دكار.. كما رآها "نارُ گنَّارْ" (2/2)
الاثنين, 18 أكتوبر 2021 09:01

محمدُّ سالم ابن جدُّ.

أعجبني.. وساءني

altفي مخبر معهد باستور(Institut Pasteur) بدكار أعجبني الهدوء والنظام والدقة التي يسير بها العمل؛ فالترقيم يتم حسب الدخول، ثم يجري التوجيه حسب الأرقام عبر شاشتين بالصوت والصورة عند ما يحين ذلك (يرجى من صاحب الرقم كذا التوجه إلى الغرفة كذا) وبعد الدفع وحوسبة البيانات يجري التوجيه حسب الطريقة ذاتها إلى حيث تتم التحليلات، وعند استلام النتائج تدفع الأوراق تباعا ثم ينتظر كلٌّ النداء باسمه حسب ترتيب الأوراق.

عند ما أجريتُ الفحص صباحا كان رقمي 15 وحين عدت عصرا لاستلام النتيجة كان الرقم قد تجاوز المائتين (206) ويمكن تقدير الثروة الهائلة التي يستدرها المعهد إذا علمنا أن هذا نشاط قسم واحد، وأن متوسط التحليلات يساوي حوالي خمسة وعشرين ألف أوقية قديمة.

بعد معهد باستور كنت في عيادة السنغال العصرية للتصوير(Imodsen)لإجراء فحص بالرنين المغناطيسي، وعند الصندوق كان ترتيبي خلف مواطن لبناني جاء لمثل ما جئت له على ما يبدو، استلمت الموظفة نقوده دون تدقيق يذكر وسلمته وصلا في جزء من الدقيقة، بينما حرصتْ على فرز نقودي أنا ورتبتْها ووضعتْها عن آخرها - باختلاف فئاتها- في جهاز الفحص للتأكد من عدم تزويرها! هممت باستعادة مالي والخروج دون فحص (لنفسي) ولو أودى بي دائي، لكن لو فعلت لقوي الشك في أمانتي المشكوك فيها أصلا، وربما تحول مساري إلى التحقيق؛ وهو ما يعني هدرا للوقت لا يهونه أن يقود إلى براءتي في النهاية!

سرني الإخلاص للعمل وإتقانه، وساءني الشك الظالم، وشعرت بأن اللوم فيه على الموريتانيين الذين ربما يسهل غشهم، أو لعل منهم من لا يتحرز من غش الناس، وعلى السنغاليين في هذه الصورة النمطية السيئة والتمييز الصارخ!

نزل من السماء!!

altفي السنغال طائفة من أغرب الطوائف المنتسبة إلى الإسلام لها "مسجد" على الشاطئ الجنوبي الغربي لدكار تسميه "نزل من السماء" زاعمة أنه لم يشيد على الأرض (رغم أن العين المجردة تفندها) وإنما نزل مكتملا من السماء! ولا أدري - لو صدقوا- كيف لم تبق سنتمترات بينه وبين الأرض إثباتا لهذا الزعم الذي لا سبيل إلى إثباته.

وذكر صديق لي يعمل بالسنغال أن أحد زعماء الطائفة أوصى حين حضره الموت أن لا يدفن، لأن الملائكة ستحمل جثمانه على حد افترائه، ولما مات بقي ملقى على ظاهر الأرض تنفيذا لوصيته، إلى أن أنتن وتمزق جسده ولم يعد بالإمكان تحريكه من موضعه ولا الاقتراب منه، فألقي عليه ما يستره ويكف أذاه عن الأحياء.

رمونا بدائهم..

بين الطرف الجنوبي الشرقي من العاصمة السنغالية وبين القبلة تنتصب جزيرة گوري، دكناء دميمة مدنسة بالآلام والآثام، شاهدة بما جرى على أديمها من فظائع المحتلين في حق سكان هذه البلاد.. فظائع لم يطهرها منها المحيط الأطلسي!

altهنا كان النخاسة الأوروبيون والأمريكان يحجزون الأفارقة المسترقين رغم أنوفهم، ومن هنا كانوا يصدرونهم إلى مختلف بلدان الغرب كما تصدر البضائع! وكانت جزر الرأس الأخضر محطة الذين لما تحدد وجهتهم لضمان السيطرة عليهم بانتظار المشترين، وكان من بين الضحايا نساء.

ولافتقار المحتلين إلى العفاف والتقى كثر الحمل بين السبايا، فأصدر الحكام البرتغاليون قانونا يمنع بيع الحوامل بأجنة البيض إكراما لزرقة عيون الغاصبين! وهكذا نشأ بالرأس الأخضر شعب خلاسي امتزجت فيه ملامح الأوربيين والأمريكان بملامح الأفارقة.

لم توجد "گوري" ولا ما يشبهها في تاريخ المسلمين، ورغم ذلك يستمر الغرب في وصمهم باسترقاق البشر تصديقا للمثل العربي "رمتني بدائها وانسلت"!

أرضنا.. وأرضهم!

لم أر في أي شارع أو مدينة أو ساحة من شوارعنا ومدننا وساحاتنا، ولم يذكر لي، ما يدل على احتفاء من أي نوع كان بالذين ضحوا بحياتهم الدنيوية في سبيل الله نصرة لدينهم وبني عقيدتهم، إلا ما كان من أطلاق أسماء بعضهم مؤخرا على بعض الشوارع؛ لكني رأيت هنا أناسا يحتفون بموتاهم من أجل قضايا غيرهم، وتحت راية الغزاة الغاصبين!

يفعلون ذلك بالكتابة والتماثيل وغيرهما..

فمتى نعيد الاعتبار لسلفنا الصالح!

المدفع المسالم!

altفي جزيرة گوري السنغالية ذات الذكر السيئ، ينتصب - بأعلى الهضبة- مدفع عملاق مستريح لم يعرف فرقا بين السلم والحرب منذ قرن من الزمن، رغم شكله الهائل وارتفاع موضعه وطول خرطوميه وصلابة معدنه.

المدفع يصلح رمزا لمناوأة التسلح في رأيي؛ فهو لم يذق طعم القذائف، ولا هو شم ريح البارود، ولا عرف من أيدي المقاتلين منذ مجيئه هنا سوى يدي أنا وأيدي أمثالي. وقفنا ثلاثة بين خرطوميه لالتقاط صورة فعلق أحد صديقَيَّ - مازحا- بأن الجن قد تعبئه.

لم يروع هذا المدفع أحدا، ولم يجرح شجرة، ولم يثر عصفورا من وكنته، ولم يوقظ طفلا من رقدته.. وزيادة على ذلك وجه إلى العاصمة دكار برهانا على كونه بردا وسلاما!!

مشهد غريب

في طريقي إلى دكار رأيت قرب اللوگه مجموعة رجال وضعوا جنازة في سيارة وحملوها إلى المقبرة، ثم اعتلوا تابوتها صفين متدابرين كأي مقعد عادي! لم أصدق عيني في البداية والتقطت صورة للمشهد المهين الذي لم أره من قبل، لكن لم تصلح للنشر لسحابة الدخان المنبعثة من السيارة والمشهد لا يبدو جليا إلا من الخلف!

طرق السنغال معبدة، وإشاراتها وخطوطها سليمة، والحد الأقصى لركاب سيارة بيجو 504 ونظائرها سبعة أشخاص: واحد في المقدمة وصفان يحوي كل منهما ثلاثة. والأرض هنا سليمة معافاة من فوضى التملك القسري والاستيلاء الجشع اللذين ابتلى الله بهما جيرانا للسنغال لا يساوي تعداد جميعهم إلا ذوي العاهات من أولئك، وتفوق مساحة أرضهم كثيرا مساحة الأرض هنا. وفي الطرق يتساير المشاة والقطارات والسيارات جنبا إلى جنب (وأحيانا وجها لوجه) دون أن يعرقل أحدها مسار غيره.

هنا لا تزيد سيارات الأجرة على أربعة أشخاص، ولا تجمع بين متعددي المنطلق، ولا تولَج - أو يُنزَل- من شمائلها (يستثنى السائق طبعا). ومع أنها لم تكن سفرتي الأولى إلى هنا فقد فوجئت بالسائق يغلق المؤخرة على حقيبتي ويجلس أمام المقود استعدادا للانطلاق بي إلى محطة النقل، بينما وقفت إزاء الباب تأجيلا للانطواء في المقعد ريثما يكتمل الركاب، قبل أن أتذكر أني بمفردي ولا يحق له إشراك أحد معي.

الوطن..

altعندما وقفت على العدوة القصوى أشرقت إطلالة البلاد بالعدوة الدنيا فثار الشجن. كنت أعمل على إنهاء الإجراءات بسرعة للعبور إلى أول أرض مس جلدي ترابها؛ موريتانيا التناقضات والفوضى.. بينما أطل ابن الرومي من إحدى شرفات الغيب منشدا:

وحبب أوطان الرجال إليهمُ **مآرب قضّاها الشباب هنالكا.

لك الله يا وطنا ما انفك يلفظني فأعود إليه..

________________

* الصور بعدستي في أوقات مختلفة.

فيديو

فيديو

فيديو

فيديو

فيديو

فيديو

فيديو

الآن في المكتبات

فيديو

المتواجدون الآن

حاليا يتواجد 10 زوار  على الموقع