الزراعة.. توضيح وتعقيب (1)
الاثنين, 07 ديسمبر 2020 07:55

 

محمدو ولد البخاري عابدين*     

altبعد حدیثي المرة الماضیة عن زراعة الخضروات وعوائقھا ومتطلباتھا، اتصل بي بعض الزملاء وغیرھم یقولون لي: "إن ما تطرقت له خلال ھذا المقال من فشل السیاسات، والتخادع بین الوزارة والمزارعین، والنقص في إنتاج الخضروات، ینسف ما كنت تسوقه طیلة السنوات الماضیة من ازدھار الزراعة وتطورھا في الضفة خلال السنوات الأخیرة". وھنا أنبه ھؤلاء وكل من استنتج من مقالي مثل استنتاجھم على أنني لم أسوق شیئا ولم أروجه، ولیس من طبعي الدعایة لما ھو غیر موجود، لكن لیس من طبعي كذلك نكران أو تبخیس ما ھو موجود، وأن الزراعة عالم متشعب من أنواع المحاصیل والمزروعات المصنفة علمیا حسب خصائصھا إلى محاصیل حقلیة كسائر أنواع الحبوب والقطاني أو البقولیات، والمحاصیل البستانیة كالفواكه والخضروات، ومحاصيل النباتات الطبیة والعطریة ونباتات الزھور، ومحاصیل أو زراعات الأعلاف الخضراء وغیرھا..

وما تكلمت عنه في المرة الماضیة ھو زراعة الخضروات فقط؛ خصوصا بعد إعلان الوزارة خلال فصل الصیف الماضي عن حملة صیفیة لزراعة حاجة البلاد من الخضروات، ولم یفاجئني مصیر تلك الحملة لأنني استبقته بتوضیح مسببات فشلھا الحتمي، وإن الزراعة.. كنت مرتاحا الآن (شیئا ما) لأنني سمعت أطر الوزارة ینتبھون ویتحدثون عن عامل المناخ كعامل أساسي من عوامل نجاح الزراعة والإنتاج، ویتحدثون عن أعالي النھر وعن الدلتا والمناطق الشاطئیة.. فالأرض خلقھا الخالق وقدر ووزع فیھا أقواتھا كل منطقة ونباتاتھا وحیواناتھا وكائناتھا التي تتأقلم وتنمو وتتكاثر وتنتج فیھا؛ لا بالصدفة، وإنما طبقا لخصائص بیئیة ومناخیة وطبیعیة معینة، من حرارة، ورطوبة، وریاح، ونوعیة تربة، وعدد ساعات نھار، وطول موجات ضوئیة، وعدد ساعات ظلام، وعدد ساعات قمر، ووجود - أو عدم وجود- حشرات وعوائل وكائنات حیة دقیقة..

فما داموا اھتدوا وأخذوا ھذه المعطیات المناخیة في الحسبان، فلتكن إذن ھذه ھي الاستراتیجیة أو "السُّنَّة" الثابتة المتبعة في زراعة الخضروات في بلادنا/ وطبقا لھذه المعطیات؛ أي موسم شتوي لزراعة الخضروات ابتداء من شھر نوفمبر، حیث الظروف المناخیة مواتیة لزراعة جمیع أنواع الخضروات، وفي كافة مناطق البلاد حیثما توفرت المیاه. وبانتھاء ھذا الموسم الشتوي (شھر إبریل) یتحول الاھتمام ویبدأ الاستعداد لموسم صیفي لزراعة الخضروات بالشریط الساحلي على أراضي دلتا النھر في كرمسین، وانجاگو، والزیره، وبرت، وفي المناطق الشاطئیة الأخرى غرب تگند، وآفطوط الساحلي، وفي انواكشوط، وانواذیبو، حیث المناخ المعتدل وشبه المعتدل صیفا، لكن بشرط تجنب السباخ والأراضي الملحیة.

ولیس معنى ھذا أن یبقى مزارعو أراضي أعالي النھر ومناطق البلاد الأخرى، غیر الشاطئیة، التي تشتد الحرارة فیھا صیفا وترتفع نسبة الرطوبة خریفا، ولا تكون ملائمة لزراعة الخضروات.

لیس معنى ذلك أن یبقى مزارعوھا مكتوفي الأیدي خلال ھذا الموسم؛ بل إن ھناك بعض أنواع الخضروات التي یمكنھم زراعتھا صیفا كالقرع العسلي والبامیة والباذنجان، وكذلك البطیخ والشمام (melon) بالإضافة إلى المزروعات التقلیدیة المعروفة من حبوب وبقولیات.. بل وأعلاف خضراء تكون الحاجة إلیھا ماسة والطلب علیھا كبیرا والعائد منھا معتبرا خلال موسم الصیف؛ وذلك بدل "اتولتیم" زراعات حساسة كالخضروات في مواسم غیر مواسمھا وبیئات غیر بیئاتھا سینفق علیھا أصحابھا مالھم ووقتھم وجھدھم، وسیخسرون. وأكثر وأخطر من ذلك سیصیبھم الإحباط ویھاجرون!

ولكن لابد في كل المواسم والظروف والسیاسات من الوصول إلى قناعة ورسوخھا؛ وھي أنه غالبا ھناك بالإمكان أفضل مما ھو كائن، وأن ھناك طرقا زراعیة أفضل من أخرى، وھناك بذور أحسن من أخرى، وھناك استغلال للأراضي أحسن من آخر، وأنه لا زراعة منتجة مستدیمة بدون احترام الفنیات الزراعیة، ولا قیمة لإنتاج زراعي - حتى لو وصل إلى الاكتفاء والفائض- بدون مراعاة للبیئة وسلامة وصحة المنتج؛ إذ لا فرق بین الموت سوء تغذیة وجوعا والموت بالمنتجات الغذائیة الملوثة بالمبیدات والسموم، وإن مناط ذلك كله ھو أن يتولى الأمر أھله مواكبة وتأطیرا، على الأقل إن لم یكن رسما للسیاسات ومتابعتھا میدانیا، وتنشیط البحث الزراعي، وتكثیف التجارب العلمیة والدراسات.

كان ذلك عما قلته سابقا عن زراعة الخضروات، أما ما كنت أتحدث عنه أو "أسوقه" خلال السنوات الماضیة؛ مبرزا ما حصل فیه من تحسن وتطور وتوسع، فھو زراعة الأرز. وكنت أتحدث عن مجال واكبته میدانیا، وكنت جزءا منه ولصیقا به، منذ بدایة زراعة الأرز بالضفة بدایة تسعینيات القرن الماضي، وما صاحبه من إقبال الفاعلین الزراعیین على الاستثمار في القطاع، وإنشاء مؤسسة القرض الزراعي، والتسھیلات التي قدمتھا الدولة آنذاك، من دعم للأسمدة والوقود تشجیعا للمزارعین، وما نتج عن ذلك من "طفرة فقاعیة" ما لبثت أن انفقعت بسبب ھشاشة أسسھا وغلبة الطابع السیاسي، غیر الفني الزراعي، على خططھا ومقارباتھا، فتحول القرض الزراعي إلى دیون في ظھور و"بطون" المزارعین، وأمسك البنك الدولي دعمه، ورفعت الدولة  یدھا عن القطاع، فعاد المزارعون الانتھازیون لأعمالھم وأنشطتھم في الصید والتجارة والعقارات، وبقي المزارعون الحقیقیون یضربون أخماسا بأسداس..! وھو ما یؤكد ما نقوله دائما من أن الزراعة لیست إنفاق أموال ودعما للمزارعین لا تواكبه سیاساتٌ ومواكبة ومتابعة وتقییم تحوّل تلك الأموال وذلك الدعم إلى إنتاج، والتوقف والتساؤل والمساءلة وتحدید الخلل إذا تبین أن الدعم والإنفاق كانا ھدرا لا إنتاجا.

أما كون زراعة الأرز شھدت تحسنا وقفزة خلال السنوات العشر الأخیرة فتلك حقیقة لا مراء فیھا، أموت علیھا؛ لا ضلالة، وإنما یقینا وإیمانا بواقع، ولست وحدي من تحدث عنھا؛ إذ یدرك ذلك المزارعون والفاعلون وأطر القطاع، ویؤكده الواقع على الأرض.. فتوسع المساحات المستصلحة والمزروعة خلال ھذه السنوات من 15 ألف ھكتار سنویا إلى ما یزید على 50 ألف ھكتار سنویا، وتغطیة الإنتاج لما بین 75 % إلى 80 % من استھلاك البلاد من الأرز، وتراجع وارداتها منه من 168 ألف طن سنویا إلى 24 ألف طن سنویا سنة 2016 بعد رفع الدولة للرسوم على الأرز الأجنبي دعما للإنتاج المحلي، والتحسن الكبیر في نوعیة الأرز المحلي، وإقبال المستھلكین علیه، وتضاعف عدد معامل تقشیر الأرز من 3 معامل قبل ھذه السنوات كانت تستقبل حاجتھا المحدودة من الإنتاج ویبقى الباقي في المخازن دون تسویق، إلى أزید من 30 معمل تقشیر الیوم؛ إذ لن یستثمر مستثمر مبلغ 150 ملیون أوقیة في إنشاء معمل للتقشیر إلا إذا كان یرى مساحات مزروعة وإنتاجا لتغذیة وتشغیل معمله، وھذه كلھا مؤشرات ناطقة تسوّق نفسھا بنفسھا.

___________

* مھندس زراعي

(عن "أقلام حرة")

فيديو

فيديو

فيديو

فيديو

فيديو

فيديو

فيديو

الآن في المكتبات

فيديو

المتواجدون الآن

حاليا يتواجد 8 زوار  على الموقع