رحلـة الشتــاء (ح 8)
الخميس, 13 سبتمبر 2012 09:12

 

الجــلاء

altالجمعة 18/ 12/ 1998.

خلا حي المفوضية المركزية - وهو حي إداري- من الناس تماما. فالجمعة عطلة. زارهم الطبيب العسكري زيارة مفاجئة. قام بقياس ضغطه فوجده قد انخفض، لكنه ما يزال غير متناسق!

علم من بعض حراسه أن قصف العراق متواصل، ولم يحرك "مجلس الأمن" ساكنا كعادته. وأن فرنسا ما تزال متذبذبة أيضا.. وحده شفنماه احتج! أما الشعوب العربية - بما فيها شعبنا- فقد اكتفت بأضعف الإيمان: التظاهر!

سمع نتفا من خطبة الجمعة تسربت من نويفذة زنزانته. لعلها من مسجد ابن عباس حيث يصلي، بالتواتر، "الصالحون" من أهل السر! ورغم أن الإمام ركز على فضل رمضان وصومه، فإنه مر مرور الكرام على الوضع في موريتانيا، فانتقد الشقاق! ودعا إلى الوحدة! واستنكر محاولة المعارضة إسقاط النظام، ومحاولة النظام إقصاء المعارضة! كما ندد بقصف العراق، ودعا المسلمين إلى الوحدة.. و.. "دعا ربه أني مغلوب فانتصر"!

أولا يعلم السيد الإمام أن "الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم"؟

من خلال تكييف الشرطة الوارد في محضرها، اتهموا بالجرم المشهود. لا عبرة بنهوض البينة من عدمه! أوليس هناك قرار بوليسي بذلك، رغم أنف "دولة القانون"؟

.. وحتى في حالة ثبوت وقوع الجريمة المشهودة وقيام الأدلة على مرتكبها، فإن ضابط الشرطة القضائية المكلف بالبحث يخبر فورا وكيل الجمهورية، وينتقل بدون تأخير إلى مكان الجريمة (المادة 46 من قانون المرافعات الجنائية). وفي مثل تهمتهم، لا تتجاوز مدة الحراسة النظرية (أي مدة حجزهم في مخافر الشرطة) ثمانا وأربعين ساعة قابلة للتجديد مرة واحدة بواسطة إذن مكتوب من وكيل الجمهورية. وبانتهاء تلك المدة يطلق سراح المتهم أو يحال وجوبا إلى القضاء (المادة 56 من نفس القانون).

في قضيتهم لم يعلم وكيل الجمهورية أصلا‍! فالقضاء آخر من يعلم في "دولة القانون"!

الساحة خالية للشرطة السياسية.. لا ناه ولا منته!

 

على الساعة السابعة والنصف مساء، أخبرهم المفوض أن "الإدارة" قررت نقلهم إلى الداخل، دون تحديد، وعليهم أن يكتبوا بواسطتها إلى أهلهم يطلبون تزويدهم بما يحتاجون إليه من متاع.

احتج بشدة، كعادته، على ذلك القرار الظالم. كتب رسالتين إحداهما إلى أهله والثانية إلى محاميين وكلهما على رعاية مكتبه. أرفق بالرسالة الأخيرة وكالة وجردا للأمور المستعجلة والقضايا المجدولة. علم لاحقا تلك الليلة، من نفس المفوض، أن الرسالتين لن تصلا! ولن ترجعا إليه! فلعل فيهما البينة البالغة على جنوحه!

أمه العجوز رابطت بباب المفوضية تريد رؤيته قبل الفراق. تريد ضمه إلى صدرها، وبودها ـ كابن زريق ـ لو تودع الحياة ولا تودعه! ومن يدري؟ فقد تودع الحياة قبل أن يعود إليها! فقد يطول أمد الفراق؟ (في ديمقراطية العسكر لا قانون فوق إرادة الحاكم بأمر الله والقبيلة!) لم يسمحوا لها بالاقتراب إمعانا في قهره ورغبة في إذلالها! أجلوها عنوة من المكان. مواجهة متكافئة جدا: عجوز تدب على ثلاث ومدججون مدربون على "حماية الوطن"! رحم الله "العهد الاستثنائي" البغيض ـ إن كان قد ولى حقا ـ ما كان أعدله وأرحمه! قالت وهي تتذكر أنهم سمحوا لها بتوديعه في ذلك العهد في فبراير سنة 80 وأذنوا له بالذهاب إليها وتوديعها في مارس سنة 81!

.. وماذا في أن تودّع أم فلذة كبد في طريقه إلى منفى جائر؟ ينهار الأمن، أم تسقط السماء على الأرض؟

في شهر فبراير سنة 80 اختطفوه من عند رأس جدته المريضة أغلى مخلوق في حياته؛ لم تستطع المسكينة أن تتحمل الصدمة فودعت الحياة وهو في سراديب إدارة الأمن! وفي مارس سنة 81 لم يستطع والده الشيخ تحمل مآسي المنفى والقهر فرحل إلى جوار ربه! 

 

حملوا حقائب الثلاثة في سيارة تويوتا هايلكس.. جمعوهم أخيرا. اقتادوهم إلى تلك السيارة صحبة ستة من الحرس. لم يذكروا لهم الوجهة، أو يبلغوهم أي قرار قضائي أو إداري يقضي باعتقالهم أو بنفيهم!

شارع جمال عبد الناصر، الشريان الرئيسي لمدينة نواكشوط، مغلق من جميع جهاته. توجه موكبهم، بقياده سيارة صغيرة، شمالا سالكا طريق أگجوجت، حتى بلغ مستوى دار النعيم. عرج مع الطريق الملتوية صاعدا نحو امزيلگه وتن اسويلم. تخلى عنها من أحد منعرجاتها سالكا طريقا غير معبد يؤدي إلى الرابع والعشرين. في مدخل الرابع والعشرين، توقفوا للتزود بالتعليمات الأخيرة من راكب السيارة الصغيرة الذي رجع من هناك..

وانطلقوا في جوف الدجى يقتفون "طريق الأمل".. إلى وجهة مجهولة!

توقفوا للاستراحة دون بوتلميت. لعلهم يريدون عبور المدينة في وقت متأخر، حتى لا يشعر أحد بصيدهم الثمين..

 

وعلى ذي التيلميت استوسقت ** لمزار الشيخ تهدي بالهضب!

 

تذكر عهود بوتلميت الزاهرة: الشيخ سيديا الكبير المؤسس، الشيخ سيد محمد المنظر، والشيخ بابه الباني...

شريط الذكريات يترى:

كل طرقه إلى المنفى الشرقي مرت بهذه الروما!

دخلها أول مرة قادما من ألاگ نهاية 1962. توقف بمعهدها الوطني الرائد. التقى نخبة من الطلاب لعبت أدوارا بارزة في نهضة الوطن..

ملاعب الشيخ سيدي محمد ومحمدو بن محمدي!

مجالس ابن حنبل وابن السالم وابن الشيخ المعلوم!

دمن الشيخ الطالب اخيار في "العلب الشرگي"!

 

كانت بوتلميت، عندما عبروها، نائمة "مطمئنة" غافلة!..

 

يا حمى الشـــيـخ سَيِّدِيّ وبابـا ** ولـوى المجـد والعــــلا والجود
قد مررنا على ربوعـكِ وهنـا ** بينما كنتِ في ســــــبات بعــيـد
أتناميـن والليالي حـــــــبالــى ** وبنو الأرض رُسَّفٌ في القيود؟

 

مروا خفافا بألاگ عاصمة لبراكنه... هنا كانت إمارة أبناء أم العز!.. وهنا احتضن جحاجحة إجيجبه دعوة ناصر الدين ورفعوا رايتها عاليا.. ومن هنا بزغت موريتانيا الحديثة من رحم الاستعمار سنة 1958!

عرسوا، سحيرا، على الرمل الناعم البارد، في كريمي!

وفي صباح السبت 19/ 12/ 1998 احتملوا متجهين وجهة، ظهر - بعد أن تجاوزوا مگطع لحجار وصانگرافه.. وبانت "أم أرده" وبدت قرون "آكرراي"- أنها "العصابة" أو "الحوضان". وفي قرية "انتاكات" عرجوا عن الطريق. ثم أناخوا بعيدا عن عيون الرقباء والعذال، في انتظار قادم من عاصمة الولاية كان الملازم الشيخ بن امعييف، من الحرس الوطني، الذي قاد الرحلة إلى بو امديد بعد مقيل طيب في خلاء من الأرض شمال انتاكات.

على الساعة السابعة والنصف مساء، وصلوا إلى قرية بو امديد الرازحة تحت الرمال، لحد يصعب معه دخولها.. توجهت بهم السيارات غربا، حتى خرجوا من القرية، مما دعا الأستاذ باباه إلى التساؤل عن وجهتهم الحقيقية. في ضويحية من القرية، تلي الوادي، لا يتجاوز عدد مساكنها عدد أصابع اليدين، توقفت بهم السيارات أمام كوخ في أقصى تلك المنازل، كالإبهام، تسربله الرمال. أمروا بالنزول وأنزلت أمتعتهم التي انحصرت في كتب قليلة وبعض الملابس. وجدوا أمامهم أفرادا من الحرس الوطني قادوهم إلى داخل الكوخ. أول من دخل الكوخ هو الرئيس أحمد، ثم تلاه الأستاذ باباه، وأخيرا جاء دوره هو.

لم يكن في استقبالهم أحد غير الحراس المدججين بالسلاح، رغم وجود والي العصابة السيد محمد بن ابيليل والحاكم في القرية ـ المقاطعة. مكثوا إلى ما بعد الساعة الحادية عشرة دون أن يقدم إليهم شيء. لا طعام ولا شراب ولا حتى الشاي! كان "الأمن" الشغل الشاغل للملازم وأعوانه، وغابت الإدارة!

طلبوا طبيبا يستشيرونه في حالة الرئيس أحمد بن داداه الصعبة، وما إذا كان بمقدوره أن يصوم. لا يوجد طبيب.. بل حضر الشاي والعشاء وكان كسكسا محليا عليه كتف وكاهل من شاة أغلب الظن أنها ذبحت للوالي! كما أحضروا نحو لترين من رسل الإبل.

عاد مرافقوهم الحراس نفس الليلة إلى نواكشوط وبحوزتهم رسائل إلى الأهل لم تصل أبدا رغم تأكيد الرسل على أنها واصلة لا محالة إلى وجهتها!

صلوا جماعة مطولين، ثم تعشوا وأخلدوا إلى النوم، وهم كما يقول السمهري:

 

نرى الباب لا نسطيع شيئا وراءه ** كأنا قُنِيٌّ أسلمتها كــــــعوبها
بمنزلة أما اللئيم فـــــــــشامــــت ** بها، وكرام القوم باد شحوبها

في الحلقة القادمة: الملك المغلوب

فيديو

فيديو

فيديو

فيديو

فيديو

فيديو

فيديو

الآن في المكتبات

فيديو

المتواجدون الآن

حاليا يتواجد 10 زوار  على الموقع