| أدونيس: هذا هو اسمي (ح 15)* |
| الجمعة, 06 يوليو 2018 07:58 |
|
العرب بارعون في أكل بعضهم بعضا
أدونيس: في سنة 1956 دخلت السجن وتركت بلدي الذي ولدت فيه أيضا، وأتيت إلى بلد آخر، ثم تركت هذا البلد وذهبت إلى بلد آخر.. فحياتي كلها سلسلة تنقلات، وهذه السلسلة قائمة على سلسلة من المواقف المعارضة. لكني لا أتبجح ولا أعارض السياسة بالسياسية ولا أعمل في حقلها ولن أفعل ما دمت حيا. لا يمكن الاكتفاء بالاعتراض على نظام السلطة، فهذا جزء من نظام ثقافي متكامل، وما لم يغير هذا النظام المتكامل فإن تغيير السلطة السياسية لا يجدي إطلاقا. والعرب خلال القرنين الماضيين لم يفعلوا إلا تغيير الأنظمة، لكن أحوال المجتمع ازدادت سوءا. وما نشهده اليوم هو معارضات أسوأ من الأنظمة القائمة. الأساس أن كل شيء في الحياة العربية موظف؛ السياسة وظيفة، والثقافة وظيفة، والقيم وظيفة.. وإذن فقد وظفنا كل شيء، وتوظيف الأشياء بهذه الطريقة أفرغها من مضمونها. هذه قضايا لم يطرحها أي معارض مع الأسف. دائما هناك جو التسويات وعدم الاصطدام مع كل ما يعوق الوصول للسلطة. بيار: هناك معارضات علمانية للأمانة، لكنها لم تأخذ الحجم الشرعي المطلوب.. أدونيس: لأنها في أطروحاتها.. الحزب القومي، الحزب الشيوعي، الحركات العلمانية، كلها تتفق على العلمانية مثلا، وعلى التحرر من التدخل الأجنبي، لكن هل رأيت مرة اتفاقا بين هذه الأحزاب على العلمانية؟ أنا لم أره! هل رأيت بيانا مشتركا يوقّعه الحزب القومي والحزب الشيوعي وحزب البعث العربي على تبني مبدأ العلمانية في المجتمع؟ أنا في جيلي لم أر ذلك، وأرجو أن أكون مخطئا في الأجيال المقبلة. بيار: تجربة الحزب الشيوعي السوداني في أيامه كانت تجربة مريرة في هذا المجال. أدونيس: حتى الأشخاص الذين كانوا ينشطون في هذا المجال.. أنا أعرف كثيرا من الأشخاص في السودان كان اليساريون ضدهم! هناك توظيف كل شيء للوصول إلى السلطة. من أين يأتي هاجس السلطة عند العربي؟ هذه مشكلة اجتماعية يجب أن تدرس. بيار: هناك التجربة اليمنية، وأنت شاهد قريب عرفتها عن كثب وحاورت أقطابها السياسيين، كيف يمكن اليوم أن تقيّم التجربة الشيوعية اليمنية، قبل توحيد اليمن طبعا؟ أدونيس: أنا أحكم على الحركة كتوجه أخير، لكن ليس حكما على الأفراد، هناك أشخاص يعتز الإنسان بوجودهم مثل عبد الفتاح إسماعيل، وكان رجلا عرفته واجتمعت به. وهناك أيضا عبد الكبير الخطيبي، كان نموذجا للتفاؤل بالمستقبل وللتضحية من أجل ذلك. كان يقول لي: أنا مستعد للتنازل عن كل شيء من أجل الوحدة اليمنية. لكن انظر ماذا حدث له! انظر ماذا كان موقف أصدقائه في الأحزاب اليسارية الأخرى على تنوعها! هل الثورة في اليمن مثل الثورة السوفيتية؟ بدل أن يكون النظام في خدمة الثورة حولت الثورة إلى أداة من أجل خدمة النظام. الثورة اليمنية بدل أن تظل هي الهدف صارت ثورة لخدمة النظام القائم! وإذن انتهت الثورة وصار الصراع على من يكون الرئيس، أو من هو القائد! وهذه – في اعتقادي- العلة الأولى في سقوط الاتحاد السوفيتي. يا سيدي نحن نعيش مأساة فاجعة.. انظر إلى الوضع الفلسطيني مثلا. فلسطين مسرح تمثَّل عليه مسرحية ما سميته تجوزا "انقراض العرب" تر شعبا يباد شيئا فشيئا منذ أكثر من نصف قرن. شخص يهدم بيته ويعتقل أبناؤه ويشرد، ويمارس عليه جميع وسائل الإهانة على مدى نصف قرن! وانظر وضع العرب. العرب بارعون في أكل بعضهم بعضا، لكن لم يمارَس أي ضغط حقيقي مؤثر على إسرائيل من طرف العرب، مع أنهم قادرون – إذا شاؤوا- أن يمارسوا هذا الضغط لكن هذا لم يحدث أبدا، وجزء من شعبهم يقتل بهذه الطريقة وهم يأكل بعضهم بعضا. هذه أشياء يجب أن تقال. بيار: توجه انتقادات إليك دائما لقربك وارتباطك بهذا النظام أو ذاك، لأسباب ربما تعود إلى العلاقة بالمكان الذي نشأت فيه، ارتباطك بنظام محدد. أدونيس: أنا لا أريد أن أتكلم عن نفسي أولا، فمن كان مثلي عمره الآن 86 سنة ليست لديه جائزة واحدة من أي نظام عربي مع أني نلت الكثير من الجوائز من الصين إلى البرازيل، فكيف يمكن أن أكون مع الأنظمة؟ احسبها فقط من باب الفردية والأنانية. يستحيل ذلك! لكن الناس يتكلمون كما يشاؤون. بيار: نرجع للجرح السوري. أنت لبناني، وأنت كوني وأنت كل ما شئناه، لكن قبل كل شيء أنت سوري الرحم. بلدك (سوريا) يعيش مأساة منذ سنة 2011. قبل أن نتكلم في السياسة وما إليها، كيف تعيش بالمعنى الحميمي هذا الجرح العظيم. أدونيس: هذا جرح عظيم، لكني أعترف أني لم أفاجأ به. من يقرأ تاريخنا العربي لا يفاجأ بما حدث اليوم. تفاجئه الدرجة لكن لا تفاجئه الممارسة؛ فالدرجة كانت عالية إلى درجة الوحشية وعدم الإنسانية، لكن كممارسة تاريخية موجودة في تاريخنا بشكل أو بآخر، لكن بشكل أقل حدة وأقل عنفا، لكنها موجودة. وإذن لم أفاجأ على هذا المستوى، لكني فوجئت مثلا كيف يمكن أن يقف رجل باسم الله أو الدين أو الثورة ويرى أمامه تمثالا عمره 5000 سنة فيعده عدوا له ثم يضربه بالفأس فيفتته! هذا ما استغربته. كيف يمكن أن يفعل إنسان هذا الفعل بمنجزات إنسانية. بيار: طيب.. كيف وصلنا إلى هذا الكابوس؟ كان من المفترض انتفاضة شعبية تنبأتَ بها بمعنى ما، في سنة 2010 كتبت: "غدا تشتعل نار عصيان. ولن أحمل الماء. أفتح أذنَيَّ وعينَيَّ على الجمال يميل نحو ضوء يحارب ظلاماً ليس إلا امتداداً له... يجمعني بما مضى هذه الفاصلة: المستقبل". الناس نزلت إلى الشارع طبا للحرية والعدالة.
لم أفاجأ بهذا كله، وكل من يقرأ شعري قبل هذا الوقت سيرى أني أتحدث عنه بشكل أو بآخر. إن ما فاجأني – كما قلت- هو كيف يمكن أن يصل الإنسان إلى هذا المستوى بحيث تعيد النظر في نفسك، هل الإنسان فعلا هو إنسان أم هو كائن آخر سمي إنسانا! كيف يمكن لشعب يزعم أنه واحد أن يترك الفلسطينيين للموت منذ نصف قرن والاقتلاع من الوطن وهدم البيوت والسجن دون ذنب بذريعة السجن الاحتياطي.. يترك كل هذا كأنه غير موجود وينصرف إلى أن يأكل بعضه بعضا. كيف تفسر ذلك؟! وسوريا جزء من هذا الكل الذي يأكل بعضه بعضا. بيار: كتبت رسالتين موجودتين في الكتاب، إحداهما إلى السيد الرئيس بشار الأسد، والأخرى إلى المعارضة، وفي الرسالتين تشكيك، أولا في نجاح هذه الثورة في إحقاق الديمقراطية؛ وهو ما أثار جدلا كبيرا بين الصحافة اللبنانية. وبخصوص المعارضة تحاسبها على مشروعها الناقص غير الكافي المجزوء غير المقنع. أدونيس: كيف يمكن أن تقوم بثورة وأنت تابع لمستعمر؟ ثورة غير مستقلة، ثورة تابعة! كيف يمكن ذلك؟ كيف يمكن أن تقوم بثورة وأنت لا تحترم الإنسان الذي تثور باسمه ولا تحترم حقوقه؟ كنت أطالبها بخطاب علني واضح، وكنت أقول: لا تماهوا بين النظام والبلاد، الشعب والبلاد شيء، والنظام شيء آخر. لذلك لا تستخدموا لغة النظام الذي تحاربونه أو الثورة عليه، لكن - مع الأسف- يبدو أن المستهدف كان تدمير الشعوب وتدمير الدول، وليس الأنظمة.
____________ * نقلا عن قناة الميادين. |
