| دفاعا عن الوحدة الوطنية المهدورة (ح 1) |
| الأربعاء, 07 مارس 2012 11:49 |
|
بسم الله الرحمن الرحيم والصلاة والسلام على أشرف المرسلين مدخل: سيدي الرئيس، السادة أعضاء المحكمة الموقرة،
قال أبو الطيب المتنبي في مرافعته المشهورة أمام سيف الدولة الحمداني، وكأنه يخاطبكمفي هذا اليوم المشهود: "أعيذها نظرات منك صادقةً أن تحسب الشحم فيمن شحمه ورم وما انتفاع أخي الدنيا بناظره إذا استـوت عنـده الأنـوار والظلــــم"
نعم؛ أيها السادة أعضاء المحكمة الموقرة.. فقد توجد في دروب الحياة المتعرجة، أحداث وأزمات تستوي فيها الأنوار والظلم عند غير المتبينين. إذ (إنها لا تعمى الأبصار ولكن تعمى القلوب التي في الصدور). وإليكم هذا المثل المَعِيش: في يوم من أواخر الثمانينيات، تم تجنيد لفيف من المحامين للدفاع عما اعتُبِر يومها من طرف مكتب هيئة المحامين والنيابة العامة "محاولة اغتيال" محاميين اثنين في مدينة نواذيبو من طرف مجرمين. وكنت - عن حسن نية - من بين من تجندوا مع المجندين لأداء تلك المهمة النبيلة: مهمة الدفاع عن الدفاع. ولكن كم كانت دهشتي كبيرة حين رأيت المتهمين بمحاولة اغتيال المحاميين يقفون في قفص الاتهام. لقد كانوا خمس نسوة وصبيين؛ ومن أسرة واحدة. وكانوا عزلا. وكانت القضية - في جوهرها - نزاعا أسريا لا علاقة له بالتهمة الملفقة ضد المتهمين، ولا بمهنة المحاماة أصلا. عندها رأيت من واجبي شق عصا طاعة الباطل، والانحياز للمظلومين. فتوجهت بالتماس إلى النقيب الكبير الأستاذ محمد شين ولد محمادو رحمه الله، أوَضّح له فيه موقفي، وأعلن انتقالي إلى جانب الدفاع عن المتهمين الذين كانوا قد حُرموا ـ باسم "التضامن مع الزملاء"ـ ممن يؤازرهم ويمارس حق الدفاع عنهم. وقد تفهم ذلك النقيب الفذ موقفي بصدر رحب، وأذن لي بما طلبت. وكان من حسنات القضاء الموريتاني يومئذ أن أنصف أولئك المظلومين، ولم تستو عنده الأنوار والظلم. فما أشبه الليلة بالبارحة! كوكبة من رواد الحرية والديمقراطية وحقوق الإنسان، نذرت حياتها في سبيل عزة ووحدة ومساواة أهل هذا الوطن، تجد نفسها بغتة اليوم في وضع دقيق يفرض عليها فيه واجب الوفاء لمبادئها السامية، مبادئ الحق والعدلوالوطنية، إعلان القطيعة البتة مع رفاق درب أضاعوا الاتجاه، وضلوا عن القصد، وامتهنوا الفتنة؛ والوقوف إلى جانب مواطنين أبرياء متهمين ظلما وبهتانا باسترقاق ماأنزل الله به من سلطان! لقد صدق الذين قالوا إن "التاريخ لا يعيد نفسه، وإنما يُتَأتِئ فتكون تأتأتُه ملهاة". وأي ملهاة! إذ شتان ما بين حالنا أمس واليوم؛ ففي الأمس (ستينيات وسبعينيات القرن المنصرم) كانت العبودية متجذرة في المجتمع الريفي الموريتاني، وكان نضال قوى المجتمع الحية ـ وفي طليعتها الشباب الوطني والحكومة ـ من أجل إلغائها وتصفيتها نهائيا عملا مشروعا وواجبا وطنيا وبطولة تاريخية مجيدة. أما اليوم وقد أصبحنا جميعا أحرارا، لا وجود للعبودية في وطننا النابض الناهض، فإن أعمال التحريض والفوضى وبث الكراهية والافتئات على الدولة وزعزعة الأمن والسلم وتخريب النسيج الاجتماعي والاعتداء على المواطنين الآمنين، التي تجري في وطننا باسم مكافحة عبودية وهمية ـ كطواحين دونكيشوط الهوائية ـ لا تعدو كونها تأتأة وملهاة. ويا لهذا الوجه المضحك المبكي من أوجه هذه الملهاة: أم وأب وأستاذة علوم طبيعية وربتا منزل مثقفتان، يقطنون جميعا في قلب العاصمة، لا يعرفون إلى المخافر والمحاكم سبيلا، تم توقيفهم بتهمة "التلبس بجرم الاسترقاق" وحبسوا واقتيدوا أمام المحكمة الجنائية في ضحى القرن الواحد والعشرين.. وانتزعت منهم فلذات أكباد بعضهم وخدم بعض لتُسلم لأغيار لا صفة لهم ولا هم مؤتمنون! أهي ـ بالفعل ـ جريمة استرقاق بشعة، هذه التي نحن بصدد بحثها، ارتكبها ضد الإنسانية هؤلاء الضعفاء المسالمون الطيبون الماثلون أمامكم، فاستحقوا بذلك العقاب الشديد الذي حل بهم دون رحمة أو شفقة؟ ذلك ما زعمه "صيادو العبيد"1 الذين عَلِق هؤلاء المساكين في حبائلهم، وما ذهب فيه كل مذهب زملاؤنا الوافدون ـ بعد العصرـ إلى ساحة حقوق الإنسان باسم بعض المنظمات ذات الصلة المشبوهة. وهو ـ كذلك ـ ما كيفت به النيابة الموقرة الوقائع، وما أسست عليه اتهامها الباطل، وما كان مناط طلباتها القاسية المجحفة؛ وإن عودتنا ـ إلى عهد قريب ـ الوقوف ضد حقوق الإنسان بدل الوقوف إلى جانب الإنسان! أما نحن فنرى أنّ "وراء الأكمة ما وراءها"! وما وراء الأكمة في نظرنا هو ما ستتعرض له هذه المرافعة من زوايا عديدة هي: 1. كيدية التهمة وعدم قيام بينة عليها. 2. بطلان دعوى وجود العبودية في موريتانيا اليوم. 3. دفاعا عن كرامة ووحدة البيظان. 4. الدفاع يتهم المتهِمين. 5. طلبات الدفاع.
1. كيدية التهمة وعدم قيام بينة عليها أيها السادة القضاة المحترمون، إنه ليتضح بجلاء لمن تصفح أوراق الدعوى المنشورة أمامكم، أن النيابة الموقرة التي تلكأت في تحريك الدعوى في البداية، بسبب خلو محاضر البحث الابتدائي التي بين يديها مما يفيدها، قد رضخت في الأخير لضغوط المرجفين، وقامت بتوجيه تهمة ارتكاب جناية ممارسة الاسترقاق عملا بالمادتين 2 و4 من قانون "تجريم العبودية" إلى ثلاث نسوة ورجل من بينهم أم وأب، وأحالتهم في "حالة تلبس" صورية إلى المحكمة الجنائية. وهاهي ذي تطلب منكم تسليط أقسى وأقصى عقوبة عليهم دون أن تقدم إليكم أدنى بينة على ارتكابهم لما تتهمهم به، سوى تكرار ممثلها كلما عرض أحد تلك الملفات لعبارة ـ لازمة أصبحت معلومة ومفهومة وهي: "إن الجريمة قائمة وثابتة". ولكن محتويات الملفات لا تنطق إلا بعكس ما يدعيه ممثل النيابة في لازمته تلك. ولنستعرض تلك الملفات واحدا واحدا فيما يلي:
ومن خلال هذه الوقائع الساطعة سطوع الشمس في رابعة النهار، تكونون قد اقتنعتم قناعة لا تتطرق إليها ذرة من شك، بأن التهم الموجهة إلى المتهمين لا تتوفر عليها أية بينة رغم خطورتها وجسامة العقوبة المنصوصة لها في المادة 4 من قانون تجريم العبودية الذي أسست عليه، وهي "السجن من خمس إلى عشر سنوات وغرامة من خمسمائة ألف (500000) أوقية إلى مليون (1000000) أوقية". (إنها لإحدى الكبر) .. ودعوى لا تقوم عليها بينة. وفي مثلها يقول البوصيري: والدعاوى ما لم تقيموا عليها بينـــات، أبناؤهـــا أدعيـــاء ويقول أحد علماء الإجراءات فيه أيضا: القول دعوى. وفعل المرء بينة ولا سماع لدعوى دون بينة وكم دعاوى على الإنسان هينة تطلبت بينات غيرَ هينـــــــة فأي سلطان لكم إذن على المتهمين ما دامت البينة على ما يدعي عليهم صيادو العبيد والنيابة غائبة، وما دام طابع الكيدية السياسي بارزا للعيان وواضحا في سعي المدعين من وراء دعواهم الكاذبة إلى تبرير وجودهم، وإعطاء دور اجتماعي لمنظمتهم الخارجة، والنيل من السلطة الوطنية القائمة في البلاد، ومن البلاد كلها؟! وبأي حق تنتهكون حقوق المتهمين، وتقيدون حرياتهم، وتستبيحون أعراضهم، وتلحقون بهم وبذويهم أفدح الأضرار التي لا يمكن جبرها؟
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ 1- عنوان فلم مشهور لفّقه هؤلاء عن وجود العبودية في موريتانيا. |
