مرافعة في الملف رقم النيابة 1065/010
الاثنين, 04 يونيو 2012 23:14

سيدي الرئيس؛

alt

السادة أعضاء المحكمة الجنائية الموقرة

إذا اشتبكت دموع في خدود ** تبين من بكى ممن تباكى

لقد قيل أمام محكمتكم الموقرة حتى الآن الكثير من اللغو في هذا الملف، الشيء الذي ألحق أضرارا بالغة بمهمتنا المقدسة؛ مهمة إظهار الحقيقة. وبودي أن يتسع لي صدر محكمتكم الموقرة كي أعرض عليها هذه الملاحظات التكميلية لما تقدم به بعض زملائي، والتي من شأنها أن تساهم - ولو قليلا- في توضيح خفايا وخلفيات وملابسات هذه القضية الشائكة التي أريق فيها الكثير من المداد، وأهدرت فيها جهود كثيرة. ومع ذلك ظلت مستعصية الحل، لطبيعتها الخاصة؛ وشكلت نموذجا صارخا لنكران العدالة، وخرق القانون، والتلاعب بحقوق الإنسان والمجتمع، وتضليل ومغالطة السلطات العمومية!

وسوف أتناول في هذه العجالة المقتضبة خمسة محاور هي:

أولا: عرض موجز للوقائع، والإجراءات الغريبة التي اكتنفت مسار هذا الملف.

ثانيا: انعدام البينة على التهمة الموجهة إلى المتهم.

ثالثا: نكران العدالة وخرق القانون والتلاعب بحقوق الإنسان والمجتمع.

رابعا: محاربة محاربة الفساد: محمد الأمين ولد الداده نموذجا.

خامسا: الرد على النيابة والطرف المدني ثم طلبات الدفاع.

 

أولا: عرض موجز للوقائع، والإجراءات الغريبة التي اكتنفت مسار هذا الملف.

سيدي الرئيس،

السادة أعضاء المحكمة الموقرة،

يتضمن هذا العرض ثمان نقاط هي:

1.      إن موكلنا الذي كان عرضة لتفتيشين متتاليين قامت بهما كل من مفتشية الدولة ومحكمة الحسابات، وتلقى إنذارا من مفتشية الدولة يلزمه بإعادة أزيد من 270 مليون أوقية إلى خزينة الدولة، ولما لم يمتثل ذلك - لأسباب شرحها أمام الضبطية القضائية، وأمام قاضي التحقيق لما اقتيد إليه، وأمام محكمتكم الموقرة اليوم- تم توقيفه والاستماع إليه من طرف مفتشية مكافحة الجرائم الاقتصادية، التي استمعت كذلك إلى طاقم مديري ومحاسبي مختلف البرامج في المفوضية وأعدت محضرا بأقوالهم بيَّن الكثير من الملابسات وأوضح بعض خفايا القضية لمن له لب. كانت قد أصرت النيابة العامة لدى المحكمة العليا ـ باعتراف وكالة الجمهورية ـ على أن لا توجه التهمة إلا إليه وحده دون غيره حماية لآخرين؛ وكفت يد وكالة الجمهورية عن أي متابعة أخرى، لدرجة أن عبارة "وكل من يكشف عنه التحقيق" التي ترد عادة في طلب التحقيق تم حذفها بوعي في هذه المسطرة! وكانت هذه أولى "حلبات" الذئب. أو كما قال الفرنسيون: Ce le premier vole de l aigle(انظروا طلب التحقيق صحبته).

2.      أن التحقيق الذي جرى مع موكلنا مكن من توضيح أمور عدة من بينها -على سبيل المثال- هشاشة وصورية وتحامل تقرير مفتشية الدولة، وعدم صحة جل ما ذهبت إليه؛ كما أظهر أن التوقيع الثالث الذي فرضه موكلنا، والذي رتب عليه بعض المفتشين مسؤوليته، ليس في واقعه غير توقيع من أجل الرقابة. ذلك أن مديري ومنسقي البرامج والمحاسبين هم من يقومون بحرية في إطار صلاحياتهم بجميع العمليات من ألفها إلى يائها. وبعد أن ينجزوا العملية أو المشروع المحدد يتقدمون بملف جاهز وموقع من طرف كل من مدير أو منسق الإدارة أو البرنامج ومحاسبه إلى المفوض الذي يمهره بتوقيع ثالث بعد تأكده في حدود الإمكان من انسجام العملية مع قواعد ومتطلبات العمل في المفوضية، دون أن تكون له علاقة أو صلة بتحضير العملية أو المشروع قيد الإنجاز، أو بالموردين. الشيء الذي لم تأخذه النيابة في الحسبان - أو تجاهلته- أثناء تكييفها للتهمة وتوجيهها للاتهام! وعلى هذا الأساس أصدر قاضي التحقيق إنابة قضائية إلى المفوض المكلف بمكافحة الجرائم الاقتصادية يكلفه فيها بما يلي: "تعميق البحث حول الفوترة الباهظة والنفقات الوهمية وتحديد حجمها والوقوف على حقيقة وجود المؤسسات الموردة للمفوضية من حيث القانون والواقع.. وتحديد أصحابها. كما أمره أيضا بتوزيع المبالغ الحاصلة من ذلك على المتورطين؛ كل حسب مسؤوليته، وتوجيه إنذارات إليهم بالدفع. وقد أعد المفوض تقريرا، فأمره قاضي التحقيق - بعد الاطلاع على ذلك التقرير- بتعميق البحث ليشمل كل الملفات ووثائق المحاسبة المتعلقة بجميع العمليات مناط البحث في كل مشروع وإدارة من مشاريع وإدارات المفوضية. وقد امتثل المفوض فنفذ إلى كافة ملفات محاسبة المفوضية وأعد تقريرا مفصلا أرفقه بجميع الوثائق المثبتة (14 علبة من النوع الكبير) كان إحضارها إلى الجلسة مناط طلب تقدمنا به إليكم. وكانت خلاصة هذا التقرير أن مسؤولية المدير الإداري والمالي للمفوضية ومديري ومنسقي البرامج قائمة، لأنهم هم من يعدون الصفقات ويوقعون جميع الوثائق التبريرية، وكذلك مسؤولية الموردين. وأن مسؤولية السيد محمد الأمين ولد الداده لا تتأتى إلا من كونه هو المسير الأول لهذه المؤسسة. كما ورد في هذا التقرير بعد البحث المعمق أن المبالغ مناط التهمة لا تتجاوز مائة وتسعة وأربعين مليونا وخمسمائة وتسعة وعشرين ألفا وثلاثمائة وخمسا وخمسين (149.529.355) أوقية. وتجدر الإشارة هنا إلى أن خمسين مليونا (50.000.000) من هذا المبلغ سحبت بشيكات أو حوالات صدرت قبل تعيين محمد الأمين في المفوضية أو بعد اعتقاله، أو دون أن تحمل التوقيع الثالث، ومع ذلك تم سحب المبالغ محل الدفع!   

3.      أن قاضي التحقيق بعد اطلاعه على تقرير المفوض آنف الذكر ودراسته لكافة أوراق الملف خلص إلى تورط العديد من مسؤولي المفوضية وبعض الموردين لها في الأفعال موضوع المتابعة، فأحال الملف إلى النيابة مبلغا إياها ما اعتبره وقائع جديدة قائلا: "نحيل إليكم ملف القضية المتمثل في مجموع المحاضر المعدة من طرفنا، وكذلك تلك المعدة من طرف ضابط الشرطة القضائية، الكاشفة عن مسؤوليات تمثلت في مشاركة الشهود المذكورين أعلاه وقائمة الموردين والمقاولين الذين كانوا يقدمون الخدمات لمختلف هياكل مفوضية حقوق الإنسان.. في الجرائم المتابع على أساسها المتهم محمد الأمين ولد الداده. وذلك لاتخاذ ما ترونه مناسبا". وقد ردت النيابة بعد 10 أيام، تمكنت خلالها – بالتأكيد- من دراسة الملف دراسة شاملة فقالت: "إن ما جاء في هذه المحاضر وما تضمنته الوثائق لا يمثل وقائع جديدة، وإنما يكشف عن مشاركة في الوقائع محل المتابعة.. وحيث أن قاضي التحقيق يملك سلطة اتخاذ كافة الإجراءات القانونية التي من شأنها إظهار الحقيقة؛ بما في ذلك سلطة اتهام من تثبت مشاركته في الوقائع المنشورة أمامه، لذا نطلب من قاضي التحقيق مواصلة إجراءات التحقيق في هذه القضية واتخاذ كافة الإجراءات المخولة قانونا؛ والتي من شأنها إظهار الحقيقة وضمان استرداد الأموال العمومية للدولة".

4.      وبعد تلقي قاضي التحقيق رأي النيابة الصريح، وتمهيدا لاتهام من ثبتت مشاركتهم، وجه إنذارات بالدفع لأولئك الذين وردت أسماؤهم في تقرير الإنابة في حدود ما رأى أنهم مسؤولون عنه. وقد بلغ مجموع ما أنذرهم بدفعه مائتين وعشرين مليون (220.000.000) أوقية. وسارع بعض المنذَرين إلى دفع المبالغ محل الإنذار. لكن العدالة تدخلت ضد العدالة، فاختطفت إحدى المحاكم الملف من بين يدي قاضي التحقيق دون أن تكون لها عليه ولاية، وألغت جميع الإنذارات، وقامت بإتلافها دون إعداد محضر بذلك، ودون حضور أو علم كتابة ضبطها! وقد أكدت محكمة التعقيب ذلك الإجراء رغم أنه كان موضوع طعن وتثريب من طرف النيابة والطرف المدني والدفاع الذين اصطفوا في خندق واحد ضد البغي الصريح! (انظروا مذكرات الأطراف الثلاثة في الملف). 

5.      وفي هذه الأثناء صدر تقرير عن محكمة الحسابات يناقض تقرير المفتشية ويكاد يتطابق مع تقرير الإنابة القضائية الذي أعده المفوض. وقد رد عليه موكلنا بصورة مفصلة كتابيا وشفهيا. وقد صرحنا أمامكم في بداية جلسة محكمتكم الموقرة هذه يوم 29 /5/ 012 "بأن ملف محكمة الحسابات نُوِّمَ في أحد أدراج مكتب رئيسها إلى يومنا هذا". وبعد أن رفعتم الجلسة، استيقظ الملف من سباته العميق بمعجزة وتم تبليغ إنذار فيه بالدفع إلى السيد محمد الأمين ولد الداده على الساعة 23 و 52 دقيقة من نفس الليلة، من طرف كاتب الضبط الأول لدى وكالة الجمهورية تلزمه فيه بإعادة مبلغ قدره أربعة وخمسون مليونا وألفين وخمسمائة (54.002.500) أوقية إلى خزينة الدولة! ورغم أن هذا المبلغ يشكل أقل من 20% مما ذهبت إليه في زعمها مفتشية الدولة، فإنه - هو الآخر- غير مبرر ولم يصدر بشأنه بعد أي حكم من محكمة الحسابات، لكنه - مع ذلك- عظيم الفائدة لما فيه من تفنيد ونقض وإلغاء لمحتوى تقرير مفتشية الدولة؛ وإن كان تاريخ ووقت تبليغه مريبان! كما أنه ـ وهذا بيت القصيد ـ  حصر المبلغ محل الإنذار في الفوترة الباهظة. والفوترة الباهظة لا تتم مساءلة الموظفين العموميين ووكلاء الدولة عنها. بل هي مسؤولية الموردين والمقاولين ومقدمي الخدمات الذين يحررون تلك الفواتير أو يتواطئون بغية التأثير على المنافسة أو يقدمون وثائق مزورة في إطار السعي للحصول على الصفقة، أو تنفيذها. ولا يوجد ذكر للفوترة الباهظة أو التواطؤ أو التزوير في المواد 160 و 161 من نفس المرسوم، التي تتناول وتحدد الأخطاء التي يؤاخذ بها الوكلاء العموميون، وعقوبة تلك الأخطاء.

6.      وفي خضم إجراءات توجيه الإنذارات وإبطالها، رأى الدفاع وهو يشاهد حصن الاتهام ينهار كما تنهار الأوهام، أن يطلب حرية مؤقتة لموكله. وكانت قناعته أن العدالة قد لا ترغب - من تلقاء نفسها أو بإيعاز من الدولة- في استعادة ما رجح تبريره من المال العام إلى الخزينة، وما تشكل الرغبة في استعادته أساس وسبب ما ذهب إليه المشرع الموريتاني من تساهل ناقشه وعلله الرئيس الأستاذ المختار ولد داداه رغم "صرامته السقيمة" حسب تعبيره، في الصفحة 405 من كتابه "موريتانيا على درب التحديات". مع أنه عقد العزم على تعديل ذلك التشريع، لكنه ظل قائما إلى الآن. ولكن الدفاع كان - وما يزال- يستبعد ولا يستسيغ بحال من الأحوال أن تعقد العدالة عزمها وتصر على ظلم وحبس مواطن بريء. وأثناء إجراءات الحرية المؤقتة وما رافقها من مطل وتعثر في المسار، أوشكت مدة الحبس الاحتياطي للمتهم على الانصرام. ورغم إلحاح الدفاع في طلب بت غرفة الاتهام في استئنافه امتناع قاضي التحقيق عن منح موكلنا الحرية المؤقتة، أصر رئيس غرفة الاتهام بالوكالة على تعليق بته في استئنافنا بترجمة جميع أوراق الملف، وطلب منا اسم وعنوان مترجم معتمد، ففعلنا. وكان ذلك زوال يوم 27 /9/ 011، وكنا قد أخطرنا النيابة بقرب انصرام مدة حبس موكلنا بقوة القانون. وبين زوال وعشيته غير رئيس غرفة الاتهام وكالة رأيه وبلغ إلينا مذكرة أنهتها إليه النيابة تطلب منه فيها البت فورا، وبرفض استئنافنا. وتم تبليغنا على الساعة الخامسة وربع مساء يوم 27 /9/ 011، وقد أشر القاضي على المذكرة المبلغة بوجوب ردنا عليها قبل الحادية عشرة من صباح الغد (28 /9/ 011) فرددنا عليها في الوقت المحدد، وأخطرناه من جديد هو ووكيل الجمهورية ومسير السجن بانصرام مدة الحبس الاحتياطي في حق موكلنا وطلبنا منهم جميعا اتخاذ الإجراءات القانونية اللازمة. وعندها بتت غرفة الاتهام في نفس اليوم قاضية برفض الحرية دون أن تترجم لها أية ورقة من الملف الضخم . وفور البت انتزعت وكالة الجمهورية ملف القضية من دواوين غرفة الاتهام شططا، وذهبت به إلى قاضي التحقيق وكالة آمرة إياه بإصدار أمر فيه بالإحالة أمام المحكمة الجنائية. وذلك قبل انصرام أجل التعقيب المتاح للدفاع، وقبل أن تتم إجراءات الإشعار بنهاية التحقيق. ولما رفض القاضي الامتثال لأوامرها، انتزعت منه إشعارا باطلا بنهاية تحقيق لا علم له بمجرياته، بنت عليه باطلا إستراتيجية الحبس التحكمي ونكران العدالة وخرق القانون التي ظلت متمسكة بها إلى هذه اللحظة. فالمتهم الماثل أماكم اليوم يوجد في حالة حبس تحكمي لا أساس له ولا مبرر ولا داعي منذ يوم 28 /9/ 011. ذلك أن مدة حبسه الاحتياطي انتهت يوم 28 /9/ 011 بقوة الفقرة الرابعة من المادة 138 (التي تحدد فترة حبسه الاحتياطي بستة أشهر قابلة للتجديد مرة واحدة) والفقرة الأخيرة من المادة 139 (التي تنص على وجوب إطلاق سراح المتهم الذي انتهت مدة حبسه الاحتياطي دون أن يكون قاضي التحقيق قد اتخذ في شأنه قرارا بختم التحقيق). ولا عبرة بجميع ما بررت به وكالة الجمهورية ووزارة العدل ما ذهبتا إليه من شطط، لأن جميع ما اعتمدتا عليه مخالف لصريح المادتين المذكورتين الآمرتين. ومن الضحك على العقول والاستخفاف بالناس ادعاء أن إشعارا بنهاية التحقيق ـ بغض النظر عن بطلانه ـ يشكل قرارا بختم التحقيق! وقد فند وزير العدل نفسه هذا الادعاء - دون أن ينتبه إلى ذلك- حين صرح لإذاعة فرنسا بأن قاضي التحقيق ينتظر عودة الملف إليه من بعض المحاكم ليتخذ فيه قرارا بالإحالة إلى محكمة الحكم؛ ناسيا أن نيابته تؤسس حبسها التحكمي للمتهم على صدور مثل هذا القرار الذي ينفي صدوره! وقد شكل تأسيس النيابة حبسها التحكمي لولد الداده على إشعار بنهاية التحقيق "نكتة فقهية" لدى الأوساط القضائية في فرنسا والاتحاد الأوروبي والأمم المتحدة  المهتمين بهذا الموضوع والمطلعين عليه عن طريق سفرائهم وممثليهم في بلادنا. وهنا لا بد من طرح السؤال التالي لوضع حد لمكابرة النيابة في محسوس: هل تعهد المحكمة الجنائية الموقرة في البت في هذا الملف تم بموجب إشعار إلى الأطراف بنهاية التحقيق، أم بموجب أمر بإحالة المتهم أمامها؟ هنا ينتهي الجدل.

7.      وعندما استلم قاضي التحقيق الأصلي عمله بعد انتهاء عطلته، تغاضى عن الحبس التحكمي الجاري في عهدته، بل ذهب إلى أبعد من ذلك فتجاهل في قرار الإحالة الذي أصدره جميع القناعات المتحصلة لديه؛ سواء في ذلك من تأكدت عنده مسؤوليتهم وأصدر إليهم إنذارات بالدفع ألغتها وأتلفتها المحاكم الأخرى ظلما وشططا، ومن استجابوا للإنذار وقاموا بدفع المبالغ المطلوب دفعها. إنه لم يلو على شيء من ذلك، ولجّ  يكرر في أمر إحالته المزاعم الواردة في تقرير المفتشية وتكييف النيابة دون زيادة أو نقصان لحد أنه اعتبر ما ورد في القرارات الاستعجالية بصدد الإنذارات بالدفع حجة تدين المتهم! ترى ما هي فائدة التحقيق إذا كان مآله تكريس محاضر وتقارير الاتهام وكأنها طعام عزير؟!

8.      وفي نهاية هذا المطاف، وبعد التعلل بمماطلة يقوم بها الدفاع لا أساس لها، والقول بأن الدفاع قد عقب قرار الإحالة دون أن يكون قام بذلك. ونفيا للحرج الذي وقعت فيه، اتفقت معنا النيابة على إلحاق هذا الملف بجدول دورة محكمتكم الماضية، علما بأنكم ستضطرون لتأجيله نظرا لعدم ترجمة وثائقه الأساسية، وأننا في هذه الحالة سنطلب الحرية المؤقتة لموكلنا، وعندها ستوافق النيابة على طلبنا. وتم السناريو كما خطط له. وأمام محكمتكم الموقرة نكثت النيابة بعهدها، وعارضت طلب الحرية  المؤقتة لموكلنا متعللة بـ"خطورة الوقائع"! وهي الحجة التي تلجأ إليها غالبا عندما لا تكون لديها حجة!

فلما ذا كل هذا التعسف والشطط وانتهاك القوانين والحريات، إن لم تكن غايته إعطاء هذه القضية عناية واهتماما خاصين، والحرص على تسييرها خارج القانون!

 

ثانيا:انعدام البينة على التهمة الموجهة إلى المتهم

سيدي الرئيس،

السادة أعضاء المحكمة الموقرة.

القول دعوى وفعل المرء بينة ** ولا سماع لدعوى دون بينة

وكم دعاوى على الإنسان هينة ** تطلبت بينات غير هينــــــة

 

إن الرجل الماثل أمامكم يعيش محنة قاسية تتطلب النظر إلى صاحبها بعين العدل والرحمة والإنصاف. إنه سجين منذ 20 شهرا 8 منها حبس تحكمي لم تقض به أي بطاقة أو قرار قضائي. وذلك في وقت انعدمت فيه البينة على التهمة الموجهة إليه!

إنكم تعلمون - يا سادتي- أن الأصل البراءة، وأنه لا يمكن انتهاك ذلك الأصل والنيل من حرية وكرامة الإنسان بمجرد الظن والإدعاء؛ بل لا بد في ذلك من ثبوت الدليل القطعي الذي لا لبس فيه. وتعلمون كذلك أن المشرع الموريتاني حصر وسائل الإثبات في خمس هي: الاعتراف أو الإقرار، والدليل الكتابي، وشهادة الشهود العدول، واليمين، والقرائن. وجميع هذه الوسائل لم تنهض أي منها في هذا الملف لإسعاف دعوى النيابة والطرف المدني المتهافتة.

*    ففي هذا الملف الضخم الذي بين أيديكم - وعبر جميع مراحله - لا يوجد أي اعتراف أو إقرار. اللهم إن كان تلك الصورة المزورة المتعلقة باستعداد صاحبها لإعادة جزء مما هو متهم به؛ والتي لا يوجد عليها توقيع، وقد استظهرت بها النيابة ثم سحبتها لما ظهر تزويرها وحملها لاسمين مختلفين!

*    وفي الملف الذي بين أيديكم أدلة كتابية كهذه الشيكات وهذه الحوالات المسحوبة من طرف بعض المسؤولين دون علم المتهم؛ والتي تمكن مواجهتهم بها. أما المتهم فلا يوجد في الملف أي دليل كتابي تمكن مواجهته به على الإطلاق.

*    أما شهادة الشهود فلا يتوفر منها غير شهود النيابة والطرف المدني الذين ذكرت شهادتهم أمامكم والذين كشف التحقيق عن ضلوع بعضهم؛ أي من وجهت إليهم إنذارات بإعادة ما اتهموا به، وامتثل بعضهم. وثبت بالبينة القاطعة المتمثلة في تقرير الإنابة القضائية وتقرير محكمة الحسابات ما يعارض وينفي ويفند شهادة البعض الآخر، وأعني ذلك الشاهد الذي لم ير شيئا ويدعي أنه رأى كل شيء وجاب موريتانيا كلها ووقف على ما بها من إنجازات المفتشية وأحصاه ودققه في عشرة أيام! فمتى كان الظنين شاهد عدل تسمع شهادته؟ خاصة إذا كان دافعها إبعاد التهمة عنه. ومتى أصبحت شهادة الزور تسمع ممن ثبتت عداوته وتحامله وعدم صحة ما ورد في شهادته؟

*    وفيما يتعلق باليمين - وإن كانت غير واردة هنا - فمما لا شك فيه أن من استمع إلى مرافعة وكيل الطرف المدني سيتأكد من استعداده لأدائها فورا أمامكم حتى قبل أن توجهوها إليه. لأنه يؤمن إيمانا راسخا بكل فاصلة وردت في تقرير مفتشية الدولة، ويعطيكم كبرهان على صحة وحجية ذلك التقرير كونه "قضى ثلاثة أشهر وهو يقرؤه"! وما يزال يطالب رغم جميع ما كشفه التحقيق والإنابة، وما ذهبت إليه النيابة، بالحكم على المتهم بالمائتين وسبعين مليونا ونيف الواردة في ذلك التقرير! ولا ندري ما إذا كانت قناعته ستبقى راسخة بعد وصول إنذار محكمة الحسابات المدمر!

*    ولا يبدو أن القرائن أوفر حظا من غيرها؛ إذ لا تتوفر أي قرينة تدين المتهم. خاصة إذا ما علمنا أنه لا يملك شيئا معتبرا فيقال له: من أين لك هذا؟ وقد تم الكشف عن جميع حساباته فوجدت خاوية على عروشها!

ترى، لما ذا لا يبرز التحقيق هذه الحقائق الناصعة ويعتمد عليها ويأمر بأن لا وجه لمتابعة المتهم، أو يعطيه - على الأقل - الحرية المؤقتة في انتظار حكم القضاء في شأنه، بدل التشبث والتنويه بخطورة وقائع وهمية لا يراها إلا النيابة؟ وما هي فائدة التحقيق إذا كان عاجزا عن التمييز بين الحق والباطل؟

أنا أفهم - وأتفهم وأقدر- حرص رئيس الجمهورية وغيرته على حماية وصيانة المال العام؛ خاصة إذا كان موجها في خدمة مصالح الفقراء! ذلك الحرص وتلك الغيرة اللذين عبر عنهما في حواره مع ثلاثي الإعلام الفرنسي.

ولكن هل يعلم فخامة الرئيس أن إدارته وقضاءه عاجزان - في أغلب الأحيان - عن حماية المال العام أيا كانت وجهته؟ عاجزان عن تحديد الجهة التي اختلسته. وقد يذهبان أحيانا إلى حد حماية المختلسين، وتوريط جنوده المخلصين. ثم  يقدمون إليه التقارير الكاذبة المضللة كما هي الحال في هذا الملف!

ولذلك قلت - وأكررها الآن- إننا بحاجة إلى أن تصل يد الإصلاح إلى الإدارة والعدالة! ولكن الإصلاح الذي نريده، يجب أن يكون جوهريا وليس شكليا، متبصرا وليس أعمى، عادلا وليس ظالما، هادئا وليس نزقا، يصلح ولا يفسد، يجمع ولا يفرق، يراقب ولا يهمل!

كان الله في عون فخامة الرئيس!

 

ثالثا: نكران العدالة وخرق القانون والتلاعب بحقوق الإنسان والمجتمع

سيدي الرئيس،

السادة أعضاء المحكمة الموقرة،

من المؤكد أن العدل أساس الملك. وهو أيضا أساس الاستقرار والأمن والتعايش السلمي. وبدونه لا تقوم قائمة للتنمية، ولا تتوفر وسائل حماية الدولة ومؤسساتها، ولا تمكن مواجهة عصابات الفساد والإرهاب وتبييض الأموال والمتاجرة بالمخدرات والسلاح وغير ذلك من أنواع  التهريب؛ بما فيه تهريب البشر. ولا شك أنكم سمعتم في الجزء الأول من هذه المرافعة الذي خصص للوقائع والإجراءات، كم كان العدل غائبا طيلة العشرين شهرا التي عاشها هذا المواطن البريء في درك القهر!

فبماذا يمكن أن ننعت إصرار النيابة العامة على توجيه التهمة إليه وحده حماية لمن ثبتت مسؤوليتهم من خلال تقرير المفتشية على علاته، ومحاضر البحث التمهيدي، إن لم يكن نكران العدالة والتدليس وخرق القانون والتلاعب بحقوق الإنسان والمجتمع؟

وبماذا يمكن أن نصف ما قامت به إحدى غرف الاستئناف حين تصدت في أجل قياسي للبت في ملف هي غير متعهدة فيه، ولا يملك الطاعنون فيه الصفة، وهذا ما اعترفت به ضمنيا في قرارها الذي لم يذكر فيه اسم الطاعن، وحين قامت شططا بإلغاء وإتلاف إنذارات الدفع الموجهة من قاضي التحقيق، إن لم يكن نكران العدالة والتدليس وخرق القانون والتلاعب بحقوق الإنسان والمجتمع؟

وبماذا نسمي ذلك الفقه المخالف لصريح القانون الذي أكدت به محكمة النقض القرار الباطل المعقب من النيابة والطرف المدني والدفاع، وقد اصطفوا في خندق واحد متمترسين بالنصوص القانونية الصريحة، إن لم يكننكران العدالة وخرق القانون والتلاعب بحقوق الإنسان والمجتمع؟

وبما ذا نعلل أو ننعت تراجع قاضي التحقيق عن قناعاته التي جسدها في إنذاراته التي بقي معظمها حبرا على ورق، وتغاضيه عن الحبس التحكمي، إن لم يكننكران العدالة وخرق القانون والتلاعب بحقوق الإنسان والمجتمع؟

وبماذا نفسر ونصف تعامل وكالة الجمهورية مع هذا الملف، وتشبثها بحبس المتهم تحكميا رغم مخالفة ذلك لصريح القانون، واستمرارها في رفض منحه حرية مؤقتة بحجة خطورة وقائع لا وجود لها، إن لم يكننكران العدالة وخرق القانون والتلاعب بحقوق الإنسان والمجتمع؟

وأخيرا، بماذا نفسر أو نسمي خلود الملف الخاص بمحكمة الحسابات في أدراجها 20 شهرا، ثم بعثه بعد رفع جلستكم يوم 29 /5/ 012 ليبلغ فيه إنذار بالدفع إلى المتهم يتعلق بالفوترة الباهظة، بعناية النيابة قبل منتصف الليل بثمان دقائق،إن لم يكننكران العدالة وخرق القانون والتلاعب بحقوق الإنسان والمجتمع؟

وهذا غيض من فيض وقليل من كثر!

 

رابعا: مكافحة مكافحة الفساد: محمد الأمين ولد الداده نموذجا

سيدي الرئيس،

السادة أعضاء المحكمة الموقرة،

إن محمد الأمين ولد الداده ليس من "المخلدين" الجمهوريين الصالحين لكل زمان ومكان ولكل نظام. ولم يأت من صلب الجماعات والبطانات المؤثرة أو يوص به أي ضابط سام أو رجل أعمال معتبر أو شيخ أو رئيس قبيلة، ولا تحميه وتصطف مجموعة أو جهة، ولم يسع خلال وجوده في منصبه إلى خلق حاشية أو ربط جسور نافعة أو عمل "حجاب". ولعل جوابه بالرفض القاطع على سؤالي عندما سألته أمامكم: لماذا لم تتكلم لغة محيطك الجديد.. والمثل يقول: "الِّ ادخل غابه يزوي زي طيورها" قد أنار محكمتكم حول ماهيته وكنهه.

إنه شاب مثقف، ومتمرد على الكثير من الأساليب والأنماط التقليدية الرائجة في مجتمعنا، ويحلم بالحرية والديمقراطية وبناء وتنمية الوطن، وخدمة الفئات والشرائح الهشة المهمشة؛ ولذلك شق عصا طاعة منظمة الحالمين التي كان ينتمي إليها ملبيا نداء الوطن حين جدّ جد أهله وسنحت فيه فرصة لتجسيد قناعاته وأحلامه، والتحق بركب الإصلاح هاجرا حياة الثرثرة والفنادق، والحياة على موائد "محسني" الغرب والتسكع في شوارعه الجميلة!

ولكن طريق الإصلاح ما تزال شائكة ومتعرجة ومليئة بالأخطار في بلادنا. وهذا ما لم يأخذه الفتى في الحسبان. إن اندفاعه في العمل بجد وإخلاص ليل نهار، وإنشاءه وتنظيمه للمفوضية، وتوجهه إلى حيث يكمن الداء؛ ألا وهو مثلث الفقر الذي سماه مثلث الأمل وحوله فعلا إلى مثلث للأمل، وإلى حيث يوجد فقراء ومهمشون ومحتاجون، واتباعه وابتداعه للأساليب الحديثة والشفافة في التسيير (ملتقى تسليم الإنجازات الذي نظم  في فندق أطلانتيك) وتحويله لشعار عناية الرئيس بالفقراء إلى واقع ملموس على مستوى جميع أنحاء البلاد خاصة تلك النائية منها، وخلقه لقاعدة شعبية واسعة للسلطة الجديدة شكلت ثغرة كبيرة في جدار نظام الفساد المعشش. كل ذلك خلق له أعداء في كل حدب وصوب، وفي مفوضيته بالدرجة الأولى؛ لأنه فرض فيها التوقيع الثالث سعيا إلى الحد من الفساد، وفي الحكومة التي أعطى فيها المثل الصالح، وحتى في القبيلة التي لم يسخّر في خدمتها تلك المؤسسة العمومية المخصصة للفقراء والعمل الإنساني، والتي قد يظن بعض أفرادها أنه فعل ذلك بُخلا منه، وفي المجتمع عموما لأنه لم "يشعشع" كغيره. واتكل على عمله وولائه حارقا سفنه وجسوره الأخرى. فأصبح بذلك مزعجا ومحرجا ونشازا وهدفا لجميع الحملات! فمن منا لم يسمع الأحاديث والنكات عن "بو لعراف" و"بو اكفيفه" والنصراني وغيرها. وأخيرا جردوا طاقما مكلفا بالقضاء عليه وأكله بسلاح محاربة الفساد الذي ترفعه السلطة التي ينتمي إليها، كخطوة في طريق إفشال مشروعه الطموح الناجح، وإفشال اتجاه الإصلاح، وإفشال وأكل عزيز!

"هكذا المصلحون في كل أرض ** رشقات الردى إليهم متاحة

ضيـع الدهـر مجد قومي ولكن ** ستعيـد الحيـاة يوما وشاحه"

لقد صدق الأمين محمد الأمين حين قال لكم إن محاكمته محاكمة تاريخية؛ لأنها محاكمة إرادة الإصلاح في هذه البلاد.

فهل ستدينون الإصلاح؟!

 

خامسا: الرد على طلبات الطرف المدني والنيابة، وتقيم طلبات الدفاع

سيدي الرئيس،

السادة أعضاء المحكمة الموقرة،

إن أصعب ما يعانيه الطرف المدني والنيابة في دعواهما السياسية الكيدية بامتياز، هو التذبذب واضطراب الدعوى واختلاف المبالغ المطلوبة. أهي أزيد من مائتين وسبعين مليونا (270.000.000) كما أورد تقرير مفتشية الدولة؟ أم نحو مائة وتسعة وأربعين مليونا (149.000.000) كما ذكر تقرير الإنابة القضائية؟ أم أربعة وخمسون مليونا (54.000.000) كما ورد في إنذار محكمة الحسابات؟ وما هو النصيب المترتب دفعه من المبلغ على المشاركين الذين كشف عنهم التحقيق، وفوضت النيابة لقاضي التحقيق اتخاذ الإجراءات القانونية اتجاههم، فأنذرهم بدفع مبالغ معتبرة، فامتثل بعضهم ودفع تسعة وثلاثين مليونا (39.000.000) وحمت العدالة الآخرين؟ وأين نضع أزيد من خمسين مليونا (50.000.000) وردت في التقارير بعضها تم سحبه قبل تعيين المتهم مفوضا، وبعضها سحب وهو في السجن، وبعض ثالث سحب دون علمه ودون توقيعه الثالث؟! هذا فضلا عن انعدام البينة ضد موكلنا.

وأنتم تعلمون أن الشك يفسر لصالح المتهم، واضطراب الدعوى يؤدي إلى سقوطها. يقول آدَّ:

شرط الدعاوى جزمها بمعتبر ** يلزم مدعى عليه لو أقر

ولـم تخالـف قولــه أو شهــدا ** أقامهــم لهـا أو العوائـدا

 هذا من جهة. ومن جهة أخرى فقد لاحظتم لا محالة خلو مرافعات الطرفين (الطرف المدني والنيابة) من البينة القاطعة البالغة، والتأصيل المقنع، والتعليل القانوني الواضح، رغم أن القائمين عليهما من خيرة قضاتنا ومحامينا، ولكن الباطل وخلو الملف رغم ضخامته مما يشفع لهما أخرسهما، فاقتصرا على الادعاء والتشبث بالقشور والذود عن تقرير مفتشية الدولة الواهي الذي لا يسمن ولا يغني من جوع البينة. ولسان حالهما ينشد مع الشاعر يوم فرار قومه:

ولو أن قومي أنطقتني رماحهم ** نطقت، ولكن الرماح أجَرَّت.

وفيما يتعلق بطلب النيابة القاسي المتمثل في 10 سنوات من السجن لرجل وطني بريء، فنحن نتساءل: ما هي البينة التي تقدمت بها النيابة أمام المحكمة حتى تجعل طلبها مستساغا ولو في الحدود الدنيا؟ أم إنها تجعل من انعدام البينة بينة تؤسس انتهاك البراءة وحقوق الفرد المقدسة؟ ثم ماذا تركت النيابة من عقاب تستطيع أن تطالب به للمجرمين؟ وهلا تذكرت قول الله عز وجل: {أفنجعل المسلمين كالمجرمين ما لكم كيف تحكمون أم لكم كتاب فيه تدرسون إن لكم فيه لما تخيرون}.

سيدي الرئيس،

السادة أعضاء المحكمة الموقرة،

تأسيسا على ما تقدم، وعملا بالمواد 324 من مدونة الإجراءات الجنائية، والفقرة الأخيرة من المادة 379 من قانون العقوبات، والمواد 60، 61 و 63 من المرسوم رقم 08/2002 المنظم للصفقات، فإن دفاع السيد محمد الأمين ولد الداده يلتمس من محكمتكم الموقرة التصريح والحكم ببراءته من التهمة الكيدية الموجهة إليه.

بناء على ما تقدم، فإن طلبات الدفاع هي بكل بساطة الحكم ببراءة المتهم لعدم وجود أدلة تدينه.

عاش الإصلاح

ويسقط الفساد

وعاشت العدالة

وعاشت موريتانيا.

فيديو

فيديو

فيديو

فيديو

فيديو

فيديو

فيديو

الآن في المكتبات

فيديو

المتواجدون الآن

حاليا يتواجد 10 زوار  على الموقع