دوحتهم" الكبيرة (الطلحايه) التي يسمونها "السمعه" (الطابق) في لگويعة شرق "المنحر" التي كان يلعب (يوم كان يتعلم وأخاه محمد - رحمه الله- القرآن عند أهل انددو) في كنف عشهم الوارف الذي صنعوه في قمتها هو ومجموعة من أصحابه من بينها: لمرابط ولد عبد السلام، أباتن ولد اسلامه، اميه ولد سيديا، يحظيه ولد احمياده، فقد أصبحت مثل "التگفايه":

 

شوف التگفايـه صحيــح        نعرفها بجدرها والريح

اعليها تتگرع واتميــــح        أگفتـــــــها زين والنوار

       گادلها ما مظنون الطيح        والخلق اماســــيها عقار

وأزوان امگيم لبريـــــح        افظل اظحاها كل انهار

وامنين إزول الظل إبيح        بيگي يفاوت بتــــصبار

واتلاويح الخيل اتلاويح        غير الرحاله ماه اعمار

 

من تصريف الحي الرؤوف    شوف التگـــــفاي قفار

وازربها گبلتها منـــــسوف     واجدرها عاد افبل غار

واجماعتها (مزلت اتشوف      مره) منها رداد أخبار.

 

ومرّ على "احسي المحصر" وكان بلاط إمارة الترارزة، فوجده خرابا تعمر الخربةَ الوحيدةَ التي بقيت جدرانها قائمة فيه ذئبةٌ تحمي جِراءها بشراسة! وعاج على انبيكة فكانت يبابا! تذكر قول الأديب أحمد ولد سيدي ميله:

 

قفار انتي    عدتي يالدار  

الّ كــنت       مانك قفار!

 

        أما "تگرمن" فوجدها خاوية على عروشها فرثاها بقوله:  

 

تگرمن كانت يالشفــاع       ابلـد لمـرو واجتمــاع

لحبـاب أكانت بالتگياع      "تگرمن" ربـع عــزة

وانواع العلم الاتـــــباع    الحـــــــسان الماه دفنت
واگرايت لثمان ألربـاع    واستفت يــــكان أسفت

والهول ألغن والتـبراع    والوسيط أشعر الســت

والجود وإطعام الجياع    في الصيف الحاف والمشت

واجماعته تعرف لجماع  واتوت ذاك اليــــوت

اتعط ش كانت للطـماع    افيديه كانت ش حـــت

 

وأوف ذاك أعادت تلياع       للــروح أ"دار ميـــة"

والناس الّ تعرف، فزاع      افلراضيــن أمِشَّـــتَّ

أكثرو لعلاب اتيگطـاع       زرات الساف لمگت

أذان نسدر باحر گــاع       أي الربى "رُبَيَّـــــــةَ".

 

لكنْ.. "ألم تكن الطبيعة أقوى وأصلب وأبقى من الإنسان؟ ... لذلك قال الجاهليون: ليت الفتى حجر! وفزِعت حضارات بابل ومصر إلى الحجر أملا في الخلود! واقتفى آثارَها اليونان والرومان وغيرهم!

... إلا أن لنا نحن، أمم الصحراء والتصحر، رأيا مغايرا بحكم هشاشة بيئتنا!

أولم ير ابن الگصري، مثلا، في رائعته كلحمد وهو يحاور وادي لمريفگ تطابق أمده وأمد الوادي؟! بينما ذهب ابن مَكِيٍّ، وهو يندب وكره الخالي في عيربات إلى أبعد.. مرجحا طول أمد الإنسان الذي عاش حتى وقف على أطلال المكان! وقبلهما صاحب التگفايه"!

وكان هو قد كتب بدوره، سنة 84، في مقالة عن التصحر أن: "مأساة الإنسان أنه يعاني، عاجزا، معضلة فنائه! أما إنسان الصحراء والتصحر فيعيش مأساتين: إنه يفنى. ويواجه، أيضا، فناء صنوه الطبيعة بوتيرة أسرع من وتيرة فنائه!

.. لذلك، لا يلجأ إليها، بل إلى الكلمة، سببا للبقاء والخلود!"

ومن هنا ينبع هذا الحديث! 

***

وذات ليلة من سنة 1987، وهو يخوض غمار مفاوضات صعبة في فندق صباح في مدينة نواذيبو بين طرفين إسباني وموريتاني حول حادث صدام باخرتي صيد... هبطت طائرة إسبانية خاصة قادمة من جزر الخالدات تحمل قطع غيار بديلة ومسؤولا من الشركة مالكة الباخرة الاسبانية التي أعطبت باخرة رجل الأعمال محمد ولد السالك (باي بخي) الذي يمثله.. تعثرت المفاوضات وطالت وتأخر الليل.. وفجأة التفت هو إلى الرجل الإسباني الكهل المستعجل لحد أن طائرته ما تزال جاثمة في المطار تنتظره، وفطور الصباح الأيبيري يوشك أن يحط على مائدته قبل أن تحط طائرته بمطار الجزر، وكان يتحدث بلغة فرنسية جزلة، وسأله دون مقدمات: "ألست السيد أخيارهم ولد أحمد ولد إبراهيم الملقب "كاو"؟ اغرورقت عينا الإسباني الكبير وقذفتا حمم لوعة الغربة كما لو كانتا بركانا في جوف بحر! وقال بحسانية تليدة دفنت في أعماقه من قرون: "آنَ هو بَعْدْ"! طال العناق، وحُل النزاع، وطار الرجل الاسباني إلى "جزره" موقظا في الحنايا شجو "ليلة الغلفه" وذكريات ذلك الزمن البديع الغابر!

... ومنذ أشهر نعوه! لم ترض كبرياؤه أن تحطه جسدا هامدا طائرة قادمة من الجزر وهْنا من الليل. بل جاء على موعد مع الموت في أرض الوطن. حطت بهما معا طائرة في مطار نواكشوط. وبعد أيام، وبينما كان يقود سيارته ونسيم "الساحلية" العليل يداعب شعيرات قليلة ظلت صامدة في محيط لمته تتحدى عبث الزمن وعذاب الغربة، ودع الحياة بهدوء، فووري في ثرى أرض أجداد طالما حن إليها وحنت إليه، ورأى برهان ربه!

    

... ثم بزغ فجر الأمل، وأشرقت الشمس غداة يوم جميل من أغسطس 2005 رغم ما واكب ذلك المخاض من مواجع وهزات آلت - بحمد الله- إلى تصالح البيت الموريتاني بعد أن نزغ الشيطان بين أهله، وَوَضْعِ أسس الديمقراطية والإصلاح وإعادة تأسيس الجمهورية!

إنا كبونا. وتكبو الخيل عن كرم     يوما، وتنهض للثارات أعواما

* * *

 

ترى هل نسيها تماما في معترك الحياة الزاخر المضطرب؟!

أم إنه كان يتذكرها من حين لآخر خلال هذه الملحمة الإنسانية؟ وهل كان لها أن تتذكره بعد تلك الليلة العابرة؟! وما ذا كان سيقول لها لو التقيا ذات يوم؟

أيقول لها ما قاله لحبيبته تونس:

لا تنكريني إن رأيت ملامحي    وقرأت في وجهي هموم زماني

إني هجرتـك في نزال رمتـه     أبليــت فيـــه مثلمــــا أبلانــــي

        ما ضاع سعيي لحظة فبفضله    قـد عربـت وتحـررت أوطانـي

        عمر عجيب كم خبرت خلاله    ألـم الجحـود، ولوعـة الحرمان.

 

أم ما قاله الدكتور إبراهيم ناجي وهو يندب حظه العاثر:

 

يا حبيبي كل شيء بقضاء   ما بأيدينا؟ خلقنـا تعسـاء

ربمــا تجمعنــا أقدارنـــا    ذات يوم بعدما عز اللقاء

فإذا أنكـــر خـل خلـــــه     وتلاقينـا لقــاء الغربـــاء

 ومضـى كـل إلـى غايتـه   لا تقل شئنا فإن الحظ شاء

 

ومنذ أمد قريب، أخبروه بمرضها واحتضارها..

أيصلها حين لا ينفع الوصل؟ وحين لا يستطيع تحمل رؤيتها في "حالة أخرى" غير تلك التي رآها عليها منذ نصف قرن، ويستحيل عليه أن يقبل بحال رؤية "غيرها" وهي تحمل اسمها الفريد وتنتحل شخصيتها دون منازع أو معترض غيره!

تذكر قول صديقه الأديب محمد ولد الميداح وعمل به:

يرتد اعلي يالـــــــجواد    عن بل الشارات أل عاد

زيرات أعنّ ما معـــتاد   استـــــحفيه أبعد أهاليـــه

أذ كامل طــار وان زاد   ما نبغيه ألا ننـــــفع فيــه

ألا خالگلي كون التحياد   عنُّ ما تيت انگـــد انجيه

 

امجي فـــــيه ابلول الدم       غير أمنادم ش ما يبغه

ألا ينفع فيه أخــــير إتم       ألا حــد يرتــد أعلــيـــه

 

... وانتقلت إلى رحمة الله وغفرانه والخلود في فسيح جناته... فكانت الفاجعة.

لم تكن أول ملاك بشري يأتيه وعد ربه ولن تكون آخره، ولكن...

رباه،

"ما أطيب العيش لو أن الفتى حجر"!

أما الفتاة فلا. وإن كان {من الحجارة لما يتفجر منه الأنهار، وإن منها لما يشقق فيخرج منه الماء وإن منها لما يهبط من خشية الله}..

اللهم لا كفران، ولا اعتراض على حكمتك في الخلق: {تبارك الذي بيده الملك وهو على كل شيء قدير. الذي خلق الموت والحياة ليبلوكم أيكم أحسن عملا...}.

... ولا جرم أنك تمحو القبح، وتضفي على كل جمال أبدعته في هذه الدنيا صفة الخلود الروحي فلا يفنى أو يبلى إلى أبد الآبدين! ولكن.. سبحانك، ما كان أبهى العيش وأطيبه في ملكوتك السفلي لو أنظرت الجمال والطهر والخير في الخلق إلى يوم الدين، كما أنظرت القبح والمنكر والشر في إبليس وجنوده إلى يوم الوقت المعلوم!

 

فيديو

فيديو

فيديو

فيديو

فيديو

فيديو

فيديو

الآن في المكتبات

فيديو

المتواجدون الآن

حاليا يتواجد 10 زوار  على الموقع