أدونيس: هذا هو اسمي (ح 20)*
الثلاثاء, 31 يوليو 2018 07:34

 

المصادفة فنانة كبيرة

altبيار: حدثنا عن تجربتك الشعرية وعن استنفادك، عدم إيمانك بإمكانية مجيء يوم تقفل فيه هذا الباب وتقول: أنا توقفت عن كتابة الشعر عند ما عجزت، ولكن بشكل مواز للشعر منذ أكثر من عقد أو حوالي عقدين - حين عُرضت وعُرفت- اتجهت إلى الفن التشكيلي، على الفن البصري الذي رافقته طيلة حياتك ناقدا وصديقا للفنانين وقارئا للوحات والأعمال البصرية.. ولكنك هنا عملت بيدك، أعمالا قريبة من الكولاج، تسميها رقيام؟

أدونيس: رقائم.

بيار: آه، جمع رقيمة.

أدونيس: أولا لا أعد نفسي رساما. لا أعد نفسي من فئة الفنانين التشكيليين بالمعنى الدقيق للكلمة. هذا أولا. فما أقوم به في هذا المجال أعده قصائد أخرى باللون واللا أشياء التي أحولها بالتشكيل إلى أشياء. منذ فترة، ونتيجة معاشرة الأصدقاء الفنانين الذين أحبهم كثيرا وكتبت عنهم خطر لي ذات يوم أن أكتب قصيدة، لكن خارج الكلمات، وقلت: لماذا أقوم بنوع مما سميناه الكولاج؟ ثم غيرت اسمه إلى رقيمة. وهي كلمة من "رَقَمَ" التي تفيد في اللغة العربية الخط، وتفيد اللون أيضا في الوقت ذاته. وعملت بعض الأشياء، وتركتها، وبعد فترة راجعتها فرأيتها رديئة جدا فمزقتها، وأخذت أرسم غيرها من جديد إلى أن بدا لي أن هناك شيئا لا بأس به، ومرة زارني في مكتبي صديقي ميشيل كامو، فسألني: من صنع هذه الكولاجات؟ فلم أجرؤ على القول إني من عملها وإنما قلت له: صديق لي، فقال لي: أتمنى أن أتعرف على هذا الصديق، فقلت له: لماذا؟ فقال: لجمالها. أحببته كثيرا، وسأحال أن أقيم له معرضا. فقلت له: سأتصل به وتأتيني في الأسبوع المقبل فأعرفك عليه، وتواعدنا. جاء في الموعد وانتظر، ربع ساعة، نصف ساعة، ساعة.. ثم قال: أين هذا الصديق؟ فقلت له: يا ميشيل أنا ترددت وخجلت من أن أقول لك من هو. إنه أنا!

من ذلك الوقت بدأت أرسم، وصادف أن لاقى ما عملته استحسانا من الناس بحيث إن غاليري عز الدين علاية - ويمكن أن يكون أهم غاليري في باريس- أقام لي معرضا وطبع كاتالوغا، وكذلك معهد العالم العربي أيضا، ثم أقيم لي معرض بمتحف في ميلانو مؤخرا، وفي متحف بروما. وغلبني هذا العمل، بحيث إني الآن صرت أشعر بمسؤولية، لكن بمتعة إعطاء الحرية لأصابعي. وتبين لي أن المصادفة تلعب دورا أساسيا في الرسم أكثر مما تلعب في الكلمة واللغة. المصادفة اللونية - أو المصادفة التكوينية- على الورقة تعطي أشياء جميلة جدا. لا يمكن مثلا أن تكتب قصيدة تنتهي بما لم تكن تتوقع ما يشبهه، لكن هذا يحدث في العمل الفني، يأتي شيء لم يكن يخطر ببالك أبدا وهو أجل مما كان يخطر على بالك. المصادفة فنانة كبيرة.

قلت إذن: سيكون هذا العمل امتدادا للقصيدة، فيكون قصائد أخرى لا أكثر من ذلك. لا أطمح أن يكون لوحة، ولا أطمح أن أكون رساما بالمعنى الكلاسيكي الشائع للكلمة.

بيار: ولكنك تواصل الرسم، وستعرض.. حتى أغلفة بعض كتبك هي من أعمالك.

أدونيس: يمكن أن يكون لي معرض في أي بلد في العالم، فما أعمله يُطلب. عملت معرضا في الصين؛ في بيجين، وفي شانغهاي مثلا، لكني صرت أحس أنه يمكن أن يأخذ وقتي الشعري، لكن في الوقت نفسه جاءني إحساس مضاد أن هذا يمكن أن يكون ثورة على كتابتي وطريقتي في الكتابة؛ فحتى تجدد نفسك وترى شخصا آخر فيك يلزمك التوقف عن الكتابة.

خلق لي مشكلة داخل نفسي، وهذا أغنى تجربتي وجعلني أتواضع.

بيار: هل لنا أن نقول إن العمل على الرقائم صار نشاطا إبداعيا كاملا في حياتك له طقوسه؟

أدونيس: صار قسم كبير من وقتي مخصصا له، إذ أصبح لي نوع من المسؤولية إزاء الأشخاص الذين شرفوني فعلا وشجعوني كثيرا، بكلامهم أو بعنايتهم بما أفعله في هذا المجال.

altثم إن ثمة نقطة أشرت إليها؛ هي أن ما يعزيني عن القيام بالكتابة الشعرية هو أنني في عمل الرقائم الذي أقوم به صرت أقرب إلى الفن التشكيلي مني إلى سواه من الفنون. والقرابة اليوم من الفن التشكيلي العربي الذي أعده شخصيا أهم تعبير فني، أكثر أهمية من الشعر نفسه! هذه القرابة تتيح لي أن أشعر بنوع آخر من الحضور يدعم حضوري على المستوى الشعري، أو الفكري العام.

وأجد متعة خاصة في أن الرقائم التي أنجزها تشعرني بأنني أتطور وأتقدم وتتسع رؤيتي أكثر مما في كتابة القصيدة اليوم بشكل عام، لأن القصيدة تضعني دائما في أفقي الشعري الذي أعرفه، فكأنني أعيد سماع السيمفونية التاسعة لبيتهوفن، أو كتابة قصيدة كتبتها من قبل، لكن بالعمل الرقمي والحبر الصيني الذي أستخدمه أشعر أني أخطو خطوة إلى الأمام، كأنني أتحدى، كأنني أقوم ببعض ما لم أمارسه سابقا.

ثم هناك نقطة أخرى تلبي حاجتي المعرفية، هي أن الفن في الأخير – بجميع أشكاله- هو خلق الأشكال وابتكارها. الفن التشكيلي ميداني الأعظم لممارسة ابتكار الأشكال، بسبب المصادفات الهائلة التي تحدث في علاقة الحبر بالورقة، وفي علاقة الخط بالنقطة أو بالبقعة.. تحدث تكوينات أحيانا لم يكن صاحبها يفكر فيها، تأتي هكذا! وهذا شيء جميل في العمل الفني، ومنعش ويغير الشخصية من داخلها، وهذا كله يطمئنني إلى أنني لا أزال أتحرك في عالم الفن.

بيار: ألم تتلق أي إعداد تقني؟ أنت فنان فطري؟

أدونيس: لا، إطلاقا، لكن أختي فاطمة رسامة مبدعة، وأعتقد أن هناك مواهب كبيرة مثلها، وحتى الآن لم تقم بأي عمل؛ بل ظلت جالسة ككثير من أمثالها، وما تفعله أحسن بكثير مما أفعله، ومع ذلك يُسِّر لي أنا أن أعرض في أهم القاعات في العالم، وهي لم تعرض حتى في قاعة بسيطة عندنا! هذا مثلا.. وهكذا.

بيار: إنه أدونيس، شاعر الرؤية، وباعث اللغة، ومشعل الحرائق في جسد الثقافة العربية المعاصرة.

إنه أدونيس، المفكر الحداثي الذي أعاد قراءة التراث وإحياءه.

إنه أدونيس، وهذه روايته. 

أدونيس: هذا هو اسمي.. أدونيس.

تم

____________

* نقلا عن قناة الميادين.

فيديو

فيديو

فيديو

فيديو

فيديو

فيديو

فيديو

الآن في المكتبات

فيديو

المتواجدون الآن

حاليا يتواجد 1 زائر  على الموقع