| أدونيس: هذا هو اسمي (ح 2)* |
| الأربعاء, 02 مايو 2018 07:55 |
|
"أشك في أن الكاتب يستطيع الكتابة عن أمه"
تقديم في هذه الوهدة العميقة العابرة من عمرنا الحضاري.. حين استقالت الثقافة، ونام الأدب في دواليب قوالب وقيود اجتماعية ومخزنية جامدة ومهترئة ومتآكلة، وعانت القصيدة من طول ليل قيامتها، وصارت العمالة والسفالة مجرد وجهة نظر يعبَّر عنها بحرية مطلقة؛ ها هو الأديب والكاتب بيار أبي صعب يمتاح لنا من معين الشاعر والمفكر العربي المجدد أدونيس ومضات مشرقة نرجو أن تصعق قلوب وعقول مَن مِن الناشئة لم يتلوث بعد ويصب بطاعون الانحطاط، علهم يسهمون في بعث أمتهم الجاثية والبشرية جمعاء التي تعاني من وطأة هذا الليل المدمر: "ماذا، إذن تهدم وجه الأرض ترسمُ وجهاً آخراً سواه؛ ماذا إذن ليس لك اختيار غير طريق النار غير جحيم الرّفض حين تكون الأرض مقصلةً خرساء أو إله". وسوف نبدأ تفريغ ونشر هذه الومضات تباعا في حلقات؛ لعل وعسى... إدارة الموقع بيار: تحدثنا كثيرا عن أبيك. وأمك؟ أدونيس: أمي ككل الأمهات اللواتي عشن في القرية. لم تكن تعرف القراءة ولا الكتابة، لكنها كانت تبدو لي ينبوعا من ينابيع العلم والمعرفة، لأنها كانت لي نجمة أو شجرة أو حقل كنت أعيش فيه. لا تتكلم كالشجرة أو الينبوع، لكنها تتكلم بجسدها كله، لا بالمفردات؛ بل بالطبيعة. تتكلم بالحركة، تتكلم بالحيوية، تتكلم بالحنان الصامت الهائل، لكنها لا تستطيع التعبير عنه بالكلام. أشك في أن الكاتب يستطيع الكتابة عن أمه، لأن الكلام عن الأم هو الكلام عن الرحم الأولى الأساسية التي هي رمز ولادة العالم ورمز تجدده. بيار: عندما نتحدث عن الأم نتحدث عن النساء. أنت محاط بنساء قويات متحررات مبادرات ومبدعات. قبل كل شيء هناك خالدة خالد سعيد.. نود استرجاع قصتك معها. مرحلة نزولك الشام وتعرفك عليها بدار المعلمين.. هذه المرحلة حلوة جدا. نود أن نعرف القصة. أدونيس: عندما تعرفت على خالدة كنا طفلين تقريبا. هي كانت في دار المعلمات في دمشق، وأنا كنت في السنة الأولى بكلية الآداب سنة 1950، كان عمري 20 سنة. تعارفنا في بيت سيدة كانت من الجميلات أولا، ومن سيدات دمشق الأوائل، وهي ابنة أخي فارس الخوري، عبلة الخوري، ولها فضل كبير علي، وأنا أحييها بهذه المناسبة كثيرا. ثم اختلفنا واتفقنا واختلفنا واتفقنا وخطبنا وفسخنا الخطبة ثم عدنا. أقول هذه التفاصيل لأن الحب في التحليل الأخير إذا لم يقم على صداقة عميقة بين الحبيبين لم يزل هشا. إذا لم تستطع المرأة أن تقول لزوجها ما تقوله لصديقتها فمعنى ذلك أن العلاقة بينهما ليست سوية وليست عميقة. ولذلك قلت - وأقول وأكرر- إن ما يحضن الحب ويعمقه هو في المقام الأول الصداقة بين الحبيبين، وإذا قامت هذه الصداقة كان هناك استقلال؛ أي عشيقان مستقلان، لكن يعيشان معا ويفكران معا، ويتحابَّان معا بصدق وحرية كاملة. وهذا يجعل العلاقة تكتشف الجوانب التي لا يكتشفها الإنسان عادةً. مثلا الجسم – أو الجسد- في ثقافتنا السائدة هو مكان للخطيئة، لكن في الوقت نفسه يخرج منه أعظم البشر! انظر التناقض.. كيف يكون الجسد مكانا للخطيئة ويخرج منه أنبياء وشعراء كبار.. كيف يمكن أن يكون مكانا للخطيئة! ثانيا الحياة.. الحب جسد في المقام الأول، والجسد قارة! لكي تكتشف جسد امرأة تحبها يلزمك عمر، يلزمك زمن طويل.. هذا أفقيا، لكن يلزمك عموديا أو رأسيا أزمنة أخرى كثيرة أيضا. أستطيع أن أجزم تقريبا أن قلة من العرب يعرفون جسد امرأة. لذلك يجب أن نعيد اكتشاف كل ما لدينا؛ بدءا من إعادة اكتشافنا للجسد، وإلى الحب. الحب عندنا غير موجود، في حين يوجد في المخيلة، وهذا تناقض! موجود في الوعد الإلهي بالجنة، يموت بشر من أجل هذا الوعد. وإذن فنحن بحاجة إلى أن نعيد اكتشاف هذا الجسد في حياتنا التي منحناها مرة واحدة، وإلى الأبد. وهذا أعظم اكتشاف يقوم به الإنسان. الإنسان ككائن أولا حرية. إذا لم يكن الإنسان حرا لم يكن شيئا من الأشياء، كرسيا أو غيره. وإذن فالحرية هي أهم شيء؛ فبالحرية تستطيع أن تتحاور مع العالم، ومع الوجود ومع الغيب ومع الله. وهذه الحرية التي أجدها هي في الإسلام، وهذا مع الأسف لا يقرؤه المسلمون. مثلا تجد سورة - أو نصا كاملا- حوارا بين الله وبين الشيطان، والشيطان يقول لله: لن أسجد لآدم، ويقول له: لا! والله أبقى هذا النص الحواري في القرآن الكريم، ويستطيع أي مسلم أن يقرأه. لكن يبدو أن المسلمين لا يقرؤون هذا الحوار. وأنا أتمنى من هؤلاء الذين يقفون ضد الحريات الفكرية وضد المرأة بشكل خاص أن يقرؤوا هذا النص.. هذا الحوار بين الله وبين الشيطان. أنا شخصيا أظن أنني عشت بحرية كاملة، لكن أعتقد أننا مهما أوغلنا في العيش بحرية، وفي الحرية، ومهما أوغلنا في ممارسة الحرية ضمن ظروفنا الاجتماعية والاقتصادية والسياسية السائدة نظل مقصرين. أنا مثلا أعد نفسي بين الأشخاص الأوائل الذين عاشوا هذا الشيء، لكن هناك أشياء لا أزال حتى الآن أخاف من التعبير عنها وأتردد فيه. المدى الحيوي ليديك ولعينيك ولأذنيك ولجسدك.. مدى غير متوفر في المجتمع العربي. كل فرد عربي لديه عجز موضوعيٌّ ما، ولديه قدرات تمكنه من تخطي هذا العجز، لكنه عاجز بفعل الثقافة السائدة. نحن الأفراد العرب كلنا قاصرون. خلقنا مجتمعا منافقا، مجتمع رياء وكذب. في العلن تقول شيئا، وفي الخفاء تقول شيئا آخر أو تمارسه! المجتمع العربي من المجتمعات القائمة على النفاق والرياء بدرجة عالية. "أول الجسد آخر البحر نهضتُ أسألُ عَنكِ الفجرَ: هَل نَهضَتْ؟ رأيتُ وجهَكِ حولَ البيتِ مُرتَسمًا في كلِّ غصنٍ. رميْتُ الفجرَ عن كَتِفي: جاءَتْ أمِ الحُلمُ أغواني؟ سألتُ ندًى على الغُصونِ، سألتُ الشَّمسَ هَل قرأتْ خُطاكِ؟ أينَ لمستِ البابَ؟ كيفَ مَشى إلى جوارِكِ وَرْدُ البيتِ والشجرُ؟ أكادُ أشطرُ أيامي وأنشطرُ: دَمي هناكَ وجسمي هَا هُنا – وَرَقٌ يجرُّهُ في هَشيمِ العالم الشَّرَرُ". بيار: على كل حال المثقف العربي امتحانه الفظيع هو كيف يتعاطى مع نساء بيئته الأساسية. وهذه فرصة لنحَيَّي ابنتيك: أروى مديرة مسرح باريس، ونينار التي تعمل في الفن المعاصر وأنجزت كتابا ممتعا أنا أعتبره من أجمل ما ألف عنك، وهو عبارة عن حوار كان بمثابة محاكمة لك، كان اتهاما، كان محاولة للفهم، كان محاكمة للأب الغائب، وفي الوقت نفسه كانت تجاهر بأنوثتها. أعتقد أن من الممتع أن نناقش أو نورد فقرة من كتاب نينار "أحاديث مع والدي أدونيس".
أنا خجلت حينما رأيت ما كُتب عن نينار خصوصا. أنا أعرف هذا الموضوع ولا يهمني. بيار: وهي لا يهمها أيضا. أدونيس: بالتأكيد لا يهمها، لكن.. بيار: ولكنها تقول في الكتاب إنها تحصنت باللغة الفرنسية.. تحصنت بمجتمع آخر كي تجرؤ على هذه المواجهة. أدونيس: تماما. لكني أتكلم عن النسخة العربية، عن ردود الفعل العربية حينما ترجم على العربية. هذا مع العلم أن كثيرا من العرب استقبلوه بترحاب كبير، وأنت بين أوائلهم. في الذاكرة الثقافية العربية التقليدية لم تخلق المرأة على صورة الخالق. خلقت على صورةٍ ما، لكنها لم تخلق كما خلق الرجل. خلقت من ضلع الذكر، لم تنشأ كما أنشئ الرجل من الطين، ولم تخلق على صورة الله. فازدراء المرأة أساسه النص الديني، وهذا لا يجوز أن ينسى. يمكن تأويله بشكل آخر، لكنه أول بالطريقة التي أدت إلى النظر للمرأة كأنها كائن تابع مشتق من الرجل. وإذن فالأنثى تابعة للرجل في كل شيء، وهي في الدرجة الثانية وليست في الدرجة المساوية. بيار: كل الأديان بالمناسبة أدونيس: الأديان الوحدانية فقط بيار: نعم.. الأديان التوحيدية. أدونيس: وضع المرأة في اليهودية أسوأ بكثير من وضع المرأة في الإسلام، لكن كل الوحدانيات الثلاث أعطت المرأة دورا ثانويا جدا وهمشتها. ولذلك بدل أن تعيد الأنظمةُ الحديثةُ النظر وتعطي المرأة مكانتها وتحررها من جميع القيود وتساويها بالرجل، أنت تعرف النتائج؛ حتى المثقفون وقادة الأحزاب السياسية التقدمية لم يفعلوا ذلك. أعطيت بعض الحقوق الثانوية العادية، لكن المرأة حتى الآن غير موجودة في المجتمع الإسلامي العربي بوصفها كائنا حرا مستقلا، سيد إرادته ومصيره. "ينبغي أن أسافرَ ينبغي أن أسافرَ في الجوع, في الوَرِد, نحو الحصادْ ينبغي أن أسافرَ, أن أستريحْ تحت قوسِ الشّفاهِ اليتيمَهْ، في الشّفاهِ اليتيمَةِ في ظِلّها الجَريحْ زَهرةُ الكيمياءِ القديمَهْ". ____________
* نقلا عن قناة الميادين. |
