| أدونيس: هذا هو اسمي (ح 3)* |
| الاثنين, 07 مايو 2018 07:47 |
|
"لا يعرف العربُ من شعر نزار إلا أقله جمالا"
أدونيس: الشكل غير مهم. كثير من الناس يكتبون دون العمود، ومنهم قدماء. المهم الرؤية، ما ذا تقول، وكيف تقول ما تؤمن به. أعتقد أن هذا الهاجس رافقني منذ طفولتي في قراءة الشعر العربي. مثلا كنت أقرأ أبياتا مع أبي فأجد الشاعر يتغزل بالمرأة بالمعنى الخارجي، فيقول: عيناها جميلتان وقامتها مثل كذا.. يصفها من خارج. وأقرأ شاعرا آخر يقول شيئا مختلفا كليا. أذكر - على سبيل المثال- دون خوض في التفاصيل بيتا واحدا لشاعر قديم رأى حبيبته بعد غياب فذهل وقال: ضاقت علي نواحيها فما قدرت ** على الإناخة في ساحاتها القبل لاحظت الاختلاف فكنت أسأل أبي كيف قال هذا الشاعر شيئا مختلفا؟! شاعر آخر يقول: وكن إذا أبصرنني أو سمعن بي ** أتين فرقعن الكوى بالمحاجر! شاعر ثالث على مستوى آخر يقول: مطر يذوب الصحو منه [وَبَعدَهُ ** صحو يكاد من الغضارة يمطر]. بدل وصف المطر وكيف يتساقط.. لغة شعرية يكثر التعبير بها تخلق فيّ تساؤلا: لماذا يكاد الشعر ينحصر بين المديح والرثاء والهجاء ويكرر الأفكار ذاتها تقريبا، وهذا الشعر مختلف.. لماذا؟ كان أبي يقول لي: أوَّلاً هذا شعر خارج إطار المديح والهجاء، هذا شعر شخصي يعبر الشاعر به عن نفسه في علاقته مع العالم، وذاك شعر يقوم على التعبير عما يريده الممدوح، عما يريده أهل المرثي، وعما يريده العدو من هجاء فلان. هذه نوعية قائمة على أفكار مشتركة عامة، ولذلك يضعف الشعر حيث يكون هناك مشترك عام، ويتلألأ حين يبتعد عن هذا المشترك العام. وأعتقد – إذا حاولت أن أفسر- أن هذا هو أساس ميلي إلى ما سمي الحداثة. ثم بدأت أقرأ الشعر العربي بمعيار الحديث والقديم، والنقد العربي مليء بالحديث والمحدث والقديم، وهي مفردات عربية في الأساس، وهناك كتب قائمة على نقد ما يسمى القديم والبحث فيما يسمى الحديث، وكان في الفترة العباسية الأولى من يسمون الشعراء المحدَثين إزاء الشعراء القدماء؛ حتى إن هذه الحداثية تجاوزت موضوع الشكل الشعري إلى المسألة الثقافية. صارت البداوة هي موضوع الهجوم عند أهل المدينة، وأبو نواس هو رائد هذا الاتجاه، خلق لغة المدينة، وخلق العلاقة بين ما هو زائل وما هو أبدي في شعره، كما فعل بورجيه تماما؛ وقبل بورجيه بـ 1200 سنة. عاج الشقي على رسم يسائله ** وعجت أسأل عن خمارة البلد.. وشعره مليء بهذه اللغة المدنية، لكنها لغة المدينة القائمة على العابر غير الدائم، الزائل المرتبط بالتغير وبالزمن. ومن هنا صار مفهوم الزمان يدخل في الشعر العربي. بدايتي أنا الحداثية مؤسسة على أبي نواس وأبي تمام وهؤلاء الشعراء المختلفين الذين حاولوا أن يقيموا علاقات جديدة بين الكلمات والأشياء تختلف كليا عن العلاقات القديمة بين الكلمات والأشياء في النظرية التقليدية أو في الشعر القديم كما يسمى. بيار: ثم هناك اكتشاف الرسالة الفرنسية، وكان بعد التخرج. أدونيس: هذه خطوة ثالثة. أنا دخلت المدرسة - بناء على توصية رئيس الجمهورية- في سنة 1943 في مدرسة الليسيه للبعثة العلمية الفرنسية بطرطوس، وبقيت سنة ونصف السنة فقط. تعلمت المبادئ الأولية للغة الفرنسية وصادقت زميلة في الصف ساعدتني على تعلم اللغة الفرنسية بسرعة، ثم أغلقت المدرسة، لكني كنت قد عرفت بعض الأسماء الشعرية مثل بودلير بشكل خاص، وبدأت أقرأ. بيار: لك قصة مع "أزهار الشر" نود أن تخبرنا عنها.. أدونيس: تعودت أن أقرأ بودلير وإلى جانبي المعجم، وكنت أترجم كل كلمة وأضعها على أزهار الشر، وكانت لدي نسخة مغطاة بهذه الترجمة، لا أدري هل ضاعت في السجن أم في غيره. كانت نسخة بديعة جدا. هكذا تعلمت اللغة الفرنسية.. أمضيت سنة ونصفا فقط في الليسية ثم أكملت على نفسي كما يقال. وحينما تخرجت من الجامعة في دمشق ودعيت لخدمة العلم، وذهبت إلى حلب اشتريت هنري ميشو ورينيه شار وجيتس برفيه وماك جاكو من مكتبة في قلب حلب، سنة 1955. بيار: تقول إن دمشق كانت موزعة بين عملاقين، وأنا استغربت أنك تحبهما معا: نزار قباني من ناحية، وبدوي الجبل. أدونيس: وأنا صديق لهما أيضا. فأنا ونزار قباني كنا صديقين بكل معنى الكلمة، وأنا أحترم نزار قباني كثيرا، وأحب شعره، وأعتقد أنه شاعر كبير، لكن لا يعرف العرب من شعر نزار إلا الأقل جمالا. وأساؤوا إليه حينما وظفوه لأنهم بذلك أسدلوا عليه ستارا. أما بدوي الجبل فأعتقد أنه آخر الشعراء الكلاسيكيين الكبار. كنت أحبهما معا، وكانا مالئي دمشق وشاغليها، وأنا كنت مجرد تلميذ. بيار: في هذه المرحلة أيضا وصل إليكم سعيد عقل من لبنان
بيار: في الصناعة أو ما سمي النحت الواعي.. أدونيس: هذا التفصيل.. أنا أعتقد أن لغته كانت أكبر من تجربته، ولذلك كان مضمونه الفكري مكررا وضيقا، وهذا ما أعطى شعره تلك الصبغة التي لا تخلو من تكرار، لكن ذلك لا يقلل من أهميته على الإطلاق. فاليري كتب قصيدتين أو ثلاثا مهمة والباقي يمكن الاستغناء عنه، ويوجد شعراء كبار مثله. أحيانا يكتب الشاعر عدة قصائد ليستفيد منها في بناء القصيدة التي يبحث عنها، لكنه يتركها للتاريخ أو للأمانة في تجربته، لكن ليس كل ما يكتبه الشاعر جميلا أيا كان؛ من غوتيه إلى هوميروس إلى نيتشه.. بيار: ما ذا أعطاك بودلير ورينيه في هذه المرحلة؟ أدونيس: بودلير تأثر برامبو آرتر، رامبو راهب والبعد الديني واضح في شعره، ولذلك بودلير مهم للعالم الغربي بينما رامبو مرفوض فيه، وثورته الحقيقية هي رفضه للغرب وآلية الغرب، وتطلعه إلى شرق غامض، لكنه تطلع إلى الشرق. ولم يرفض رامبو العالمَ الغربي شعريا فقط؛ بل أكثر من ذلك رفضه اجتماعيا! كان يقول: الحرية غير كافية. الحرية يجب أن تكون حرة. كان ينظر للحرية الحرة. رامبو شاعر مهم لي جدا، وأثر فِيَّ أكثر، كما أثر فيّ نيتشه أيضا. ورأيت غربيين كثيرين يقدرون بودلير أكثر من رامبو. كلاسيكيا هو متأصل في الجرح الثقافي الغربي الذي هو الجرح المسيحي، أكثر مما هو متأصل في الكونية المتضادة المتناقضة المتباعدة، والمتقاربة في آن واحد. رامبو أقرب إلى هذه الكونية. بيار: بعد الحديث عن ولادتك الدمشقية نصل إلى ولادتك الثانية، البيروتية.. هناك كانت المرة الوحيدة في حياتك التي انخرطت في حزب سياسي؛ وهو الحزب السوري القومي الاجتماعي، وكانت لديك تأثرات حملتها معك ولازمتك، وقادتك إلى السجن بسبب انتمائك دون أن تعرف لماذا. حدثنا عن تلك المرحلة. أدونيس: أنا دخلت الحزب في سنتي الأولى بالثانوية الفرنسية، ولم يكن الجلاء عن سوريا قد تم، كانت هناك حامية فرنسية مع الليسيه (الثانوية) واستيقظنا ذات يوم فرأينا طلابا مطرودين من الصف فسألنا لماذ؟ فقيل إنهم تظاهروا ضد الحامية الفرنسية المذكورة، فاستحسنّا فعلهم واستوضحنا عنهم فعلمنا أنهم أعضاء في الحزب السوري القومي. ولا أزال أذكر واحدا منهم اسمه نهاد ضيعة، أتخيله وقد جاء الجندي ليطرده ففتح له صدر قميصه وقال: اقتلني إن شئت، فلن أتحرك! أنا وجيلي الصغار، وكان عمري 13 سنة، أحببنا هذا الموقف وقررنا أن ندخل الحزب القومي، فانخرط كل الصف تقريبا في الحزب دون أن نقرأ شيئا عنه، وبعد ما دخلنا استفدنا منه ثلاثة أشياء: أولها العلمنة.. الخروج من الأسر الطائفي المذهبي فيصير المجتمع واحدا. والشيء الثاني أن لا أكثرية ولا أقلية في المجتمع. المجتمع وحدة لا تتجزأ أيا كانت الاثنيات، وأيا كانت المذهبيات. بيار: السلالة التاريخية. أدونيس: السلالة التاريخية التي تحوي العربي والكردي والكل شعب واحد. البلد هو سوريا، وكان من شعارات الحزب "سوريا أمة عربية" هذا في قلب مبادئه. والشيء الثالث هو انفتاحه على الخارج؛ فالحضارة الأبجدية والسورية هي نوع من الانفتاح المتواصل على العالم وعلى الآخر. وإذن نحن جزء من الحضارة الكونية، ولنا إسهام في هذه الحضارة. هذه الأشياء الثلاثة استهوتني حينما اطلعت على فلسفة الحزب بعد الانضمام إليه. بعد التجربة ما حدث للأحزاب المختلفة - وللحزب القومي السوري ذاته- أن صارت المبادئ وظيفة، والحزبية سبيلا إلى السلطة، وصار القتال على السلطة أهم من القتال من أجل المبادئ أو من أجل الثورة. كل شيء عندنا وفق العقيدة الموروثة يوظف؛ حتى الشعر لم تقرأ قصيدة واحدة في تاريخ النقد العربي منذ نشوئه حتى اليوم إلا باعتبارها وظيفة! لم تقرأ أية قصيدة باعتبارها عالما جماليا أو عالما فنيا، أو عالما لمحاولة اكتشاف أشياء جديدة. هذه أشياء يجب أن تدرس، لكنها لا تدرس مع الأسف. وإذن فكل شيء موظف من أجل شيء واحد هو السلطة. طبعا السلطة تعني المال والنفوذ.. إلخ. ثم قلت: يستحيل البقاء في الحزب. ____________ * نقلا عن قناة الميادين. |
