سيداتي ولد آبه.. نجم من الرعيل الأول يأفل
السبت, 09 نوفمبر 2019 07:15

 

"إكس ول إكس إگرگ"    

altقبل عشرة أيام رحل المغني السنغالي سامبا ديابري سامب عميد الفنانين في السنغال الذي صنفته اليونسكو "كنزاً بشرياً حياً" عام 2006، نعاه الرئيس السنغالي ماكي صال في تغريدة له قائلا: "خسرت السنغال أحد أشهر أبنائها الحاج سامبا ديابره سامب الذي رفعته اليونيسكو إلى مصاف الكنز البشري الحي وهو ملك التدينيت". واليوم في المنتبذ القصي يرحل صنوه وشرواه عميد الفنانين الموريتانيين، ملحن نشيد الاستقلال، الفنان الكبير سيداتي ولد آبَّه.. يرحل في صمت، لا بواكيَ له، وهو الأجدر بأن تصنفه اليونسكو "كنزاً بشرياً حياً" وأن يغرد رئيس البلاد بنعيه، وأن تتشح الأرض غِبّ رحيله بالسواد.

من الرشيد 45 حيث الطلل الناطق بالشعر والشجو، وحيث الجمال وأكمام النخيل والقصر المشيد، وحيث المتيم المعلل بالنسيم وبالنشيد.. انطلق الفتى سيداتي ولد ألفه ولد آبه ولد الجيش ولد سدوم ولد انجرتو، صاحب الصوت الجميل واليد الماهرة في العزف، وهو فتى يافع من حلة "أولاد سيد الوافي" متجها إلى الجنوب الغربي على خطى ولد آدبه.. إحيَّاكْ وأشْوِي وتيمجيجات والحرج وأم اطبول وأشاريم وتنيامن وأرْجِ وإدوجن وأشاريم وانواشيد ولحويطات. أوغل إلى الجنوب الغربي ليصل تخوم المجرية بموقعها الجميل بين الكثبان الرملية والسلسلة الجبلية. اجتاز الجبل الأشم "أشتف" الذي يرتفع 700م عن سطح الأرض، حيث تراءت له "انبيكه" بعد المجرية بجمالها الخلاب وبِواديها الجميل "تامورت أنعاج" وخزان "كانكارا" وحوض "مطماطا" ذي التماسيح البحرية العائشة على مياه الأمطار المنصبة من أعلى جبال تگانت. هناك اطبت الفتى سيداتي انبيكه فشدا وغني وتزوج بابنة أيده منينه التي تنحدر من أسرة فنية لا تقل عراقة في الفن عن أسرته. وفى "عريظ" شمال انبيكة سنة 1958 رزق بابنة سماها "اللُّوله" ثم آذن بالقفول بالزوجه والعيال من التامورت إلى شمال شرق تگانت، إلى الرشيد وقصر البركة، حيث حلة أولاد سيد الوافي.

ذاع بين الناس ذلك الصوت العجيب كأنه قادم من السماء، وسارت بذكره الركبان. يتذكر الفنان سيداتي ولد آبه أن أول أغنية أداها للإذاعة كانت سنة 1958 حين أتى إلى مدينة تجگجة "ديّارا" يبحث عن جمل ضال، فطلب منه الوالي الفرنسي البقاء حتى يسجل شريطا للإذاعة؛ متعهدا له بإرسال من يبحث له عن الجمل، وكان الترجمان وقتها بينه وبين الوالي - كما يقول هو- أحمد ولد محمد صالح. وحين تم اختيار قطعة الشيخ باب ولد الشيخ سيديا نشيدا وطنيا تم تسليمها للملحن الفرنسي من أصل أوكراني توليا نيكيبروتزكي(Tolia Nikiprowetzky) في اندر، فاستدعى الفنان سيداتي لتلحينها محليا في اظهورت موسيقى البظان وهو يتمثل "مارش الصنادرة" ليكتبها توليا بـ"نوتة" صامتة فتصلح لنصرة الإله وتصلح لـ"ول داداه كاس اندر".

وحين عين أحمد ولد محمد صالح واليا على تگانت 1960 قام بإرسال سيداتي إلى انواكشوط لينعش برامج الإذاعة الوطنية، فشارك رفقة المختار ولد الميداح وسيد أحمد البكاي ولد عوّه في إنعاش برامج الإذاعة. ثلاثي الأبعاد هذا يصفه المؤرخ محمد ولد مولود ولد داداه بأنه استطاع بفنه (أزوان) أن يخلق هوية وطنية جامحة معتزة بخصوصيتها ورافضة الذوبان في فضاءات أخرى، في ظل الأطماع التي تناوشت المنتبذ القصي.

سحر سيداتي بصوته أهل المنتبذ القصي فكانوا يتسمرون غداة الاستقلال في حِلَق حول"tourne-disques" التي كانت أقراصها السوداء المثقوبة تدور على سطح ذلك الجهاز الكبير تصدح بصوت سيداتي قادما من خلف الغيوم. وبعدها "اترانزيتورات" الأكثر انتشارا، فكان الناس يخشعون وهم يسمعون صوت سيداتي، حتى إن راعيا كان لدى الشيخ يعقوب ولد الشيخ سيديا أهمل وظيفته من شدة ولعه بصوت سيداتي المنبعث من الراديو، ويقال إن من كرامات الشيخ يعقوب أن جعل الله لذلك الراعي راديو في صدره تبث أغاني سيداتي على مدار الساعة.

أدركت ذلك الراعي وهو يتجول في انواكشوط بعد أن فقد الراديو البث الحي وكنا نسمع ما يشبه "اتشنشين" وكان هو يغني بصوته الجميل أغاني سيداتي.

غنى سيداتي الابتهالات والمدائح النبوية. غنى للحب، للوطن، للاستقلال.. لحن وغنى النشيد الوطني. غنى للأوقية.. وذات "هول" شجي عبر الأثير كتب له القاضى بِيَّ بن سليمان الناصرى:

ألا بلغنْ سيداتِ إن كنت غاديا ** رسالة قاض بالعـيون دعا بيا

أشاعر موريتان أرقـتَ مقـلتى ** وذكرتنى عـهد الصبا وشـبابيا

بترداد بيت للملوح موهـــــــنا ** "دعوني دعوني قد أطلتم عذابيا"

فكرره لي وهنا ببيـگِ بلحنكم ** فمن لحنكم أشفي همومى ودائيا.

حين حدثنا الإمام الأكبر بداه ولد البوصيري (رحمه الله) بقصة الشيخ أحمدو ولد أحمذيه مع الفنان الأعور ولد انگذي، قال معلقا: "هول الرجل للرجل دون آلة ما فيه ش؛ وهو ما شهدته بين شيخي ولعور. لجاكم سيداتي گولولو يطرح الآلة وايغنيلكمْ".. قلت لصديقي معلقا: "الامام ما يعرف عن سيداتي عگبو سدوم"! وكان سدوم ولد أيده يومها في عصره الذهبي.

سيداتي هو أول فنان طور موسيقى البظان بإدخال آلة الجيتار، وهو أول فنان تغنى عبر الأثير بروائع الشعر العربي؛ فهو ينتمي إلى ثقافة عالمة، ويأوي من الذوق إلى ركن شديد، فغنى للبرعي:

تجلتْ لوحــــدانية ِ الحقِّ أنوارُ** فدلتْ على أنَّ الجحودَ هوَ العارُ

وأغرتْ بداعي الحقِّ كلَّ موحدٍ ** لمقعدِ صدقٍ حبذا الجارُ والدارُ

وعنى لابن الفارض سلطان العاشقين:

حديثُهُ، أوحَديثٌ عَنهُ يُطرِبُني ** هذا إذا غابَ أوْ هذا إذا حضرا

كلاهُما حَسَنٌ عـندي أُسَرّ به ** لكنَّ أحلاهـــــما ما وافق النَّظرا

وغنى لغيلان ذي الرمة:

دنا البينُ من ميٍّ فـــرُدَّتْ جِمالُها ** فهاجَ الهوى تقويضُها واحتمالُها

وقدْ كانت الحــــسناءُ ميٌّ كريمةً ** عليــــنا ومكـــــروهاً إلينا زيالُها

 

..دَروجٌ طَوَت آطالَها وَاِنطَوَت لَها ** بَلاليقُ أَغفالٌ قَلـــــيلٌ حِـــــلالُها

فَهذي طَـــواها بُعدُ هــــــذي وَهذِهِ ** طَواها لِهذي وَخدُها وَاِنســـلالُها

وغنى لقيس بن الملوح:

دَعوني دَعوني قَد أَطَلتُم عَذابِيا ** وَأَنضَـجتُمُ جِلدي بِحَرِّ مَكاوِيا

دَعوني أَمُت غَمّاً وَهَمّاً وَكُربَةً ** أَيا وَيحَ قَلبي مَن بِهِ مِثلُ ما بِيا

وغنى للإمام الشافعي:

بَلَوتُ بَني الدُنيا فَلَم أَرى فيـــــهُمُ ** سِوى مَن غَدا وَالبُخلُ مِلءُ إِهابِهِ

فَجَرَّدتُ مِن غمدِ القَناعَةِ صارِماً ** قَطَـــعتُ رَجـــــائي مِنــهُمُ بِذُبابِهِ

فَلا ذا يَراني واقِفاً في طَريـــــقِهِ ** وَلا ذا يَراني قاعِـــــداً عِنـــدَ بابِهِ

غَنيٌّ بِلا مالٍ عَنِ الناسِ كُلِّـــــهِمْ ** وَلَيسَ الغِنى إِلّا عَنِ الشَيءِ لا بـهِ

وغنى ليزيد بن معاوية:

ألا فاسقني كاسات خمر وغنِّ لي ** بِذِكْـرِ سُلَيْمَـى وَالرَّبَـابِ وَتَنَدمِ

وَإيَّـاكَ واسمَ العَـامِـرِيَّـةِ إِنَّـــــنِـي ** أَغَـارُ عَلَيْـهَا مِـــن فَـمِ المُتَكَلِّـمِ

أَغَـارُ عَلَـى أَردافِهَـا مِن ثِيَابِـــهَـا ** إذَا لَبَسَتْـهَا فَـــــوقَ جِسْـمٍ منعم

وغنى لابن دأب:

دَعوني لما بي وَانهَضوا في كَلاءةٍ ** من اللهِ، قد أيقَنتُ أن لَستُ باقِيَا

وَأن قد دَنا مَوتي وحـــــانَت منيّتي ** وَقـد جَلَبت عَيني عليّ الدوَاهِيا

أمُوتُ بشَوْقٍ في فُؤادي مُــــــبرِّحٍ ** فَيَا وَيْحَ نَفسِي مَن به مثلُ ما بيَا

وغنى للأديب محمد ولد ودادي رحمه الله:

ألا فاربعنْ بالربع من سفـح تندمــكِ ** وفي كل ربع من مرابعـــها فابكِ

فنثرا به صون الدموع كــــــــــأنـه ** تَحَدّرُ منظوم الجـــمان من السلك

لئن كان في الأيام ملهى ومشـــتـهى ** ففـــــيها، وإلا عدّ عنهن للنـسك

لعل مُضاعَ العمر في اللهو والصبى ** يبَدله حـــــسنا إلهـــك ذو المــلك.

وغير ذلك من روائع الشعر.

لم يكن سيداتي مجرد نسَمة في تعداد سكان هذه البلاد. كان حضارة، كان اجتماعيا، أنيقا مرهف الحس، رفيع الذوق، ذا أنفة، محببا كريما، طلق المحيا حسن الأخلاق. ولو كانت اليونسكو أنصفته لصنفته "كنزا بشريا يمشي على قدمين". كان تراث أمة احترق وبنيان قوم تهدم. كان شاعرا أنتج روائع من الشعر الحساني لا تقل جودة عن شعر ولد آدبه وأضرابه، وأحيا من ألحان وأشوار وأوزان الترات ما كان سيضيع لولاه.

تعازينا لجميع الموريتانيين.

فمَا كانَ قَيْسٌ هُلْكُهُ هُلْكَ واحِدٍ ** ولِكَنّهُ بُنْيَانُ قَومٍ تهَدَّمَا.

تغمده الله بواسع رحمته، ولا غبّت ديمة الرحموت جدثا حله.

كامل العزاء 

فيديو

فيديو

فيديو

فيديو

فيديو

فيديو

فيديو

الآن في المكتبات

فيديو

المتواجدون الآن

حاليا يتواجد 2 زوار  على الموقع