من تاريخ الكادحين (8)
الجمعة, 26 مارس 2021 07:54

 

إني أغار من ميدالية الرفيق يسلم ولد ابن عبدم

 بقلم بدن ول عابدين    

altتعقيبا على ما كتبته عن الذكرى الأولى لصدور العدد الأول من "صيحة المظلوم" وصلني تعليق أثلج صدري من أحد كبار المحررين في الصحيفة يومها، حضر الاحتفال الذي تحدثنا عنه سابقا وعاش العذاب والحرمان. عرف السجون، وخرج منها مرتفع الرأس عزيمته لا تلين.

أتذكر أن المغفور له بإذن الله محمد سالم زين طيبَ الله ثراه، حدثني عنه قال: "لما خرج الرفيق فاضل الداه من سجن بيله (وهو سجن رهيب في لكصر) كنتُ أول من اتصل به لأقدر معنوياته المرتفعة خلال وجوده داخل زنزانات النظام وما سمعنا عنه من صمود وهو يواجه جلاديه شُلت أيديهم، أسكنوه في أقفاص لا يعادلها ضيقا وسوءًا إلا ما ذاقه وهو حرٌّ طليقٌ أثناء العمل الشاق الذي كان يقوم به في "قبة الطباعة" الخباء يخرج منها مختنقا يتصبب عرقا. واستطرد المغفور له محمد سالم زين طيب الله ثراه:

 دخل علي الرفيق فاضل الداه وهو باسمُ الثغرِ وضاح المحيا يحمل ظرفا فتحه أمامي وقال: "هذه شهاداتي جميعها وكانت يومها من أفضل ما يحصل عليه الموريتانيون ومن جامعات شهيرة، أُمزقها تمزيقا لأتفرغ بكل طاقاتي، سواد ليلي وبياض نهاري، وأضع نفسي تحت تصرف شعبي ووطني متفرغًا لخدمة المظلومين… أنا من الثوار" انتهى الاستشهاد.

هذا الشاب المثقف الرفيق فاضل الداه تَقلدَ، بعد أن وضعت الحرب أوزارها، وظائف سامية في الدولة: وزيرا للطاقة والمياه ثم نائبا لوزير الخارجية عمل ممثلا دائما لموريتانيا لدى الجامعة العربية، وسفيرا في مصر والسودان واليمن والعراق وسوريا والأردن ولبنان والمغرب، ومستشارا لرئيس الجمهورية، ومديرا عاما لمؤسستي الإذاعة الوطنية وجريدة الشعب. وعُين بعد التقاعد أمينا دائما لمجلس جائزة شنقيط عدة سنوات.

النص الذي وصلني من الوزير فاضل ولد الداه تعقيبا على ما نشرتُه أنقله لكم حرفيا:

"رغم الفرح بذلك الحفل البهيج؛ وخاصة المشوي الذي كان لدينا أندر من"الكبريت الأحمر" ورغم تواضع التكريم الذي ناله زميلنا يسلم فلا زلت أذكر أنني شعرت وقتها بشيء من الغيرة من الزميل المحظوظ، ولا أدري هل شعر بقية الرفاق بنفس الشيء وأسروه في أنفسهم. وتفسير ذلك أن السباق والتدافع بالمناكب يومئذ لم يكن مثلما هو اليوم حول من يتبوأ المنصب الأعلى أو يمتلك السيارة الأفخم أو البيت الأجمل؛ بل حول من يقدم للشعب أنفع وأجلّ الخدمات.. فقد رأيت ما كنا نعاني من شهية لأكل اللحم، ونحن - مع ذلك- أصحاب وظائف ودخول تخلوا عنها طواعية وقد كان بإمكانها أن توفر لهم شيئا من رغد العيش، ولكنهم فضلوا الجوع والمعاناة الشديدة إعلاءً لمصالح الشعب..

نسيت أن أقول إن التكريم الذي ناله يسلم كان عادلا ومنصفاً. فالمجهود الذي يقوم به يفوق ما نقوم به جميعاً شدة وعناءً. فبينما نستطيع نحن أن نتمدد ونحن نكتب أو نملي أو نصحح يبقى هو جالساً طول الوقت ساعات وساعات، وهو ينقر بإصبع واحدة على الآلة، حتى يتم إنجاز الجريدة في جو من الضيق والكرب لا يماثله إلا نقرات الموسيقار بيتهوفن وهو ينجز السيمفونية الخامسة، وقد أغلق على نفسه غرفة ضيقة خوفا من مالك العقار الذي يدق عليه كل دقيقة يشتمه ويهدده بالطرد إن لم يدفع إيجار الغرفة.. وكانت طرقات هذا المالك البخيل للباب هي التي قلدها الموسيقار بنقرات على البيانو، وسماها ضربات القدر تصويراً لمعاناته الشديدة.." انتهى الاستشهاد.

إليك يا صيحة المظلوم اهديها ** تحية يملأُ الإعجاب مهديها.

أعود إلى قصة رائعة الشاعر أحمدو عبد القادر؛ وكنتُ وعدتُ القراء والمتابعين الكرام بسردها، فأذكر أننا بعدما أنهينا مراسيم حفل الذكرى الأولى لصيحة المظلوم طلب الشاعر أن نأذن له بيوم يتهيأُ فيه لدخول جو الشعر بالطواف حول بعض الحدائق الغناء في المدينة والتمتع بمنظرها الخلاب وعبق أزهارها الفاتنة، ليُساعده ذلك على مهمته. سلك الشاعر طريق جمال عبد الناصر، توجه نحو البحر سيرًا على القدمين، مرّ أمام المستشفى الوطني عرج يسارا، اقترب من أكواخ "الكبة" رجع النظر كرتين، لفت انتباهه مشهدٌ غير عادي؛ أحد الأكواخ التي كنا نستخدمها لتصفيف صيحة المظلوم وتشبيكها لم يعد قائما في مكانه، عصفت به هوج الرياح ورمت حُطامه أشلاءً متناثرةً على مدِّ البصر! أما المحتويات فسلمت بأعجوبة، كنا لا نتركها احترازا فوق أرضية الكوخ؛ بل تكون عادةً في صندوق حديد موصد، نحفرُ له غارًا يتوسط أرضية الكوخ ونُواريه قي التراب ثُم نبسط الفراش فوقه ونُكملُ ديكور التمويه.

تحية لصيحة المظلوم

عاد إلينا الشاعر قبل أن يُتٍم نزهته العاثرة لكنه أنقذ كنزا يُمثل صيدا ثمينا للعدو المتربص. ومن هذا المشهد البائس ولدت رائعة الشاعر تحيةً لصيحة المظلوم:

إليك يا صيحة المظلوم أهديها ** تحية يملأُ الإعجاب مهديها
يا شعلةً تغمُر الآفاقَ مشرقةً ** فوق المنابر تُعليها وتُذكيها.
.. إلخ.

أما "صيحة المظلوم" فقد ظلت عصيةً على القبض عليها رغم ما بذل النظام من جهود لتوقيفها؛ فبعد صدور العدد الأول من "الصيحة" سجّلَ الادعاء دعوى ضد مجهول (إكْس) وهو - حسب الدعوى- "فرد أو مجموعة من الأشخاص يكتبون منشوراتٍ يوزعونها في عموم التراب الوطني تدعو الى الفوضى وقلب النظام ليس لهم عنوان معروف".

وما أصعب أن تُطاردَ مجهولاً ليس له عنوان.

نقلا عن معالي الوزير عبد القادر ولد أحمدو

فيديو

فيديو

فيديو

فيديو

فيديو

فيديو

فيديو

الآن في المكتبات

فيديو

المتواجدون الآن

حاليا يتواجد 10 زوار  على الموقع