| قصة سقوط طائرة الرئيس كما رواها وزير سابق رافقه في الرحلة (ح1/ 2) |
| الأربعاء, 13 سبتمبر 2017 07:30 |
|
في كتابه "ورگ انگط نقطة من شعاع" ساق الوزير المنتدب لدى وزير التهذيب الوطني المكلف بالتعليم الثانوي سابقا، والأمين العام حاليا للحزب الحاكم الأستاذ عمر ولد معط الله بعض ذكرياته عن الحملة الانتخابية الرئاسية لسنة 2009 التي فاز فيها الرئيس محمد ولد عبد العزيز. ونختار منها ما يتعلق بحادثة سقوط الطائرة في الصحراء شمال مدينة تمبدغة حيث جاء فيه:
نحن الأن نحلق في هذا الأفق المترامي، نبتعد عن أحضان ولاته الدافئة، لتسلمنا لموريتانيا الأعماق، موريتانيا بأفقها الرحب الذي يمنح الشعور الكامل بالحرية، بقدر ما يمنح شعورا موازيا بالمسؤولية.. نتجه غربا صوب تامشكط التي تجدد خضاب أصابعها بالحناء استعدادا لعرسها الجميل، هدير المحركات يصم الآذان، ويبدو أن شيئا ما أصابها.. الكثبان البعيدة تبدو كخطوط معوجة خطتها ضاربة رمل؛ فهي تتوهج تحت شمس تكاد تشرق وتتوعد بيوم قائظ.. كنت أنزع إلى نوم منقط بضجيج الطائرة، كنا نتواصل بالإشارات، لا أحد يسمع من أحد.. لكن شيئا وقع.. ماذا جرى؟ يبدو أن الطائرة تقترب من الأرض.. المصور قربي أشار إلي طلبا لمعرفة الوقت، وإلى جهة الأرض، ظن أن عليه أن يجمع معداته استعدادا للهبوط، لكني أشرت إليه بالنفي، وأن الساعة ما زالت مبكرة، وأننا لم نطر لأكثر من ساعة، الساعة الآن لا تتجاوز السابعة والنصف.. يبدو أن صوت المحرك يتضاعف، وأن هناك خطبا ما وقع، لكن الطائرة ترتفع من جديد، ويبدو أن فريق القيادة قرر أن تأخذ الطائرة نفسا من الهواء ليعيد المحاولة من جديد، أصبح من الواضح الآن أن الطائرة تهبط اضطراريا، وبأعصاب هادئة قام الطيار ومساعده بإنزالها، وفتحا الأبواب، وطلبا من الركاب فك الأحزمة، والنزول، دخان يتصاعد.. نزل الجميع، وبدا الهدوء واضحا على الجميع، أحسست للحظة أنني أنزل على سطح القمر، وفي لحظة تغير المشهد.. كنا نسبح في الفضاء الفسيح، فإذا نحن في أحضان مفازة تمتد رمالها الذهبية الوردية، على مدى الأفق، الشجيرات والأعشاب المنتشرة هنا وهناك، وتخرس الطائرة. بعد انتشار رائحة دخان أقرب إلى أثر التماس الكهربائي.. وبعد تفحص حذر للطائرة من طرف طاقمها.. الحكم الذي صدر من الطيار واضح وقاطع ومحير: "لا يمكن للطائرة أن تقلع مرة أخرى".. الكل في سريرته يحمد الله على النجاة، دون أن يحرك شفتيه، ففي هذا النوع من المواقف حين يشعر الإنسان بأنه نجا من مصير محقق، يحاول أن يتظاهر بعكس ما يجنه.. أو أن الحدث كان أسبق وأسرع من ردة فعله.. لم أشعر بالخوف، لكن أظن أنه بعد الحادثة أصبح كل منا يغرس رجله في الأرض أكثر ليشعر بأنه غير معلق بين السماء والأرض، فلا شعور بالأمان أكثر من ملاصقة هذه الأم الغبراء.. لا أحد ينبس ببنت شفة، الهدوء يسود الجميع لكن الحيرة أيضا تحوم حول الموقف. من الواضح الآن أن الأنظار تتجه صوب القائد، الرئيس في المقدمة، وصحبة الطيار يحاول الرئيس تحديد إحداثيات الموقع بدقة، هناك اتصال لتحديد الموقع من طرف مدير التشريفات التومي، بواسطة الثريا، والتأكيد على إبقاء الحادث في دائرة السرية ما أمكن.. القافلة تتحرك، لقد رأى التومي قبيل هبوطنا الاضطراري خياما قريبة إلى حد ما، مما يعنى أننا في منطقة مأهولة.. الأمر في منتهى الأهمية، فنحن لا نملك قطرة ماء. الطائر المهيض الجناح يقبع وسط الرمال السائلة في اتجاه تقرره رياح قُلَّب، دخان أبيض يتصاعد منه ورائحة دخان البلاستيك تشعرك أن الإصابة بالغة، وسائل أصفر ينزف من مستودعات الوقود أو الزيوت.. وانطلقنا نسير في اتجاه الخيام، البعيدة نسبيا عدة كيلو مترات، وكأننا وسط مركب شراعي تحركه ريح رخاء.. فالجميع يحملق في هذا الأفق المفتوح على أبواب من العدم، لكن الشعور بمتعة التجربة كان يغويني، وأنا أشعر بأن النجاة من هذه الحادثة دليل واضح على أن المهمة التي نسعى إليها ستتحقق.. مجرد شعور! كل واحد منا يسعى إلى أن يجد أثرا للحياة على هذا الأديم المترامي الأطراف.. الشاب أحمد، وهو أحد الحرس الخاص يرى راكبا يحث الخطأ بعيدا.. أسرع في اتجاهه.. انتهزت أنا فرصة وجود حقف وردي ناعم قريب، فصليت ركعتين.. الرئيس رأى جملا يحمل على هودج طفلا وامرأة فقال: "يوجد حي قريب".. وعلى أثر الجمل سرنا الرئيس وأنا وقيس، كنا نقص أثره لكنه كان ينزاح بنا بعيدا عن المنطقة، بسرعة.. ومع انتشار خبر حادثة الطائرة - يقولون إن الأخبار غير السارة طيارة، وإن الخبر الجيد مقعد- بدأت انواكشوط تنفخ أوداجها وتضخ الشائعات المغرضة، وبدأ خصوم عزيز يتمنون له ما وضع الشعب الموريتاني بكافة أطيافه يده على أنفاسه خوفا من أن يقع.. في هذه الدقائق بالتحديد تعطى الحياة جديدا، وتولد للسيد الرئيس بنت جميلة، كانت صرختها الأولى تتحدى أصحاب الشائعات، وتقول "أبي في الطريق إلى المجد، وسيقود البلد.. إنه الرئيس الوشيك للجمهورية الإسلامية الموريتانية".. لكل طريقته في الحياة، ولا شيء أجدى من أن يمتلك الإنسان الإرادة للإسهام في صنع مصيره، وانتهاج الطريق الذي اختاره.. عزيز رد على كل تلك الأباطيل بأن مهد الطريق لشعاع من الأمل، وها هو يتمسك بهذا الخيط في ذلك الركن القصي من أرض موريتانيا.. كان يمسك بيده جهاز الثريا، وهو يضع بعض الترتيبات.. لكن لم يفته أن يؤكد على أن الاتصال بواسطة الثريا "مشوش وناقص".. الابتسامة في الأوقات العصيبة، هي ضرب من التماسك الضروري لتستمر وتيرة الحياة، وكان عزيز في هذه المحنة منشرحا، ومتفائلا.. الساعة الآن بالضبط هي الثامنة وسبع دقائق، والحر يصاعد، وينذر بالمزيد. الرئيس يسير بأمله، وأنا كنت أسير أمام قيس الذي أبطأه الكبر في السن، والتومي الذي أبطأه قيس، الأمل يراودنا في الوصول قبل أن تغضب غزالة الصحراء التي عودت ساكنة هذه المجابات على زورتها الحارقة كل يوم، ونحن لا نملك قطرة ماء.. وفجأة طالعنا جَمَّال أفادنا بأنه رأى "سيارتنا" وهي تهوى فسار في اتجاهنا، وبأن الحي قريب، وأنه يستقى من منهل "ورگ انگط" وقد طلب الجمال من قيس أن يركب، الجمل، فركب وبدأنا نسير.. الرجل يدعى الشيخ ولد اعبيد، وهو من قبيلة لحمنات، يرتدى دراعة زرقاء، حافي القدمين، يبدو أنه لا يعبأ بالأشواك المتناثرة، والتربة التي بدأت الشمس تحولها إلى مَلَّة تشوى العشار.. سألت الرجل عن اسم الجمل فقال إن اسمه هو “ولد أجف" فندَّت من قيس العازب على الجمل؛ "بل هو ابن الراحلة".. كما أنه لا يعرف الكثير عن ضيفه الكبير.. كان همه الأوحد أن يوصلنا بأسرع وقت وبأقصر الطرق إلى الحي القريب، ليبحث عن قطيع المعز الذي يبعد عدة كيلو مترات من المكان الذي عرج إليه وقد استهوته "سيارتنا" التي هبطت في هذا الصقع من الأرض.. بقدر ما كنا نتقدم كان "ولد أجف" يعطى إشارات تنبئ عن أنه بدأ ينوء بحمله، الذي كان قبل قليل يسخر من اسمه وأخيرا فقد صبره، وأناخ! الشيخ صاحب الجمل قال لقيس، وفي لهجته سخرية واضحة: "انزل إذا كنت تريد عَلَّة من عظامك".. بدأت الآن أفهم لماذا سمي الجمل ولد أجف؛ فهو على ما يبدو حمار وضع في قالب جمل.. في هذا الوقت بالذات الرئيس يسير أمام الجميع، وبعد دقائق، يلحق بنا الحراس الخاصون، قائد الطائرة ومساعده، والمصور.. أفادنا الشباب بأن الجمل الذي رآه أحمد، يحمل برميلين من الماء سعة كل منهما خمسون لترا. وللتفكه فإن الأستاذ قيس انتهز الفرصة للتأكيد على أن هذا الجمل هو من النوع الجيد من الجمال خلافا لصاحبه الذي ركبه لفترة وهو جمل الشيخ، المدعو "ولد أجف".. وصلنا الحي. نحن الآن ضيوف على حي بدوي كريم يسخر كل طاقته للضيوف، هناك بعض الأواني الجديدة، كأسان يصب بهما الشاي، وأقداح من شجر "يطًّه" لصب الزريگ (المذق).. لتثخين الظل وضعت أربعة أغطية بشكل دائري، على خيمة عريضة على شكل مستطيل.. الظل ينداح ببطء في اتجاه الشرق، لقد جلسنا بقدر المتاح، الشاي يدار على الحضور، والطعام يحضر.. الحرارة تستعر.. وهناك خيمة كبيرة يتم بناؤها غير بعيد لتتسع للضيوف الكبار، ليتسع الظل.. أهل الحي يتناوشون الإعداد فهذا يقدم حبلا وتلك تعد دعامة، وهذا يحضر فأسا، وذان يشدان وتدا، وأولئك يدخلون لرفع الخيمة، وفي النهاية تصعد قنة الخيمة، متحدية وجه الشمس الكالح.. يبدو أن الموقع غير مستو فهنا شجيرة متوحشة، وتتراءى نبتة مشاكسة.. وضعت الفرش، يبدو أن وسط الخيمة يستجيب بالضبط للحرارة العالية التي ترسلها الشمس، فالجو خارج الخيمة أكثر لطفا.. دخلنا الخيمة وتنفسنا الصعداء، لقد كنا سعداء، ونحن ندرك أن إرادة الله هي التي تتحكم في شؤون العباد فالله أكبر… بدأت المعلومات تتجمع لدينا من خلال رجال الحي: الجهة التي هبطت فيها الطائرة تدعى "هند ادرش".. منطقة "ورگ انگط" وهي منهل لقبيلة لحمنات، وبالتحديد محمد امبارك أحمد، إلى الجنوب "انتاكوم" وإلى الغرب "انتورزم" وإلى الشمال "أم ركبه" وهذه الأماكن كلها ملك لقبيلة لحمنات.. المدينة الأقرب إلينا هي مدينة تنبدغه، ولكن هناك أسواقا أسبوعية دورية متعددة في المنطقة (مثل اكثورا، لكلي، أم لحياظ، حامالا) ففي هذه الأسواق يتبادل السكان في المنطقة البضائع ويشترون حاجاتهم من الدقيق والأرز، ويشترى التجار البضائع والحيوانات وغيرها مما يتبضع به أهل البدو.. في الخيمة المنصوبة حديثا قضيت يومي مع بعض أفراد الحي من قبيلة لحمنات أذكر منهم: سيد أحمد ولد يومو، عالى ولد محمد امبارك، والناجي ولد أحمد (الأخير هو ابن آمنة التي كانت تقيم على ضيافتنا في اليوم بدل الضائع). هاتف الثريا خلا من الطاقة، لكن علمنا أن أحدهم يملك هاتف ثريا، وهو ممرض يدعى الشيخ البكاي، وهو يقدم خدماته الطبية لأهالي هذه المنطقة النائية، يعالج المرض بالعقاقير والأدوية الحديثة، وربما أيضا عالجهم بالرقى والحجاب بموازاة ذلك.. الله وحده يعلم!.. على كل حال في حدود الساعة الثالثة وأربعين دقيقة مساء أحمد الحارس الخاص اليقظ يذهب بحثا عن "الطبيب" لكن الوقت يمر ولم يعد بعد.. لقد كنا ننصت لصوت محرك عن بعد، وكأننا رجال من البدو يشحذون آذانهم لالتقاط صوت الشاحنة القادمة من المدينة، هنا تسمع أصوات المحركات عن بعد، وها هو العقيد محمد ولد لحريطاني بسيارته الفارهة يصلنا، هذا الضابط المقدام، جاء ليلحق بنا من بلدة أم لحبال القريبة من مدينة لعيون. الضابط محمد اصطحب معه سيارتين يقود إحداهما واحد من أمهر السائقين ويدعى ابيبو، لكن محمد وصل، ولم تصل السيارتان اللتان كانتا بصحبته؛ فقد غرقتا في بحر من الرمال على بعد خمسة كيلو مترات من مكان جثوم الطائرة الجريحة.. محمد أرسل فريقه لإخراج السيارتين من مكان إعاقتهما، في هذه الأثناء كان أحد الجالسين معي يحتسي كؤوس الشاي، ويقدم لي أسماء الفروع الاثني عشر لقبيلة لحمنات (ثقافة عامة مطلوبة). هنا في هذا الركن القصي من الأرض كل الناس يحبذون الحديث عن عزيز، وكل الناس عبروا عن مساندتهم له، ولكن لا أحد يستطيع أن يساهم في عملية إنجاحه في الانتخابات؛ إذ لا أحد من هؤلاء يملك أوراقا مدنية تمكنه من الإدلاء بصوته والتعبير عن مساندته بالفعل. يتعلق الأمر بالأشخاص الذين قابلناهم على الأقل. لحد الساعة لم يعد أي أحد من الذين ذهبوا؛ لا أحمد الذي ذهب بحثا عن الهاتف والطبيب، ولا سيارات العقيد محمد ولد احريطاني.. |
