العــرب أمس واليــوم وغــدا... (ح2 /3)
السبت, 17 مارس 2012 20:55

 

ثانيا: العرب اليوم

 

altولا عيب فيهم غير أن سيوفهم      بهـن فلـول مــن قـراع الكتائــب

ولا يحسبون الخير لا شر بعده       ولا يحسبون الشر ضربة لازب

مدخل: من هم العرب؟

العرب أمة من أقدم وأعرق الأمم، استطاعت أن تبقى، وتنمو، وتنتشر، وتسود عبر الزمن. ثبتت أمام مختلف التحديات من غزو وتدمير (أصحاب الفيل، الصليبيون، المغول، نابوليون، الاحتلال الصهيوني، العدوان الثلاثي والرباعي والخماسي.. الخ) وكوارث طبيعية (سيل العرم والزلازل والتصحر والجفاف) وحملت راية الإسلام فتربعت على عرش الحضارة البشرية ثمانية قرون (من القرن 8 إلى القرن 16).

ويتميز العرب عن غيرهم من الأمم بثلاث خصائص هي: اتساع وغنى وحيوية الرقعة الجغرافية التي يعيشون عليها (العراق الشام شبه الجزيرة العربية مصر والسودان وشمال إفريقيا وغيرها) نزول الرسالات السماوية الثلاث الكبرى وغيرها في بلادهم وختامها الدين القيم، جلوسهم على بحر من النفط؛ والنفط شريان الحياة في عالم اليوم. 

وخلافا لما تروجه الدعاية الغربية العنصرية من أكاذيب عن عنصرية وتعصب العرب، واضطهادهم للمرأة؛ فإن جوهرهم يتنافى مع جميع تلك الأباطيل. وذلك بسبب ما جبلوا عليه من كرم وشجاعة ومروءة. وخاصة بعد أن أنعم الله عليهم بالهُدى ودين الحق الذي شرع المساواة فأعلن على رؤوس الأشهاد {إن أكرمكم عند الله أتقاكم} وأنقذ المرأة {أسكنوهن من حيث سكنتم من وجدكم ولا تضاروهن لتضيقوا عليهن...} وأعطى كل ذي حق حقه! ويشكل الموقف من اليهود - قبل أن يصبحوا أداة عدوان في يد الغرب ضد العرب- المعيار الأساسي للتمييز بين قيم العرب وقيم الغرب؛ حيث حمى العرب في جميع أمصارهم وأقطارهم اليهود، بينما أبادهم الغرب وشردهم باعترافه المدون! 

الاستعمار الغربي البغيض وصناعة الحاضر العربي المزري

وفي وهدتهم التي لها أسبابها، خضع العرب - كغيرهم من الأمم- للاستعمار الغربي الهمجي الذي استهدفهم بوعي قبل غيرهم، فأمعن في نهب ثرواتهم وإعاقة نموهم وكبت حرياتهم وهدر طاقاتهم ووقف تقدمهم وتمزيق وحدتهم، ثم زرع كيانا عنصريا عدوانيا مسلحا ومحميا من طرفه في قلب وطنهم. وهذه بعض الأمثلة البارزة على ذلك:

ـ غدر الغرب الاستعماري بالعرب، فنكث بوعده الذي قطعه لهم بدعم تحررهم واستقلالهم إن هم ثاروا على الحكم العثماني وتخلصوا من حكم الإمبراطورية العثمانية، وأقدم على تقسيمهم دويلات وشيعا (معاهدة سايكس ـ بيكو) تقسيما راعى فيه أمرين أساسيين:

1. الفصل بين الثروات الطبيعية والكثافة السكانية، حتى يتسنى له الاستحواذ على ثرواتهم ونهبها في هدوء وأمان واطمئنان.

2. تنفيذ وعدي نابليون وبلفور لليهود بمنحهم وطنا قوميا في قلب وطن العرب.

ـ عمل الغرب على إبقاء العرب متخلفين اقتصاديا، رغم غنى بلادهم وعراقة حضارتهم؛ فاصطنع أنظمة حكم وآليات سياسية واقتصادية فاسدة تضمن استمرار نهب الثروات العربية، والأدمغة العربية، وعائدات النفط العربي وغيره. وفرض التخلف الصناعي والزراعي على العرب كي يظلوا مستهلكين للمنتجات الغربية وتابعين للغرب (ميزانية جميع الدول العربية - مع نعمة النفط- تعادل ميزانية بلجيكا، ونصف ميزانية إسبانيا، و3% من ميزانية الولايات المتحدة الأمريكية!).

ـ سعى الغرب إلى ضمان تفوق إسرائيل العسكري والعلمي على العرب، فزودتها فرنسا بالتكنولوجيا النووية (مفاعلات ووقود) ومدتها أمريكا وألمانيا بالمال (التعويضات الألمانية عن الإبادة النازية المزعومة، والمنح السخية الأمريكية: سبعون مليار دولار سنويا) وتقدم لها بريطانيا وأمريكا كل أنواع السلاح. ويعلن الغرب (كل الغرب، بكل وقاحة) التزامه بأمن وحماية إسرائيل. وقد أصبح هذا الالتزام مقدسا كما صرح بذلك باراك حسين أوباما في خطابه الأخير أمام المؤتمر اليهودي الأمريكي! كما يوفر لها الدعم والتأييد الدائم - مهما كانت الظروف- في الأمم المتحدة وغيرها من المحافل الدولية (اتخذت الولايات المتحدة الأمريكية وحدها 63 فيتو حماية لإسرائيل وهدرا لحقوق العرب! ناهيك عن بريطانيا وفرنسا). في حين يشن الغرب الحرب -دونما سبب ولا شرعية- على أي بلد عربي ويقوم بتدميره (مصر 1956، العراق 1991، و2003 وليبيا وسوريا 2011 مثلا).

ـ ارتكب الغرب الاستعماري مجازر بشرية وجرائم حرب وإبادة جماعية وتصفية عرقية وتعذيب وحشي ضد العرب في سوريا وفلسطين والجزائر والعراق.. الخ. ومن غريب عنصريته وكيله بمكيالين أنه ظل يمتنع عن مساءلة أية دولة من دوله أوأي مجرم حرب منه عن تلك الجرائم، وعن تقديم أي اعتذار عنها للعرب.

ـ حافظ الغرب بصورة دقيقة وممنهجة على استمرار تخلف العرب؛ فاعتمد على الشرائح والفئات الميتة من المجتمع ليكرس عوامل الانحطاط، وحجب نور الثقافة والعلوم والتكنولوجيا والديمقراطية، وكسر كل طموحات العرب في هذا المجال (وقف تمويل السد العالي، تدمير المفاعل النووي العراقي، اصطياد وتصفية علماء العراق، تشجيع هجرة الأدمغة العربية 54% من الطلاب العرب الذين يدرسون في الخارج لا يعودون إلى أمتهم.. الخ).

ـ خلق الغرب وروج صورة نمطية مزرية عن العرب حتى يستسلموا لتفوقه و"نقائه العرقي" وصلت حد قول "صديق العرب" تشرشل: "العرب كالكلاب، كلما ركلتهم أدمنوا لعق قدميك بلطف"!

ولقد قاوم العرب استعمار الغرب وعدوانه رغم تخلفهم وتفككهم. ولهم في ذلك أيام معلومات مثل ميسلون وبورسعيد والجزائر والكرامة ومعركة العبور في أكتوبر 1973 ومعارك لبنان وغزة. كما قاموا بالعديد من الانتفاضات والثورات كانتفاضات عمر المختار في ليبيا، وعبد القادر الجزائري في الجزائر، وعبد الكريم الخطابي في المغرب، والشيخ ماء العينين في موريتانيا. وثورات رفاعة الطهطاوي، ومحمد علي، وعرابي باشا، وجمال عبد الناصر في مصر. وأحمد بن بلا وصحبه في الجزائر. وثورات فلسطين والعراق واليمن.. الخ. كما قدموا أغلى التضحيات مهرا لانعتاقهم وتحررهم. وقد صاغت نخبهم ورعت شتى مشاريع النهوض؛ لكنها تحطمت كلها الواحد تلو الآخر على صخرة العدوان الغربي الدائم، الناعم والمسلح.

وفي خضم الصراع غير المتكافئ بين العرب والغرب الاستعماري انهار مشروع النهوض العربي بأنظمته ومؤسساته وأدواته التي استحوذ عليها كليا الاستعمار الغربي؛ خاصة بعد استسلام مصر وتدمير العراق ونكوص ليبيا القذافي واستسلامها لبوش، فوصل الوضع العربي بقيادة "معسكر الاعتدال العربي" وعناية "الراعي الأمريكي" إلى درك الهاوية والانهيار. وذلك في وقت بلغت فيه عربدة وغطرسة العدو الإسرائيلي أوجها. ولم يبق ثابتا ومتشبثا بعزة العرب، ومدافعا عن ثغورهم وأمنهم القومي سوى الجمهورية العربية السورية الصامدة، وقوى الصمود والمقاومة في لبنان وفلسطين والعراق، تدعمها وتشد أزرها الجمهورية الإسلامية في إيران الشرقية المسلمة،على علات بعض مواقفها.

ولما طفح الكيل، تجمعت عناصر وأشراط الثورة في بعض بلاد العرب، فنشأت أزمة ثورية حقيقية، ووضع لا يمكن احتماله رفض فيه المحكومون أن يُحكموا، وعجز الحاكمون فيه عن ممارسة الحكم.. فقامت الثورة!

الثورة العربية الكبرى.. أو ما سمي "الربيع العربي"

من البديهي لمن يتابع تسلسل الأحداث عن كثب ويسبر غورها ويرصد ترابط حلقاتها أن الثورة العربية التي تفجرت أو ما سمي "الربيع العربي" ليست وليدة لحظة من شتاء 2011أشرقت فيها الشمس فجأة من وراء حجاب فذاب الجليد وتفتحت الأزهار؛ بل هي نتاج تراكمات كثيرة ظهرت إرهاصاتها للعيان منذ عقد من الزمن. وكانت أول زهرة تفتحت في البستان العربي الصريم مؤذنة بميلاد الفجر هي هزيمة إسرائيل بأيدي "رجال الله" في لبنان ضحى آخر سنة من القرن العشرين. يومها، قال قائد المقاومة اللبنانية بحق، وقد رصد اللحظة وتنبه إلى اتجاه التيار ونبض المستقبل: "لقد ولى عهد الهزائم وبدأ عهد الانتصارات"! وتوالى تضاحك النّوْر رغم الصقيع: استمرار وتوسع الانتفاضة الفلسطينية الثانية، انسحاب إسرائيل مقهورة من غزة، هزيمة أمريكا والناتو في العراق وأفغانستان، انكسار أضعف حلقات المنظومة الأمريكية في موريتانيا سنة 2005 ودحر سفارة إسرائيل من المغرب.. ثم هزائم إسرائيل والغرب العسكرية في لبنان 2006 وغزة 2008، وفي الميدان الاقتصادي والمالي أيضا، فسقطت أساطير "جيش الدفاع الإسرائيلي الذي لا يقهر" و"التفوق الغربي الشامل في السياسة والحرب والاقتصاد" و"أبدية نظم الاعتدال العربية الحارسة لنفوذ وهيمنة الغرب" في المشرق.

ولما أشرقت شمس الحرية العربية خيرا ونصرا وفتحا مبينا، كان أوَجُها الوضاء بحق، اندلاع الثورات الشعبية السلمية في تونس ومصر واليمن، وتساقط بن علي ومبارك وعلي عبد الله صالح.

وإذا كانت هذه الأحداث التاريخية العظيمة التي سطرها باقتدار شباب أمة العرب المتحضر، قد فاجأت الغرب في توقيتها، وسرعتها، وقوتها، ودلالاتها الكبيرة.. فإن سقوط نظام كامب ديفد الذي أرساه الغرب خلال عقود وراهن عليه في مصر – خصوصا- بأيدي شعب أعزل خلال أيام معدودة، شكل زلزالا مدويا دك جميع مشاريع وخطط الغرب الاستعماري في المنطقة. ذلك أن انعتاق مصر من نير الغرب، و"عودة الروح" إليها سيعيدها إلى أمتيها العربية والإسلامية، وإلى قارتها الإفريقية، وإلى معسكرها التحرري؛ كما سيعيد إسرائيل إلى قفص الوقوع بين فكي كماشة مصر وسوريا! وهذه – لعمري- أكبر هزيمة يمنى بها من يعتبرون (ونعتبر معهم) أن أعظم إنجاز حققوه في سبيل تأبيد سيطرتهم على العرب وتدجينهم إياهم كان تحييد مصر وتكبيلها باتفاقية استسلام أخرجتها من حلبة الصراع العربي الإسرائيلي؛ فمصر هي قلب العرب و"أم الدنيا". ومن يحكم مصر يحكم العرب ويحكم العالم.

ومن هنا كان لا بد للغرب من القيام بردة فعل صاعقة ومدمرة! كان لا بد له من تفجير هزة ارتدادية تغتال "الربيع العربي" بإخماد وتخريب الثورة العربية المرعبة (خاصة في مصر) وتجتاح وتقتلع المواقع والقلاع الثورية والشعبية، وتزرع الشقاق والفتنة والثورة المضادة في البلاد العربية؛ بدءا بالدول والمنظمات الثورية والممانعة، وتربك الناس وتخلط المفاهيم والأوراق وتبتذل الثورة وتشوه قدسيتها، فتتحول من فعل جماهيري إنساني رائع ومتحضر كذلك الذي شاهده العالم في تونس ومصر واليمن والبحرين، إلى إرهاب همجي قوامه القتل والتدمير والنهب كذلك الذي تقوم به عصابات الملثمين وذوي اللحى ضد المدنيين الآمنين، وضد المؤسسات الوطنية والطوائف الدينية والأقليات العرقية في سوريا ولبنان.

وليس هذا من قبيل "المؤامرة" كما قد يتصور البعض؛ بل تكيّف ودفاع غربي "مشروع" عن المصالح والنفوذ والسيطرة الغربية على العالم، وصراع من أجل البقاء، وسنّة من سنن كون لا يكون البقاء فيه لغير الأصلح والأقوى!

من ربيع عربي واعد إلى شتاء غربي مدمر

altهل كان بالإمكان أن يقبل الغرب -أو يتقبل- هزيمة نكراء بحجم الكارثة عليه وعلى صنيعته إسرائيل بكل هذه البساطة، أم من المنطق تصور استسلامه بسهولة لإملاءات الثورة العربية في فجر القرن الواحد والعشرين؛ وهو الذي اغتال وأجهض جميع الثورات العربية في القرون الماضية؟ وهل كان متوقعا أن يجمع أمتعته، ويقوض قواعده ومستعمراته، ويسحب رجاله ويرحل.. تاركا للعرب زمام مصيرهم ومقاليد أمورهم؟ لعل ذلك ضرب من الخيال الذي يفوق التصور، أما المراهنة عليه فإنها مقامرة خاسرة كل الخسران.

لذا لا عجب أن تجري غداة سقوط حكم كامب ديفد في مصر، مشاورات عاجلة في عواصم الغرب وإسرائيل المذعورة، تمت خلالها مراجعة سريعة للموقف، تحولت بموجبها ثورة العرب بأعجوبة في إعلام وقواميس الغرب من "أعمال شغب وتمرد" إلى "ربيع عربي"! عندها دُقت طبول "الحرب المقدسة" دفاعا عن "الحرية" والديمقراطية" و"الربيع العربي" أيضا! وزُجّ بالقوى الناعمة (الإعلام) في الميدان تبيّض الأسود وتسوّد الأبيض وتلغي ما سوى ذلك من الألوان. وأُسرجت أفراس الرهان المسوّمة، وبدأ إعداد ومراجعة الخطط والمشاريع الاستعمارية من "سايكس ـ بيكو" إلى "الفوضى الخلاقة" و"الشرق الأوسط الجديد" فمخطط "كوفونيم" الذي يجري تنفيذه بدقة متناهية الآن دون أن يرد ذكره على لسان.. وشُرع في تقسيم الأدوار، وبناء التحالفات في الظلام على النحو التالي:

ـ رشحت فرنسا ساركوزي، بعد تخليها عن نزعتها العريقة إلى الاستقلال وزعامة أوروبا، لتصبح وصيفة لأمريكا مثلما كانت بريطانيا بلير، للاضطلاع بقيادة الهجوم الاستعماري الجديد على العرب، يحدوها الحنين إلى ماضيها الاستعماري البشع. ومن أجل أن تقوم بدورها المخزي المحدد أبعدت آخر قامة غولية (هي السيدة آليو ماري) من سدة الحكم، واستُغني عن خدمات "ناشط إنساني" يهودي تجاوزته الأحداث في "كي دورسي" لامتطاء "غولي" قدير ومخضرم عاد للتو من عملية غسل مخ ناجحة في أمريكا، ويحلم بالوقوف على ضريح صلاح الدين في دمشق المنيعة ليخاطبه بما كان خاطبه به العقيد غورو: "ها قد عدنا يا صلاح الدين"!

ـ استُنهضت وعُبئت وأُطرت فلول ومؤسسات الأنظمة المطاح برؤوسها؛ تلك الفلول والمؤسسات المرتبطة ارتباطا عضويا بالغرب (خاصة الجيش والشرطة والإدارة والمال) أولا نتذكر أن السيدتين رايس وكلنتون كانتا لا تجتمعان عندما تزوران المنطقة العربية بالمسولين على جميع المستويات فحسب، بل وبقيادات الأمن العربي أيضا! ودونما رقيب أو حسيب. لأنهما تمسكان بكافة الخيوط والأعصاب الحساسة في النظام العربي التابع لأمريكا.

ـ أُسرجت الجامعة العربية ومجلس التعاون الخليجي ومنظومة الدول السائرة في فلكهما.. أما مجلس الأمن والأمم المتحدة فمُسوّمان أصلا!

ـ جُند الإسلاميون - إخوانا وسلفيين وقاعدة- في جهاد مقدس جديد تقوده أمريكا وحلف شمال الأطلسي وإسرائيل. وإن الدور الذي لعبوه في ليبيا، وخطاب أيمن الظواهري الداعي إلى الجهاد ضد سوريا، وإسقاط القضية الفلسطينية وتحرير القدس من مهمات الجهاد، وتمكين الغرب ووكلائه في المنطقة لهم ليتبوؤوا مقاليد السلطة في دول الثورات، لأقوى دليل على تحالفهم مع العدو!

وفي أيام معدودات:

·       تدخل الغرب في ليبيا متخذا من انتفاضة بن غازي الشعبية المشروعة ذريعة لإشعال حرب أهلية لا هوادة فيها استخدم فيها إعلامه وإعلام أتباعه من العرب والأتراك، وغطاء الجامعة العربية، وسلاح ورجال القاعدة. ولما لم يُجْدِ ذلك نفعا استخدمت ترسانة حلف شمال الأطلسي بتفويض من مجلس الأمن! لتدمير ليبيا وقلب النظام فيها والسيطرة على نفطها وأسواقها (في انتظار تفكيكها) وموقعها الاستراتيجي الفريد؛ خاصة لمن يحضّر ويبيّت تصفية الثورة في مصر!

·       أشعل الغرب كل التناقضات التي فجرها ورعاها في مصر: الفتنة الطائفية بين المسلمين والمسيحيين، الفتنة بين الجيش والشعب، الفتنة بين الوطنيين الديمقراطيين والإخوان والسلفيين.. الخ؛ بغية إغراق الثورة المصرية في وحل الفتنة وعزل وتفكيك قوى الثورة، وخلق محور محافظ موال للغرب في مصر ركيزتاه الجيش والإخوان الذين عادوا إلى بيت الطاعة!

·        أجهض الغرب ثورة شعب اليمن السلمية على عبد الله صالح، فدعم نظامه سياسيا وعسكريا، وقدم له طوق نجاة خليجيا قسم الثورة، وحافظ على النظام، ووفر له ولأعوانه المجرمين الحماية من العقاب والمساءلة!

 

·       قمع الغرب ثورة شعب البحرين بالتجاهل والوأد وإعطاء الضوء الأخضر لوكلائه الحصريين في المنطقة ليرسلوا قوات "درع الجزيرة" لكسر إرادة المعتصمين المسالمين في دوار اللؤلؤة!

·       قفز الغرب إلى سوريا الواقعة على خط تسديده منذ أمد طويل لصمودها ووقوفها في وجه سياساته الاستعمارية والعدوانية وإفشالها لكافة مخططاته في المنطقة وكونها ظهيرا منيعا لقوى المقاومة في لبنان وفلسطين وغيرهما، مستغلا الاحتجاجات المشروعة المطالبة بالإصلاح. وفي لمح البصر زج بآلاف المسلحين المدربين القادمين من شتى أصقاع الأرض عبر تركيا والأردن والعراق ولبنان في المدن السورية، وشرع لهم القتل والتدمير، ووفر لهم التغطية الإعلامية الكاذبة التي تعزف على كل أوتار الفتن الطائفية والدينية والمذهبية ومدهم بالمال والدعم السياسي المطلق في المحافل الدولية.

·       تم كل ذلك وقد سلخ جنوب السودان الغني بالنفط لتقام فيه دويلة مسخ تابعة لإسرائيل، وتناصب الشمال العداء، وتعطي النموذج الانفصالي لمختلف الحركات الانفصالية التي يزرعها الغرب في جسم السودان المنيع ويتعهدها بالمال والسلاح صباح مساء!

·       ناهيك عن تدمير العراق وإبادة وتجويع الفلسطينيين وتهويد القدس والضفة وحصار وضرب غزة.. وما جرى ويجري هنا وهناك من محاولات استهدفت الجزائر وموريتانيا والمغرب.. وغيرها.

وهكذا حول التدخل والعدوان الغربي الاستعماري الساحة العربية بين عشية وضحاها من ساحة ثورية تعصف بالطغاة وترسم معالم غد أفضل لشعوب المنطقة إلى ميدان مكتظ بالفتن والصراعات المختلفة وممهد للتفكك والتشرذم الذي وضع خطته منذ ثلاثين سنة قادة إسرائيل الصهاينة كتجسيد مطور لتصوراتهم الأكثر طموحا لإقامة إسرائيل الكبرى. 

وإذا كان بعض المحللين يرون في هذا الهجوم الغربي الجديد المنظم بدقة وإحكام حلقة في سلسلة العدوان الغربي المتواصل على الأمة العربية وتمهيدا لارتكاب جريمة تقسيم جديد على غرار معاهدة سايكس ـ بيكو المشؤومة، فإننا نذكّر هنا بأن مخططا أشد خطورة وأخبث من سايكس ـ بيكو (لأنه يقسم المقسم أصلا) هو ما يجري تنفيذه اليوم من طرف الغرب، بعد أن وضعه القادة الإسرائيليون كما أسلفنا. وقد نشر هذا المخطط بمجلة "كيفونيم" (توجيهات) التي تصدرها المنظمة الصهيونية العالمية في القدس حول مخططات إسرائيل الإستراتيجية خلال الثمانينات. وجاء فيه:

"إن مصر كجسد مركزي أصبح جثة هامدة؛ خاصة إذا ما أخذنا بعين الاعتبار الصراع الذي يزداد حدة بين المسلمين والمسيحيين. وتقسيمها إلى مقاطعات جغرافية مختلفة يجب أن يصبح هدفنا السياسي في التسعينات على الجبهة الغربية.

وبمجرد تفكيك مصر وحرمانها من السلطة المركزية ستعرف دول مثل ليبيا والسودان، ودول أخرى نائية، نفس المصير. إن إنشاء دولة قبطية في مصر العليا وخلق كيانات جهوية ضعيفة الأهمية يعتبر مفتاحا لتطور تاريخي تأخر في الوقت الراهن بسبب اتفاقية السلام؛ ولكنه آت حتما على المدى البعيد.

وبرغم ما يظهر، فإن الجبهة الغربية تمثل مشكلات أقل من تلك التي تمثلها الجبهة الشرقية. ثم إن تقسيم لبنان إلى خمس مقاطعات يعد تجسيدا مسبقا لما سيحدث في العالم العربي برمته. كما أن تفجير سوريا والعراق إلى مناطق على أساس عرقي أو ديني يجب أن يصبح –على المدى البعيد- هدفا أوليا لإسرائيل. والمرحلة الأولى لذلك هي تحطيم القدرة العسكرية لهذه الدول.

إن البُنَى العرقية لسوريا تعرضها لتفكيك قد يؤدي إلى إنشاء دولة شيعية على طول الساحل، وإلى قيام دولة سنية في منطقة حلب، ودولة أخرى في دمشق، وكيان درزي يتمنى تكوين دولة خاصة به –ربما فوق منطقتنا (الجولان)- وعلى كل حال مع حوران وشمال الأردن.. إن مثل هذه الدولة على المدى البعيد قد يكون ضمانة للسلم والأمن في المنطقة. إنه هدف في متناولنا.

إن العراق كدولة غنية بالبترول وعُرضة لمواجهات داخلية توجد على خط التسديد الإسرائيلي؛ ذلك أن تفكيكها يعتبر أكثر أهمية من تفكيك سوريا، لأن العراق يمثل - على المدى القصير- التهديد الأكثر جدية لإسرائيل".

("كيفونيم القدس" رقم 14 عدد فبراير 1982 ص 49-59)". انظروا كتاب الأستاذ روجي غارودي: الأساطير المؤسسة لدولة إسرائيل ص 190.

ذلك هو الوجه الحقيقي للشتاء الغربي المدمر الذي جاء ردة فعل غربية صهيونية رجعية على الثورة العربية العظيمة في تونس ومصر واليمن والبحرين؛ هدفه إلغاء وتصفية تلك الثورة. وسعى في سبيل تحقيق هدفه إلى التماهي معها واستخدام بعض شعاراتها وأساليبها الثورية، وإلى استغلال غضب الجماهير ومطالبها المشروعة، وقدم نفسه إلينا "ثورة" و"ربيعا عربيا" فعرفه بعضنا على حقيقته فحاربه، أو أعرض عنه منشدا قول أمير الشعراء -على لسان الديك- في تدين وزهد الثعلب:

بلغ الثعلبَ عــــني     عن جدودي الصالحينا

عن ذوي التِّيجان ممن     دَخل البَطْنَ اللعِينا

أَنهم قالوا وخيرُ الـ     ـقولِ قولُ العارفينا:

مخطئ من ظن يوما       أن للثعلب دينا

واختلط على بعضنا فاتبعوه دون أن يرجعوا البصر ويتأملوا ويعتبروا -أو يتمثلوا على الأقل- بقول حكيمهم وشاعرهم المتنبي مخاطبا سيف الدولة:

أعيذها نظرات منـك صادقـة      أن تحسب الشحم فيمن شحمه ورم

وما انتفاع أخي الدنيا بناظره      إذا استـوت عنـده الأنـوار والظلــم.

فيديو

فيديو

فيديو

فيديو

فيديو

فيديو

فيديو

الآن في المكتبات

فيديو

المتواجدون الآن

حاليا يتواجد 9 زوار  على الموقع