رحلـة الشتــاء (ح 12)
الخميس, 10 يناير 2013 08:34

 

السجّــان

"نحـن أسرى معـا وفي قفص (الأســـ  ـــر) يعاني السجان والمسجـون"

alt

سيدي بن الغلاوي. اسم قفز إلى ذهنه وهو يتذكر ذلك الكهل المشظوفي (الحرسي) السجان الذي يبكي بحرقة دافنا وجهه في طاقيته، كلما سمع وصلة من غناء الفنان الكبير سيد أحمد بن عوه في مذياع سجنائه المحمول الذي يثب لاحتضانه، حينها، وينسى البندقية! كانت بلواه أعظم من محنتهم، وسجنه الدائم أكبر من حبسهم المؤقت.. أولم يقض الزمن الغاشم بنزوحه السرمدي من حوضه الخصيب الحبيب، وإقامته في آمكرز مشتملا أذرعا من البند (الكاكي).. بعد عهد الدراعة الفضفاضة ولثام النيلة الأسود! وهاهو يراوح في حيّز ضيّق، كالمهر المربوط، يرعى نفرا من الأشقياء بعد أن كان يرعى "المجد" (القبيلة والإبل والأغنام والعبيد) الذي أصبح، بين عشية وضحاها أثرا بعد عين؟!

.. ويردد ابن عوه:

وما الدهر إلا بالفتى متقلـب      فطورا به يهوي، وطورا بـه يعـلو.

 

عمر بن امحيحم. اسم آخر لا يغيب ولا يريم في هذا المضمار. لقد أرسل برقية غداة 12/12 إلى وزير الداخلية من تيشيت، وكان حاكم تلك المقاطعة ـ السجن، يسأل فيها عما إذا كان العفو الصادر يومها عن السجناء شاملا؟

 حاكم تيشيت ـ السجان يعاني! ويريد أن يستفيد – بدوره- من قرار العفو الشامل!

وغيرهما كثير...

خفقت عشرات - بل مئات- الصور في سماء فكره الثاقب، وهو يتدبر معاناة السجان والمسجون، وعلاقتهما: من أبي سجناء الرأي يوسف عليه السلام و"صاحبي السجن" في مصر، إلى عدي بن زيد العبادي، وعبد يغوث الحارثي، وأبي محجن الثقفي، والعرجي، والإمامين مالك وأحمد، فأبي فراس الحمداني، وابن زيدون، والمعتمد بن عباد.. وأمثالهم في الجاهلية والإسلام. ثم ولد آبيلي، والكفيه ولد بوسيف، والشيخ حماه الله، وبناهي بن سيدي محمود، وامحمد بن أحمد يوره، وقادة النهضة والكادحين، ومختلف ضحايا النظام العسكري، في هذا "المنكب البرزخي".

ثلاثة نماذج استحوذت على ذهنه من خلال معاناته الطويلة في المعتقلات والسجون والمنافي الموريتانية، قبل أن يتطرق إلى سجاني بو امديد: الدّاي بن اعلاده، الضعيف، المرتجي بن مولاي أحمد!

* كان الدّاي، رحمه الله - وهو من ذوائب إدوعيش- أول مدير للسجن المدني الحالي في مدينة نواكشوط. كان السجن في نظره راتبا شهريا ووظيفة معتبرة؛ خاصة أن الشيء العمومي كان محميا ومقدسا في تلك الفترة، أحرى إذا كان قوت مساكين سجناء. لم يكن يزور السجن إلا نادرا! وإذا زاره، كان يستمع باهتمام إلى شكاوى السجناء، ويعطي بشأنها التوجيهات للحراس. وكان يؤنب الحراس في حضور سجناء الرأي قائلا: أوصيكم خيرا بهذه الفصيلة من السجناء. هؤلاء ليسوا مجرمين: ولد اعبيد الرحمن، ولد عبد القادر وفلان وفلان... هؤلاء شباب مثقفون. إنهم أمل ومستقبل الوطن. نحن مجرد منفذين للأوامر. اليوم ننفذ الأوامر فيهم. وغدا ننفذ أوامرهم! والله إن قلبي لأبيض كدراعتي هذه! (ودائما ما تكون دراعته تلك أقرب إلى اللون المغاير!). وما إن تنتهي المقابلة، ويعود السجناء إلى قعر السجن، ويخلو المدير بحراسه، حتى يصب "شما" من قصبته في كفه وينشق! هنالك تصبح الأوامر كالتالي: أغلقوا عليهم وشددوا "إقصر أعمارهم!.. إنهم ثلة من المفسدين يريدون إسقاط النظام وتخريب البلاد!".

* ويمثل الضعيف - سجان "بيله" في بداية السبعينيات- شكلا آخر؛ فهو سجان محترف، ينتمي للفئة الدنيا من المجتمع، لم يسعفه الحظ - كغيره من أبناء فئته- بطفولة وردية. وذو بسطة فريدة في الجسم. تضاف إلى ذلك كله رواسب الخدمة في الجيش الفرنسي، والمشاركة في حرب فيتنام، وفي معركة ديان بيان فو بالذات! لذلك كان مزهوا جدا بسلطته وقوته هنا، ثأرا لذله وعجزه هناك! وينتشي بإهانة السجناء وحرمانهم من أبسط حقوقهم، خاصة حين يجلب له ذلك منفعة مادية. وتصيبه نوبة من الجذب والحبور عندما يتاح له تمرين عضلاتة الهائلة في تأديب رعيته! ومن معاركه المشهودة ليلة من ليالي رمضان سجن "بيله" 1974 أدت فيها تصرفاته الطائشة (منع الشاي والدخان عن السجناء وقطع الكهرباء عنهم عند الساعة 23) إلى تمرد "شعبه" واندلاع صخب قرع أبواب الزنزانات المشهور. قاد فيلقا لتأديب "المجرمين". اشتبكوا معه بالأيدي وما في متناولهم. زحفت جموع من الشعب إلى "بيله" لمؤازرتهم، بينما دوى صوت الأستاذ جاكانا امبو الجهوري العذب يصدح بنشيد الأممية في ربى وألوية آمكرز! ارتعدت فرائص غول "بيله" أمام هذا المشهد.. ونكص! هاهو تنين الثورة الذي كاد يلتهمه في فيتنام يطلع في رمال الصحراء ويهجم فاغرا فاه: صراخ وشتائم ولكمات السجناء العزل، ضوضاء قرع أبواب الزنزانات، الجموع الهائجة.. ونشيد الأممية! فأين المفر؟

* أما المرتجي بن مولاي أحمد فكان حاكم مقاطعة ـ سجن، هي مقاطعة تيشيت. وبما أنه لا يوجد سجن بالمقاطعة ـ السجن، فقد قدّ جحر من داره العتيقة سجنا تحت رعايته. كانت أوامر وزارة الداخلية في شهر مارس 1980 تقضي ببقائهم خلف أبواب موصدة! ورغم ذلك كان المرتجي لا يتغاضى فحسب، بل يزور نزلاءه كل ضحى وعشي! جالبا ما تيسر من القرى، وينادمهم ويتفقد أحوالهم. وإن ينس لا ينس - وقد اتخذا جبل "القَبْلَة" خليلا يقيمان ما أقام- يوم جرى الشيخ ظهرا، كطفل خطفت حلواه، ونظاراته البيضاء تتدلى على أنفه.. وبيده صك لم يقرأ غير عنوانه.. وأطل من ثقب في خاصرة جحرهم وهو يصيح: أطلق سراحكم! أطلق سراحكم! أطلق سراحكم!

* * *

خواطر لا غنى عنها في توطئة الحديث عن سجاني بو امديد. من هم؟ وإلى أي صنف من الثلاثة ينتمون؟ الحاكم، الرقيب، الحراس!

* الحاكم، اشتهر حاكم بو امديد - كما مقاطعة كوبني- بمساهمته المتميزة في الحضارة البشرية حين اكتشف باكرا، في مجال الرياضيات، أن الرقم الأدنى هو الأعلى والأرجح إذا كان جمهوريا! وبذلك "فاز" مرشح الحزب الجمهوري الحاكم لمجلس الشيوخ في مقاطعته على منافسه المستقل الحاصل على رقم أعلى غير جمهوري. بيد أن "تكافؤ الفرص" في ذلك الميدان، و"روح المنافسة النزيهة" فيه، أنجبا عباقرة أفذاذا، لا يبارون، سجلوا براءة ذلك الاختراع بأسمائهم "المتغيرة" وسرعان ما حطموا جميع الأرقام القياسية.. عندها لم يبق للحاكم المسكين سوى التقوقع في مقاطعته، واجترار ذكريات مجده الغابر القصير، والحفاظ على مركزه! زارهم مرة أو مرتين. تعهد بإبلاغ مطالبهم إلى السلطات العليا. واكتفى بانتداب "الرقيب" وسيطا بينه وبينهم، متذرعا بكثرة مشاغله التي لا وجود لها! كانت عدة عوامل تطبع سلوكه اتجاههم، منها خوفه من التعامل معهم أو الاتصال بهم حتى لا تصيبه العدوى، أو يتجرأ كاذب على الوشاية به، وشكه في "قائد شرطته" الرقيب وتحفظه منه، وحرصه الشديد على تنفيذ الأوامر كما هي، وجهله المطلق للقانون!

* الرقيب،     

وهناك المشروع لم أر منه       غير صهريجه و"شخص الرقيب"

الرقيب سيدي محمد... رجل من بني حسان (ولاية لبراكنه) في الخمسين من عمره، ينتمي إلى سلك الحرس الوطني، ويقود أفراده الموجودين في بو امديد بمن فيهم المجموعة التي تتولى حراستهم.. لذا فهو السجان في بو امديد. وللرقيب علاقة نسب ومصاهرة بكل من الرئيس أحمد والأستاذ باباه. وكانت تلك العلاقة، ونوع السجن (إقامة جبرية، وهي ليست سجنا بل تقييد حركة إداريا) وطبيعة المكان (قرية ضائعة في مهامه الصحراء) وسن الرجل الذي تجاوز الخمسين، عوامل كفيلة كلها بأن تجعله يسلك نهجا وسطا يضمن قيامه بواجبه المهني المتمثل في ضمان أمن وسلامة الوافدين من جهة، والحفاظ على علاقة إنسانية طيبة مع نزلائه المسالمين المحترمين؛ ناهيك عما تفرضه علاقات النسب والصهر من معروف أو إحسان. ولكن هيهات، هيهات. لقد سلك الرقيب نهجا مداهنا في بعض الأحيان، ومناوئا في معظمها. ولم تبد منه أي بادرة مودة أو رحمة في أي آن! هل كان خائفا، وممن؟ أم كانت له خلفيات أخرى حكمت سلوكه الغريب الذي سوف نلاحظ أمثلة منه لاحقا؟

* الحراس، الحراس هم الذين يباشرون السجناء ويتعاملون معهم على مدار أربع وعشرين ساعة. ومن عادتهم التعاطف مع أسراهم أياً ما كانوا لأسباب عدة من بينها في المقام الأول عامل المعاناة الذي يوحد بين السجان والمسجون. خاصة أن معظم الحراس ضحايا كما السجناء: شباب فقراء بعيدون عن ذويهم وأحبتهم ومضطهدون. وفي معالجة ظاهرة الوحدة والتعاطف بين السجان والمسجون، جرى انتقاء حراسهم بصورة دقيقة من بين المنتمين إلى القبائل المحاربة (إديشلي أولاد بلله الرعيان ..الخ)! لافتراض أولي الأمر عدم الوعي في شبابها وضعف تأثره بالأفكار العربية والإسلامية! ومع ذلك، كان سلوكهم متناغما عموما مع سلوك غيرهم في جميع المعتقلات والسجون. ومن بين حراسهم كان يوجد ثلاثة عناصر من غير تلك الأرومة فاقوا نظراءهم في التعاطف معهم وقدموا لهم المساعدة وواسوهم في محنتهم. كان أحد تلك العناصر من لبيدات أهل اعويفيه، والثاني حرطاني من القديمة، والثالث من الشرفاء القلاقمة.

* * *

علموا من الحاكم أن قصف العراق توقف دون قيد أو شرط، وأن البرلمان صادق على متابعة الرئيس بيل كلينتون!

وفي المساء جاءهم طبيب من كيفه.. بعد معاينة الرئيس أحمد نصحه بعدم الصوم، ووعد بإحضار الدواء من كيفه لمعالجة آثار النوبة التي تعرض لها ليلة اعتقاله؛ والتي تم التغاضي عنها في البداية بصورة غير مسؤولة.

في الحلقة القادمة: المعلومة في بو امديد! من يحاصر من؟

فيديو

فيديو

فيديو

فيديو

فيديو

فيديو

فيديو

الآن في المكتبات

فيديو

المتواجدون الآن

حاليا يتواجد 10 زوار  على الموقع