| من تاريخ الكادحين.. (11) |
| الجمعة, 16 أبريل 2021 09:06 |
|
مهمة صعبة في مدينة النعمة 1971
بقلم بدن بن عابدين (رحمه الله)
إنهم بدل مقارعة الحجة بالحجة وإقناع الناس بما لديهم من قولٍ وبينة، يعمدون الى تأليف القصص والأقاويل والتفنن في أكاذيب باطلة ما أنزل الله بها من سلطان... ولا وزير! هم صراحة كما قال المثل الفرنسي: "من أراد قتل كلبه اتهمه زوراً وبهتاناً بمرض الكلَبِ". بينما أنا أجترّ حديث النفس اجترارا، لا أستطيع البوح بما يدور في خاطري إِذ أذنَ مؤذن: أيها القومُ الى سياراتكم إنَّا مرتحلون. انطلقت عابرات الصحراء متوجهةً إلى مدينة النعمة.توقف الموكب بمدينة تمبدغة، سمعت بعض المسافرين يلقبونها "اتْنَيْبَهْ" تعبيراً عن حبها وتقديراً وإجلالاً لساكنيها! بعد التوقف واصل الموكب المسير الى النعمة. بدأتُ أشعر بالحمى وبآلامٍ مبرحة في البطن، أحسستُ بها عند مغادرة لعيون، لكنها تفاقمت بتأثير السفر وحركة السيارات الرباعية الدفع تهُزٌ الجسمَ هزاً. أثناء الطريق، وبعد أن نفد صبري على تحمل الألم والحمى الشديدين، سألتُ سائق السيارة التي أستقلها ضمن الوفد عن المسافة التي تفصلنا عن مدينة النعمة. أجاب: ثلاثون كيلو متراً. قلتُ له سأهبط عنكم هنا، المعلم الذي أقصده موجودٌ قرب المكان وعلى هذا البُعْد من المدينة. ابتعدت عني السيارات بعد أن لفني غبارٌ كثيف تطاير بفعل عجلاتها. تابعتُ الرحلة بصعوبة وعناء، ارتفعت حرارة جسمي تملكني عطش سببه الحرٌ الشديد وما أفقده من سوائل.
خارت قواي وانتابني الوهن والخور.. عندها أيقنتُ أني لا محالة من الهالكين! قلتُ في قرارة نفسي أنا إن متّ فلستُ إلا قطرةً من بحر المناضلين يتقدمون موجاتٍ تتلوها موجات نحو الهدف المنشود. ولما بدأت أترنّحُ وتضلّ من قدمي الطريق وأخذت خطاي في التباطؤ إذا بقافلة تقترب مني تسير في الاتجاه المعاكس، أشرتُ إليهم بكفي نحو فمي فقد أعياني الكلام! أقبلوا علي بماء أخذتُ أبتلعه بسرعة، صاح أحدهم توقف توقّف! لا تُسْرِعْ، العطشان خلاصه الشراب جرعةً جُرعةً وإلا هلكَ! أخذتْ شمسُ ذلك اليوم الثقيل الطويل تجنحُ للغروب فتتوارى رُويداً رُويداً خلف الكثبان وأشجار الغابات. نهضتُ من كبوتي، وودعتُ السابِلِين من أصحاب القافلة وقلت لهم بتأثرٍ وقد اغْروْرقتْ عيناي بالدمعِ: أنقذتهم حياتي فلكم الشكر والامتنان يا أبناء الأكرمين.
دخلتُ مدينة النعمة عِشاءً خائرَ القوى، لا تكاد تحملني قدماي من التعب والخور ! الصورة التي تركها الراحل في ذاكرتي وأكدها رفاقه الأقربون، صورة إنسانٍ خلوقٍ صبورٍ تعددت شمائلُه. رغم ما كنتُ أقاسي من ألمٍ وإرهاق لم يذُقْ جفني طعم المنام. بتّ أعدٌ ساعات الليل الطويل ساعةً بعد أخرى وما أنِ انبلجَ الصبْحُ حتى أخذني الوالد الحنون المرحوم محمد محمود بن بُبكّرْ الى مستوصف المدينة وأعطاني الدواء الشافي فبدأت صحتي تتحسن. في اليوم الموالى جمعتُ كبار المناضلين في المدينة، سلمتُهم حصتهم من المنشورات وبلغتهم أخبار الكادحين وما اكتسبوه في البلاد. بعد إكمال مهمتي في مدينة النعمه،علمتُ أن الأمن رصدَ نشاطاتي وشرع في البحث عني وزار أماكن مررت بها وأنهم يُغْلقون منافذ المدينة ويستجوبون المسافرين المغادرين. خرجتُ من النعمة سيراً على الأقدام ، سجلَ الرفاق تذكرة راكب منهم غير معروف، أخذَ مكانه بين المسافرين ولما تخطت الحافلة مركز الرقابة وابتعدت عن أعينهم أوقفها وهبط منها فجلستُ مكانه وتابعتُ الرحلة إلى مدينة تنبدغه دخلناها ليلاً، استقبلتنا عند مدخلها فرقة من الأمن أمرونا جميعاً بالتوجه الى مخفر المدينة ولما وصلناه طلع علينا فوق الشاحنة أحد أفراد الأمن. طلب بطاقات تعريف الركاب أجابه شيخٌ كان يجلس جانبي، يبدو أنه من أعيان البلدة: أنا فلان بن فلان كل الناس يعرفونني أنا وأتباعي لا نُفتشُ ولا نسألُ عن شيء، رد رجل الأمن: حسناً اهبط أنت ونَفَرُك. انتهزت الفرصة الذهبية فنزلتُ مع الشيخ أسنِدُه كأني من أتباعه ومريديه! بعد تفتيش السيارة واستجواب المسافرين تابعنا رحلة العودة ليبدأ من جديد مسلسل العمل السيزيفي لسعاة بريد المهمات الخاصة جنود الكادحين المجهولين، يسطرون أروع البطولات ويُنجِزُون أصعب المهمات. نقلا عن معالي الوزير عبد القادر ولد أحمدو |
