| يوم في عمري |
| الجمعة, 30 ديسمبر 2016 07:31 | ||||||
|
(في حضرة الأديب الكبير الشيخ ولد مكي) ننشر هذا المقال في الذكرى العشرين لوفاته رحمه الله
وفي السبت الموالي ارتدت منزل علم آخر من أعلام تلك الولاية شرفتْ به؛ ألا وهو الأديب الكبير الشيخ بن مكيٍّ.. كانت ولاية "لبراكنه" أول ولاية وطئتها قدماي من أرض الوطن، بعد "الگبله" وكان ذلك أواخر سنة 1962، عندما انتدبني حزب الشعب - الوليد آنذاك- لقيادة بعثة تنصيبه إليها. توجهت إليها جوا رفقة السيد محمد عبد الله بن اعبيدي كاتب بلدية أطار، ومكثنا فيها أكثر من شهر نتنقل ليل نهار في مقاطعة "ألاگ" التي كانت تضم آنذاك "مگطع لحجار". وقد زرت الأماكن التالية: "لمدن" (أهل الشيخ عبد الله) و"شگار" (أولاد أحمد) و"گيمِ" (أولاد نغماش) و"آگرج" (أهل الشيخ أحمد حضرامي) و"التاشوط" (كنته) و"مال" (تركز) و "شگار گادل" و"بجينگل" و"لم عودُ" و"كهاجِ" كما زرت حي أهل الشيخ المصطفى وحلة أهل أحمدو. وقد حظيت بالتعرف على أعيان الولاية مثل: الأمير لبات بن احمياده وابنه سيد أحمد رحمهما الله، واهميمد بن ببكر أطال الله عمره، والشيخ المصطفى والناجي ابني الشيخ عبد الله رحمهما الله، والشيخ أحمد أبي المعالي رحمه الله، والمرحوم شَيْنَّه بن أحمد عبد وابنه الشيخ أحمد، ومحمد بن محمد المصطفى عمدة ألاگ الأسبق، والأديب الشيخ بن مكيٍّ الذي كان آنذاك في صفوف المعارضة، وأحمد بن أعمر، ويحيى بن عبدي، وعبدُ بن صنبه فال وغيرهم.. دارت ذكريات هذه الأيام الخوالي في ذهني، وأنا أتعتب لأول مرة دار هذا الأديب في مدينة ألاگ صحبة زميلي الأستاذ عبد القادر ولد محمد سعيد، وكانت دارا متوسطة تقع في قلب المدينة على حافة طريق الأمل. كان المكان نظيفا ومرتبا، يتألف من ثلاث غرف على أغلب ظني، وخيمة منصوبة في فِناء المنزل، وفي الخيمة نسوة.. سلمنا فرددن السلام. وبادرت إحداهن بدعوتنا إلى الدخول، عرفنا فيما بعد أنها السيدة أم كلثوم بنت القاضي والأديب محمد عبد الله بن الديدَّه (يلقبه أصحابه بـ"افريكيس") وهي زوجة الأديب والعالم الذي نحن في رحابه. كان الوقت ضحى وكان الشيخ نائما. أيقظته المرأة وأجلسته ثم أخبرته بصعوبة بوجود زوار. سأل عن أسمائنا وعمن نكون. أخبرناها، فأخبرته. كانت أربع وثلاثون سنة مرت على أول – وآخر- لقاء بيننا كافية لمحو وقائع ذلك اللقاء، الذي دار في البادية عندما كان الشيخ يسكن في خيمة من الصوف في حي "إداتفاغه" وكفيلة كذلك بتغيير الرجل. لقد ذهب بصره بعد الحدة، وكذلك سمعه (حيث لم يعد يسمع إلا بطريقة قذف الكلمات في أذنه مباشرة وبصوت مرتفع) وضعفت ذاكرته جدا إلى درجة أنه يعاني في تذكر إنتاجه أكثر مما عاناه في إنشائه. كما أن جسمه امتلأ بعد أن كان يميل إلى النحافة، إن لم أقل الرشاقة. ومع ذلك فلا تزال أسنانه قوية وجميلة؛ وهندامه حسن، ورأسه ولحيته مرتبان أحسن ترتيب، مما يوحي بالعناية الفائقة؛ كما أن أفكاره لا تزال واضحة وصافية، لم يتطرق إليها أي صدأ أو وهن. طلب لنا الشراب والشاي و"أطاجين" فوجد أهله سبقوا إرادته وجهزوا كل شيء في لمح البصر. وفي لمح البصر أيضا، تجاوزت الرسميات، واستغنيت عن خدمات "المترجمة" وعانقته وقلت في أذنه بعد مقدمة السلام و"الزيارة":
- ما هي أجمل "طلعة" قلتها في رأيك؟ قال وكأنه يلقي خلاصة تجربته وصية إلى الأجيال: - الأدب الحساني ينقسم - في رأيي- إلى ثلاثة أقسام هي: لغن، والبَدْع، والأدب: فـ"لغن" هو الدرجة الدنيا ويطلق على الوزن (النظم) فكل من يستطيع وزن (نظم) گاف (بيت رباعي) يعتبر "امغني". ويمكن أن يمثل ذلك بالتجارة وتربية المواشي. فكل من يمارسون التجارة، يسمون تجارا بغض النظر عن رؤوس أموالهم؛ فمن يتاجر بألف يسمى تاجرا، ومن يتاجر بمائة مليون يسمى تاجرا. وكذلك المنمون؛ إذ يستوي "بوميه وبو اجديه". و"البَدْع" هو درجة فوق ذلك. إنه الاقتدار وتناسق اللفظ والمعنى وجزالة الألفاظ.. إنه "نظم المراد" وفيه يدخل ما قاله كبار شعراء الحسانية. أما "الأدب" فهو الدرجة العليا؛ وهو السهل الممتنع الذي إذا سمعته لأول وهلة حسبت أنك قد سمعته من قبل ذلك، وأنك تستطيع أن تقوله. بينما أنت لم تسمعه قط، ولا يمكنك أن تقوله.. وهذا الصنف من الأدب جد صعب فقد قاله محمد بن هدار الكبير. خذ مثلا اطلع: "مَارِتْ عَنْ لَمْرْ الْمُولْ الْكَوْنْ.." و"گَطْ اخْتِرْتْ امْنْ اجْمَالْ اجْمَلْ.." و"الْيَوْمْ أَلَّ رَاهْ اعْگَبْ عَادْ.." وطلعة "اصْوَيْگْ التَّيْدُومْ الْمَحْرُوگْ" وقال منه امحمد بن أحمد يوره طلعتين هما: "شِخْسِرْ گَاعْ اعْلَ حَدْ ارْكَبْ.." و"مَا تَگْلَعْ شِ حَدْ امِّنْ هُونْ.." وهذه الأخيرة ينقصها عدم تحديد مكان الانطلاق "هون".. "هون امنين؟". وقال منه "صاحب تاشديب" ولد ساعيد بن عبد الجليل طلعتين هما: "نَعْرَفْ لَيْلَه رَاحُ فِرْسَانْ.." و"حَدْ اكْصَرْ لِ ذَ الدَّهْرْ اگطَارْ الدَّمْعْ اعْلَ دَارْ امْبَطَارْ.." وفي الطلعة الأولى عبارة لم يسبق لها أبدا "ألاَ يَعْمَلْ زَادْ إرَ حَدْ". سألته: أهي بالنفي؟ مع علمي أن "التافلويت" غير مستقيمة الوزن بهذه الصيغة فقال: نعم، هي بالنفي وهذا سر جمالها. وبينما كان يحاول بصعوبة تذكر "طلعة" امبطار سألته: ألا تعني طلعة "مِنْ عَاشُورْ إلَى الْبِيظْ"؟ فقال: لا؛ تلك من البدع وليست من الأدب. وواصل حديثه قائلا: وقلت أنا منه (أي الأدب) طلعة واحدة هي طلعة "بَقَّاسْ" إنها أجمل ما قلته إطلاقا. قلت: و"طلعة الولاة" أليست من الأدب؟ ضحك وقال: تلك شيء آخر. قلت له: على ذكر طلعة الولاة هل "أُلا" الموجودة في التافلويت الرابعة تأكيد أم نفي؟ فقال: هي نفي "لُو كَانْ تلبُ كرامه". قلت: طلعة "ذي دار ابْعَيْرَبَاتْ.." أليست من الأدب؟ قال: إنها من لبتيت الناقص وهي طلعة من النسيب؛ لكنها ليست من الأدب فالأدب هو السهل الممتنع. وهناك غرضان من أغراض "لغنَ" هما أحوجه إلى الأدب؛ ألا وهما الهجاء والغزل؛ لأن أجودهما ذلك الذي تمكن "حكايته" في كل مكان وفي كل جماعة دون إخلال بالحياء. وبدأ مخاض تذكر طلعة "بقَّاسْ" الذي استغرق ربع ساعة تقريبا وهي:
واستمر مخاض الذكريات الأليم، فتذكر بصعوبة نحو عشرة نصوص من جيد إنتاجه، قيلت كلها في أرض "الترارزة". قلت له: إن جميع ما تذكرت من جيد "اغناك" قيل في أرض "الترارزة" ونحن معنا القاضي بن الديدَّه (ابن شيخه وعم زوجته، كان دخل لتوه، وهو من شخصيات القبيلة والولاية). قال الشيخ: إن وجود القاضي أو غيره لا يهمني. فأنا أعترف صراحة بأن هذا "لغن" الذي أقوله لم يقله أبي ولا جدي وهو من بيئة "الگبلة" ولم يقله قبلي من قومي إلا "البُو بن امَّيْنْ" وذلك أمه من "أولاد سيد الفالي" واسمها فاطمة بنت باب بن الفاظل، وهو مولود عند "التاگلات". وعلى ذكر البو بن امَّيْنْ، سأله زميلي ذ. عبد القادر عما إذا كان يوجد في "لبراكنة" من يفوق البو بن امين في "لغنَ"؟ قال: نعم سألناه: من هو؟ ضحك ضحكة الواثق من أن شواهد الامتحان لن تكذبه وقال: أنا؛ أنا أستطيع أن أقول ما لا يستطيعه البُو. سألته: أليس في قولك عن الترارزة" مجاملة؟ فرد: لا؛ لقد كنت في تلاميذ الكحله (محظرة أهل الدِّيدَّه المشهورة) وكان شيخها آنذاك الشيخ الدِّيدَّه بن محمد محمود (ابن عم الشيخ وجد زوجته). وكانت عامرة بـ"تندغه" وأولاد حبيني" و"مدلش" وغيرهم من أهل "الگبله" فوافقتني أخلاقهم. فلما رحلوا آئبين إلى أهلهم، رحلت خلفهم وكنت آنذاك أقول "الگاف" وكان ذلك بعد وقعة أم التونسي بعام واحد "اشياخت أحمد ابن الديد". وبدأتُ بأهل "إگيدي" عرفت شخصياتهم، وتعلمت أدبهم وصرت راوية لهم، ثم رحلت إلى "اندر" (سانلويس) وفيه التقيت "امحمد" و"سيديا" و"باب" أبناء هدار وأولادهم، ورويت عنهم الكثير، وقابلت محمد باب وأحمدُّ باب وشماد أبناء امحمد بن أحمد يوره، كما قابلت محمدن بن أبن المقداد وأدركت بقية من الدنيا. وبدأت أقرض "لغنَ" وما أبدعته هو الابن الشرعي لـ"اغنَ" امحمد بن أحمد يوره وأهل هدار. و"اغنايَ" في الغزل والنسيب كله قلته في منطقة "الگبلة" و"الركيز" خاصة. أما "اغنايَ" في "لبراكنه" بعد عودتي إليها فينصب حول السياسة. لقد تزامن رجوعي مع سياسة أحمدُ بن حرمه وحاول أهل "لبراكنه" وأهل بوتيلميت مناظرتي في السياسة فلم يوفقوا؛ لقد كنت أساند من توافق سياسته الناس. لقد وقف المختار ابن داداه في بادئ الأمر مع ساستنا الذين لا يرضوننا، ولما قلت لهم "طلعتي". "اگْبَـلْ يَلْعُمَّالْ انْتِقَـالْ الْعَامِلْ مِنْ حَالْ إلَى حَالْ.." تخلى عنهم المختار وتخلصنا منهم. سألته: عن الفنانات العظيمات اللواتي عاصرهن في "الگبله" فأجاب: عيشه بنت محمد اعلي، وعيشه بنت الببان، وتكبير بنت أعمر امبارك. وجليت بنت انگذي. سألته عن امحمد ولد انگذي؟ قال: إنه صديقي، ولم يأت الزمان بمثله. وفي إحدى حفلاته قلت "گافي" المهشور الذي قال القاضي محمذن بن محمد فال عندما سمعه: سبقني الشيخ لهذا "الگاف"! وهو:
وفي واقع الأمر فإن هذا "الگاف" الذي قيل منذ نصف قرن هو أروع تعبير وجدته عن ماهية هذا الأديب الكبير. لقد شاب كثيرا وشاخ وضعف، ولكن طباعه ما تزال يوافع! وعند هذا الحد أنهيت حواري مع جميع العصور والأزمنة؛ ففي حضرة الأديب الشيخ بن مكيٍّ تكون في حضرة العصور كلها.. "فزمان الأديب كل زمان". وأنهينا - أنا وزميلي- ما يسميه الأستاذ أحمد سالم بن اتا "راحة المحاربين" وعدنا في مساء نفس اليوم إلى انواكشوط حيث ختم "التحقيق" في ملف قتيل "امبرواجي" وطوي على الجمر مثلما طوي ملف الصحراء.. وبدأت وجبة التحقيق في ملف "المخدرات" رقم النيابة 522/ 96. |
