كل طرقي تؤدي إلى تونس! (ح1)
الثلاثاء, 03 أبريل 2012 14:50

altلم تختلف بداية رحلتي هذه السنة، إلى العراق لحضور مهرجان المربد، عن سابقتها في السنة الماضية إلى بريطانيا.. فكل طرقي تؤدي إلى تونس!

غادرت مدينة نواكشوط بحلوها ومرها يوم الأربعاء 20  نوفمبر 1996  على متن طائرة تابعة للخطوط الجوية التونسية تربط نواكشوط أسبوعيا بتونس العاصمة.

تم الإقلاع ظهرا. وكانت التعليمات، وبرامج الرحلة ـ خلافا لما به العمل عندنا – في غاية الوضوح, وبلسان عربي وفرنسي مبين، يؤديه صوت نسائي مثقف رخيم.

لم يسعفني الحظ، في هذه الرحلة، بمفاكهة أديب ناقد ظريف "يحملني"، كما في سابقتها، حين جلست إلى الأستاذ الدكتور محمد ولد عبد الحي، طيلة الرحلة، في سمر شيق حول المدارس الأدبية العربية المعاصرة.

خلدت قليلا إلى الراحة، متناسيا هموم نواكشوط. وبعد غداء شهي وشاي، وقهوة لمن أراد, انصرفت إلى رصد الغروب.

ما أجمل أصيل السماء! عالم سفلي يغرق، رويدا، رويدا، في الظلام، فيلفه ثوب الدجى. وآخر علوي لا يزال ينزف شعاعا فضيا، يسربله من المغرب. نهرب منهما معا. فيدركنا قوس قزح تنعكس أشعته الزاهية على أديم مؤخرة طائرتنا السابحة في الفضاء، على ارتفاع عشرة آلاف متر، كما تنعكس ألسنة نار أججت في خشب السيال، على صفحة وجه تلميذ محظرة شاحب. وما هي إلا دقائق عشر، حتى ابتلعنا الظلام. ولم يبق من شمس ودعتنا، لتمتطي قبة سماء أخرى، غير شفق ضرج المغرب كحريق هائل نكاد لا نفلت من مطاردته.

أما طائرتنا فـ :

"ما أقبل الإظلام حتى أقبلـت      تنساب في لجج الظلام تماشـى

ترمي بعينيها الغيوب منيـرة       وجه الظلام، تفتش الأغطاشـا

حتى إذا فوق المحطة  حلقت       وتبوأت منها الكديـد  فراشـا

وتهافت الأقوام حول ضيائها       فتخالهم،  حول الضياء، فراشا"

وصلنا مطار تونس قرطاج بعد رحلة طيبة, كان الجو معتدلا، والمطار جميلا ونظيفا. وكل الخدمات على المستوى اللائق، سواء من حيث الوسائل، أو الأداء، أو التأطير. وللخطوط الجوية التونسية أسطول جوي كبير، وشبكة مستخدمين مهرة، لا تنقصهم الحوافز، ويتحلون بروح المسؤولية.

ألقت طائرتنا عصاها بين أترابها الجاثمة, "مثل الحدوج على ذرى الحيتان"،  فأفضنا إلى المدينة.

 

"قضاة تونس"

بدأت علاقتي بتونس، عندما جئتها وافدا، في أول بعثة علمية موريتانية تتوجه إلى دولة عربية. وذلك في يناير سنة1961، السنة الأولى من عمر الدولة الموريتانية المستقلة. كان قضاة تونس، يومئذ، المثل الأعلى للمجتمع العربي المثقف الناشئ. فهم، بمعارفهم، وانتماءاتهم الاجتماعية، يشكلون نخبة, وحظوا، فوق ذلك، بالوفادة إلى دولة عربية حديثة ورائدة، تلقوا فيها العلوم، وجلبوا منها مئات المراجع النفيسة، التي كان اقتناؤها، إلى ذلك الحين، حكرا على الحجاج، وما كان أندرهم.

كانت بعثة قضاة تونس بحق، إحدى ركائز النهضة الثقافية العربية التي نجني ثمارها اليوم. أما الركيزة الأخرى، فتلك الحركة التي فجرها المفتش الأفغاني ذو الغليون الكبير السيد عكاري، الذي أدخل تعليم اللغة العربية إلى المدارس النظامية، وأنشأ شهادة الكفاءة في التعليم (العكارية)، ونظم امتحانات دورية لاكتتاب المعلمين اختار موضوعاتها من الأدب الحديث وعلم النفس, وأسس مكتبة عربية فتح أبوابها أمام القراء في حي سندونة بمدينة سان لويس التي كانت عاصمة موريتانيا في ذلك الوقت.

خضع اكتتاب أولئك القضاة لمسابقة أشرفت عليها نخبة من الفنيين نواتها الإداري الفرنسي الراحل (غابرييل فيرال)، المستشار يومها بوزارة العدل والتشريع، وتم فرز النتائج بموضوعية، تختلف عن معظم أساليب ومعايير اليوم.

وفي يوم من أيام أكتوبر سنة 1960، وفي مدينة ريشارتول السنغالية، حيث متجر والدي، أعلنت إذاعة موريتانيا ـ محطة اندر نتائج تلك المسابقة. وكنت من ضمن الناجحين.

كنت صبيا دون السابعة عشرة، وكان يحرجني وجودي بين جهابذة العلماء الذين من بينهم من هم في سن أبي وأكبر. ومع ذلك كنت في غاية الغبطة والسرور بنجاحي. لم يشاركني أحد من محيطي هذا الشعور، لعدم وعي أهمية الحدث، أولا, وثانيا، لتورع معظم زوايا القبلة آنذاك من عمل المخزن، الذي يرونه موالاة للنصارى وأعوانهم. خاصة إذا تعلق الأمر بصنعة القضاء التي يقدسونها، ويرون وجوب الفرار منها، أسوة بالسلف الصالح.

أما أنا.. وقد تمردت على اقتفاء أبي وعمي ورجال محيطي في امتهان التجارة، فكان حلمي الكبير أن اصبح "موظفا"،  لا طمعا في المال، بل لما كان في ذلك من أسباب الرقي الثقافي والاجتماعي. راودتني في البداية فكرة الانخراط في سلك الدرك الوطني، لانعدام الآفاق المفتوحة أمام المتطفلين على الثقافة العربية حينئذ. لكن سرعان ما أقلعت عن تلك الفكرة, وتعلقت بأسباب القضاء والتعليم، عندما لاح أفقهما، واجتزت مسابقتيهما بنجاح خلال نفس السنة. واخترت القانون!

 

لائحة الناجحين:

"بواسطة مقرر رقم 315 و.ع.ت بتاريخ 28 أكتوبر 1960 يعلن قبول  المرشحين التالية أسماؤهم في المسابقة التي نظمت يومي 17 و 18 مارس 1960، وذلك بوصفهم ناجحين في تدريب للتكوين المهني لقضاة محاكم القانون الإسلامي, وذلك حسب ترتيب الدرجات:

  1. أب ولد انه – النعمة *
  2. عبد الله ولد الشيخ المحفوظ – النعمة *
  3. محمد ولد ابو مدين – بوتلميت.
  4. بيا ولد السالك – النعمة*
  5. عبد الله السالم ولد يحظيه – انواكشوط. *
  6. الطالب اخيار ولد الشيخ بوننه – سان لويس*
  7. الدنبجه ولد معاوية – بوتلميت.
  8. محمد عبد الرحمن ولد ميلود – بوتلميت*
  9. محمد سالم ولد محمد عالي – بوتلميت*
  10. أحمد ولد عبد الله – سان لويس  
  11. محمد ولد أحمد ولد البشير*
  12. عبد الرحمن ولد محمد بلال – ألاك *
  13. هارون ولد الشيخ سيديا – بوتلميت *
  14. محمد يحي ولد محمد الدنبجه – بوتلميت*
  15. الشيباني ولد محمد ولد أحمد – الاك
  16.  محمد عبد الدايم ولد اتلاميد – النعمة*
  17. التراد ولد عبد القادر – تجكجة *
  18. سيد احمد ولد احمد ولد الهادي – الاك *
  19. إسلم ولد محمد احيد – تجكجة *
  20. ابراهيم ولد مولود – انواكشوط *
  21. محمد ن ولد بار ك الله – سان لويس*
  22. محمد سالم ولد أبي المعالي – اطار
  23. محمد المصطفى ولد محمد عبد الرحمن ولد الشيخ احمد – كيفه
  24. محمد ولد محمذن فال بوتلميت*
  25. محمد عبد القادر ولد ديدي – بوتلميت*
  26. سيد عبد الله ولد الزين – تجكجه*
  27. محمدن ولد اشدو – سان لويس*
  28. محمد الأمين ولد آكاط ـ انواكشوط
  29. محمد محمود ولد سيدين – العيون*
  30. سالم ولد الحسن ولد زين – بوتلميت*
  31. احمدنا ولد محمد مالك – بوتلميت*
  32. احمد ولد حكي – العيون"

 

الرحلة إلى تونس:

لم يفد إلى تونس غير 24 ناجحا من ضمن هذه اللائحة وهم الذين وضعت أمام أسمائهم علامة * .

بدأ الإعداد للسفر من مدينة سان لويس (حيث وزارة العدل) التي غادرناها جوا إلى دكار. كانت المرة الأولى التي أمتطي فيها طائرة. ومن دكار توجهنا جوا  إلى مدينة مرسيلية الفرنسية، التي أقمنا فيها أياما ثلاثة أو أربعة بغية التسوق والتهذيب. كانت محطة مرسيلية، بالنسبة لنا، بمثابة التحضير لدخول عالم المدينة. ففيها واجهنا مشاكل العصر. وكان ألحها: استخدام مرافق الفندق, طريقة الأكل في المطاعم واستعمال أدواتها, اقتناء وارتداء الملابس العصرية, آداب ونمط السير في الطريق العام الخ.. وباختصار شديد كان الفرق بيننا، وبين سلفنا أصحاب الكهف، ونحن ندخل "مغاني شعب مرسيلية" يتمثل في رواج العملة التي في أيدينا لا غير. ففي اليوم الأول، كان مجرد مرورنا بشارع من شوارع المدينة، كفيلا بتعطيل حركة المرور. فمشهد كوكتيل اللحى، والدرأريع، ومختلف أنواع وألوان الجلابيات والعمائم، في شارع من شوارع العاصمة الاقتصادية الفرنسية، بديع جدا، ومثير. خاصة، إذا زاد من طرافته، ركوض القنصل الموريتاني، الفرنسي الجنسية، يمينا ويسارا، وهو يعد القطيع، عند كل منعرج، للتأكد من عدم ضياع أي رأس منه. وكان "المسكين" يقدمنا إلى المطاعم و الفنادق والمخازن معتذرا: "إنهم قادمون من ما وراء البحار"!

وفي مرسيلية تمتعت برؤية الجبل، وركوب البحر لأول مرة. خرجنا في نزهة بحرية على يخت، لعل القنصل أجره لذلك الغرض, أخذنا نمخر عباب البحر الأبيض المتوسط.

 شعرت حينها، وأنا الفتى الإكيدي، بسعادة لا حدود لها، وقد ركبت بحر طارق بن زياد، الذي كنت أسمع عنه في "الأساطير".. دون أن أحلم برؤيته. فما أغرب الأقدار!

هاج البحر واضطرب, فترنح اليخت ثملا, عندها كتبت مخاطبا البحر بيتين إلى صديقي الجديد محمد سالم ولد محمد عالي ولد عدود (الشيخ العلامة محمد سالم ولد عدود). وكنت أظنه البحر.  وكان بالفعل بحرا. لكن البحر أخوه الأكبر الذي سمي كذلك تيمنا بعبد الله بن عباس:

ترفق بنا يا بحر، ورأف، فإننا     بناة بلاد يختشي ضيمها البحر

وفينا بحور هابها كل أطلـس      محيط ومنها السيد الماجد البحر

فكتب إلى محمد سالم، بداهة، منبها ومقرظا:

أرى في بحور الشعر رأيك مقسطا        جعلت الطويل الأبيض المتوسطا

فأخرجت در البحر والبحر زاخـر        بغوصك فيه آمنا  متبسطـــا.

ولم نبرح مرسيلية حتى صرنا على مستوى معين من التمدن، فارتدى معظمنا الزي العصري، وتهذب سلوكنا، واكتسبنا الكثير من عادات الحضر. وحدها عقدة رباط العنق ظلت مستعصية على بعض زملائنا، أصحاب الحل والعقد، إلا انهم انتدبوا لذلك خبراء من الجماعة. ولم يبق غير أفراد قلائل لم يؤثر فيهم القنصل، الذي يبدو أن لديه تعليمات في هذا الشأن. ولم ننجح نحن في إقناعهم، رغم ما بذله رواد مثل محمد سالم ولد عدود وعبد الله ولد الشيخ المحفوظ ولد بيه وعبد الله السالم ولد يحظيه. وظل أولئك الأفراد على الفطرة! إلى أن عادوا في آخر السنة إلى ارض الوطن. ومن مرسيلية أنخنا بتونس على متن طائرة كرافيل أغلب ظني أنها تابعة للخطوط الجوية التونسية.

في الحلقة القادمة: مقامنا في تونس

 

فيديو

فيديو

فيديو

فيديو

فيديو

فيديو

فيديو

الآن في المكتبات

فيديو

المتواجدون الآن

حاليا يتواجد 10 زوار  على الموقع