سفارة الأَرْز في إفريقيا الغربية (1)
الاثنين, 21 يناير 2019 21:30

 

بكائية في تأبين فارسي المهجر الإفريقي: الرئيس المدير العام سعيد فخري، والأستاذ المحامي أحمد علي مخدر

altتمهيد:

عندما اقتحم النخل جنوب أوروبا فاتحا، حمل معه النور والحضارة؛ ما جعل بعض عارفيها مثل الروائي والناقد والفيلسوف الفرنسي أناتول فرانس وآخرين يصفون بحق يوم تراجع العلم والفن والحضارة العربية في معركة بواتييه أمام الهمجية الإفرنجية سنة 732 م بأشأم يوم في تاريخ فرنسا وأوروبا.(1) 

وعندما هاجر الأرز الشامي إلى إفريقيا ضرب شرايينه في الأرض ومد أطنابه في السماء، سندبادا فينيقيا، يحمل ثقافة وفكر ومُثُلَ نهضة العرب الواعدة، ويحدو الثورة على الاستعمار الغربي قديمه وجديده، فسطر ملحمة تاريخية ما تزال بعض فصولها مجهولة لم تكتب بعد.   

    

وفي هذا التأبين الرمزي المستحَق لفارسين من فرسان المهجر الإفريقي هما الرئيس المدير العام سعيد فخري، والأستاذ المحامي أحمد علي مخدر (رحمهما الله) سنميط اللثام عن فصول بديعة من ملحمة المهجر الشامي عموما، واللبناني خصوصا، في إفريقيا الغربية. ولا تتعلق هذه الفصول بتتبع ما قدمه المهاجرون الشاميون لإفريقيا من عطاء وفير وخير كثير، ولا ما نسجوا فيها من أواصر وعرى؛ فذلك يحتاج إلى بحث واسع ليس المجال مجاله، وإلى تحبير مجلدات لا تعد ولا تحصى. بل تتعلق حصرا بذكر بعض ما أسدوه من أياد بيضاء إلى موريتانيا.

وسنتطرق، بعون الله، إلى ثلاث حقب من تاريخ هذه السفارة، هي: حقبة الاستكشاف في صدر القرن العشرين، خلال العهد الاستعماري (الفصل الأول) وحقبة الثورة على الاستعمار الجديد والصهيونية في ستينيات نفس القرن وما بعدها، وحقبة النصر المؤزر فجر القرن الواحد والعشرين!

ذلك أن أجيالا متعاقبة، وسفراء بررة من الشام عموما، ولبنان خصوصا، تعاقبوا عبر تلك الحقب على العناية الفائقة بهذا الجزء المنسي من الأمة العربية، فبذلوا الغالي والنفيس في سبيل نهضته ورفعه إلى مصافّ الدول الحرة الكريمة.

وبخصوص المؤبَّنَيْن الكريمين فمن مناقبهما الكثيرة أنهما حملا باكرا هم موريتانيا، فشاركا شبابها الرائد الرائع البطلَ مسيرته الطويلة الظافرة من أجل التحرير والتعريب، وقدما له ما بوسعهما من مساعدة في بلوغ أهدافه النبيلة. وهذا ما سوف نتطرق لبعض تفاصيله.

أولم يأن لهذه البقية أن تدَّكِر قبل الغروب، و"تقيمالجدار قبل أن ينقض" حتى إذا بلغت الأجيال أشدها استخرجت كنوز الماضي فربطت به الحاضر وبنت عليهما - بعون الله- مستقبلا مشرقا يعترف بالجميل لكل الذين ساهموا من قريب أو بعيد في إقامة وتحصين وتحسين هذا الصرح، وينوه بجهودهم، ويهتدي بهديهم ويقتدي ببذلهم وعطائهم، ويتعلم من تجاربهم وخبرتهم، ويشرع أبواب الوطن ونوافذه للتجديد والخلق والابتكار!

فبذلك وحده، نستطيع ضبط وتنظيم حراكنا، وتولي وجهتنا، وتحديد هويتنا الحضارية الواعية، فنتجنب التردي في بوائق الشر.. وما أكثرها في هذا العالم الهائج المتوحش!

    انواكشوط في 25/12/019    

الفصل الأول: سفارة الاستكشاف "في البدء كانت الكلمة"

لقد كان لهذا الفصل من سفارة الأرز رواد شاميون وموريتانيون، ومع ذلك فسنكتفي بذكر اثنين من أولئك الرواد، هما: الأستاذ محمد يوسف مقلّد، والشيخ المختار ولد حامدٌ؛ سفارة الاستكشاف والثقافة والصحافة: كاتبان وشاعران و"تاجران" أيضا...

الأستاذ محمد يوسف مقلد

هو شاعر وأديب وكاتب عاملي من جنوب لبنان، طوحت به طوائح الزمن الاستعماري الفظيع إلى إفريقيا الغربية (السنغال تحديدا) سنة 1937 بحثا عن العيش فكان أقسى مما يتصور لشدة شظفه في المستعمرات أثناء الحرب العالمية، وعنصرية المستعمرين واحتقارهم واستغلالهم للشعوب المستعمَرة: فلنستمع إليه وهو يندب حظه العاثر في مهجره بالسنغال:

رأيت العيش في السنغال ضربا    من الكدح الذي لا خير فيه

فهبك نجوت من طفل صغـــير       فإنك غير نــــاج من أبيه

وهبك شكوت أمرك للفرنسي       لينصف يزدريـك ويزدريه

وفي خضم مأساته الأليمة تلك ابتسم له حظ نادر أنساه شقاءه وشغله بهمّ آخر غير نكد التجارة والبحث عن لقمة العيش، وأيّ حظ؟ فها هو ذا يكتشف صدفة في مدن مهجره، وعلى ضفافه الشمالية، عرب إفريقيا الغربية (البيضان) فيهيم بهم ويشتغل بالتواصل معهم والتعرف عليهم والتعريف بهم، ويترجم حبه كتبا وقصائد عنهم؛ فيقول في إحدى قصائده منوها بدورهم ومنبهرا بذكائهم:

للضاد في إفريقــيا رايـــــة      خـــــفاقـــــة رفرافة عـــاليه

يرفعها العرب بنو عمنا الــ      بيـــضان أهل الهمة الساميه

هم ناشروها هم أساتــيذها     هم حصنها هم درعها الواقـيه

ترجمت حبي كتبا عنــــهمُ      تحــــــمل من لبنان أشواقـيه

إن الذكا كل الــــــذكا كائن     تالله بين النــــــهر والسـاقــيه

عروبة تجمعها وحــــــدة      كبرى بتــــلك الأربُع الـنائــيه.

ويتحدث عنهم في أخرى عنوانها "ولد اعلي بابي" وعن مأساة الاستعمار التي يعيشونها ويعرّض به ويدعو إلى الثورة عليه، فيقول:

ولد اعلبابي أي بارحة النـــــــوى** أشكو إليك وأي شـــــــوق أتبع

شوق الرحيل، ولم أُنَفِّض بعدُ عن ** ثوبي غبار السير إذ أنا مزمع

***

يا موطن المستعبدين وبلدة الـ ** ـمستضعفين عداك خــطب مدقع

وفريسة المستكلبين ومَنْ هُمُ ** تالله منك ومن وُحُــوشك أجـــوع

صور الحياة تمر فيك كئــــيبة ** مملولة والعيش عنـــدك أســفـــع.

لقد نقلت سفارة الأرز في هذه المرحلة الفارقة من  تاريخنا على يد الأستاذ محمد يوسف مقلد موريتانيا من النسيان في بياتها السرمدي جاثية في منتبذ قصي، بين "أحضان" المحيط الأطلسي ونهر صنهاجة ومجابات الصحراء الكبرى، فقذفتها بين أيدي العرب في فجر نهضتهم ليقطروها إلى الأمام؛ تماما كما ألقى الفتى الشيخ محمد سالم ولد عدود (رحمه الله) بأدب القبيلة والقبيلة معا في أتون معمعة التحرير ومقاومة العدوان الثلاثي بقطعته الرائعة التي كانت باكورة نهضة الأدب الموريتاني الحديث ووعيه بهموم عصره؛ والتي مطلعها:   ومدلة بالحسن قلت لها: قري ** إن الجمال جمال عبد الناصر!

وكان من ثمارها اليانعة كتاباه:

* "موريتانيا الحديثة غابرها وحاضرها، أو العرب البيض في إفريقيا السوداء.. تاريخهم، أصلهم، عروبتهم، أحوالهم" (الناشر دار الكتاب اللبناني للطباعة والنشر والتوزيع بتاريخ 01/01/1960) وهو كتاب تزامن صدوره مع الاستقلال وبزوغ الدولة الموريتانية إلى الوجود. وتقول عنه نبذة النيل والفرات: "على الرغم من أن عنوان هذا الكتاب موريتانيا الحديثة إلا أننا لن يطول بنا الأمر حتى ندرك أن مؤلفه محمد يوسف مقلد يتحدث فيه عن موريتانيا الستينات من القرن العشرين، وبالأخص عن العرب البيض في إفريقيا السوداء (تاريخهم أصلهم عروبتهم وأحوالهم). لذلك فهو كتاب جامع للماضي والمستقبل؛ يستعرض تاريخ شعب وثقافته وعيشه من النواحي الاجتماعية والسياسية والاقتصادية والجغرافية والتاريخية على مر عقود؛ حتى إنه يجمع شيئا من طرائقهم وعاداتهم وآرائهم وأشعارهم. فالكتاب هو بمثابة تعريف للرأي العام الخارجي عن هذه البلاد، وقد حرص مؤلفه على إبراز صفحات مهمة لموريتانيا، ولاسيما شخصيتها التاريخية ومراحل تكوينها، ومدى تفاعلها مع الزمن في مجرى التاريخ العربي والإسلامي وتأثرها بالفتوحات العربية ونشوء قوميتها، ويستعرض أوضاعها الداخلية الخاصة، والإقليمية العامة، المجاورة لدول إفريقية سوداء كانت حتى عهد قريب - بما فيها موريتانيا- مستعمرات فرنسية... وبذلك يستطيع ابن المشرق وغيره، الذي لا يعلم شيئا عن هذه البلاد أن يعلم كل شيء..." (neelwalfurat.com).

* "شعراء موريتانيا القدماء والمحدثون، مكتبة الوحدة العربية 1962. وقد عرض فيه كنوز أدب ما بعد الوسيط؛ رابطا إياها بالكيان الجديد ومنوها بالعبقرية الموريتانية والشعر في موريتانيا. تقول مكتبة جامعة بيروت العربية عن الكتاب: "شعراء موريتانيا القدماء و المحدثون: عرض عام لتاريخهم وآثارهم ونصوص من شعرهم، شعل أدبية إفريقية مغمورة وبعث تراثي يعرف لأول مرة من المشرق".

 

الشيخ المختار ولد حامدٌ

عالم وشاعر وباحث من الجنوب الموريتاني طوحت به هو الآخر نفس الظروف التي طوحت بالأستاذ محمد يوسف مقلد، رحمهما الله إلى إفريقيا الغربية (السنغال تحديدا) فلنستمع إليه هو الآخر يشكو صروف دهره التي أرغمته على الهجرة ويحن كما حنت ميسون بنت بحدل إلى جنته البدوية الضائعة، ويندب حظ مهدره العاثر:

غنينا في انتــــــــجاع خلا المراعي    حــــــوالي كـــــــل راعـــية وراع

سنين حلا انتجاع الرعي فيــــــــها     لنا وخــــــــــــلا لنا جو المراعي

حدونا إبْلــــها مع كـــــل حــــــــاد     وعاعيـــــــــــنا بها مع كــل عاع

فجاءت بعد ذاك صروف دهـــــــر      دعتـــــنا للــــــــشراء والابتــياع

دعانا من صروف الدهر فيــــــها     إلى المكـــــــــــيال والمـــيزان داع

نقيم الــــــوزن ثَمَّ بكـــــل كــــيل      ونــــــــــوفي الكيل ثَمَّ بكــــل صاع

كأن لم ننتجع في الدهر مــــرعى    خصــــيبا ما به أثـــــــــر انتـــــجاع

ولم ننزل من الصـــــحراء أرضا     بساطا كالســــــماء في الاتـــــــساع

ولم نســـــــــمع بها والغيث هام       هزيم القرم في الشول الرتــــــــاع

وقد سكب الذراع بها دمــــــوعا      جرين عـــلى التلاع وكل قـــــــــاع

وقد ضحكت من الأزهار فيـــها    كواكـــــب كالمـــجرة والـــــــــــذراع

فإن ترني لدى الحانوت أشري    به وأبيع مــــن سقـــــط المـــــــــتاع

فإني سوف أنشد عند بيــعي:      أضاعوني وأي فــــــــــتى مــــضاع.

altوها هو ذا يحدثنا عن نفسه وعن لقائه بالشاميين الذي خلق منه باحثا وكاتبا ومؤرخان حين تلاقت وتلاقحت ثقافة وفكر المحظرة الموريتانية الأصلية مع ثقافة وفكر المشرق العربي في أرقى وأبهى حللهما وأشكالهما وجوهرهما، التي مزجت بين عراقة وسمو نهضة المنبع وجموح وحداثة المهجر.

"كنت في عام 1936 م أعمل تاجرا في كولخ، فجئت ذات عشية إلى تاجر سوري فاشتريت منه كيسا من الصابون، فدخل علينا شامي يدعى إميل، فقال لي التاجر: هذا شاعر العرب، فقلت له: وهل يوجد شاعر العرب إلا في البيضان؟! فقال لي إميل: لعلك شاعر، فقلت: نعم، فقال: أنشدني، فأنشدته أبياتا، فقال: عندي أحسن من هذا، وأنشدني أبياتا، فقلت له: هذا أحسن من أبياتي، ولكن من أين لي أنها من إنشائك؟ فلنصف هذا الكيس، فأينا أسرع بديهة وأحسن شعرا فهو شاعر العرب، فقال لي: ما ذا يقول واصف كيس الصابون؟! فقلت: يعرفه الشاعر، فقال: لا يعرفه الشاعر ولا الناثر، فقلت: أنا أعرفه، فقال: ما ذا تقول: قلت: أقول إنه في صندوق من الخشب، مكعب معصوب، وفيه انكسار يبدو منه صابون رديء غال عندك ولا تسلفه لعملائك. فقال لي: أنت ظريف، وأريد منك لقاء الليلة في دار الحاج علي بيضون السوري، فجئناه ونحن خمسة نفر فوجدنا معه جماعة من أدباء العرب السوريين واللبنانيين فسمرنا معهم...

ثم بعد عدة محاورات مع هؤلاء العرب لقيني الأديب زكي بيضون فقال لي: اكتب عن البيظان لتعرف العالم العربي بجزئه هذا الذي ليس له علم به. فبدأت من ذلك الحين -على عُجري وبُجري- ألتقط من أفواه المسنين ومن بطون الأوراق ما استطعت، وكان تحصيلي قليلا لاشتغالي بمهنة البيت والكد للمعاش، مع قلة ذات اليد وكثرة المؤنة، فتوظفت في التعليم خمس سنوات، وفي المعهد العلمي لإفريقيا السوداء سبع سنين، ثم في المعهد العلمي بأبي تلميت سنتين، ثم فرغني الرئيس المختار ابن داداه للبحث التاريخي على حين بلغت من الكبر عتيا".    

ومن نتائج هذا التلاقي والتلاقح كذلك ما كان للشيخ المختار، صاحب الدكان في كولخ، عملا بنصيحة الأستاذ زكي بيضون من دور ريادي في نهضة موريتانيا الثقافية وتأسيس دولتها، ثم في إنجاز موسوعته التاريخية الجامعة التي انتشلت ودونت وحفظت تاريخ موريتانيا من عاديات الزمن!

 

_____________________________

1. أسوأ يوم في التاريخ هو يوم معركة بواتييه؛ عندما تراجع العلم والفن والحضارة العربية أمام بربرية الفرنجة. ألا ليت شارل مارتل قطعت يده ولم ينتصر على القائد الإسلامي عبد الرحمن الغافقي.

يتبع

فيديو

فيديو

فيديو

فيديو

فيديو

فيديو

فيديو

الآن في المكتبات

فيديو

المتواجدون الآن

حاليا يتواجد 10 زوار  على الموقع