دكار.. كما رآها "نارُ گنَّارْ" (1 / 2)
الخميس, 14 أكتوبر 2021 17:47

محمدُّ سالم ابن جدُّ

altداكار، أو اندكارُ، أو دكارُ انجاي، هضبة في أقصى نقطة بغرب إفريقيا، كادت تبحر في المحيط الأطلسي شوقا إلى الغرب لولا أن الجغرافيا شدتها إلى قارتها فألقت بجرانها مرسًى إلى البر ليكون جسرا يقود إليها. بينما تغتسل صفحتا عنقها وكشحاها وسائرها بالمحيط الأطلسي ما شاء الله.ترددت عليها على مدى السنوات الست الماضية مرارا عدت من أخراها - حتى الآن- فاتح الشهر الجاري (أكتوبر 2021) وهاكم بعض ما رأيته هناك.

حين تقترب من دكار ترى المحيط إلى جانبك فتحسبه راكدا بينما أمواجه تصطرع تباعا أسفل منك، لكنك لا تراها إلا إذا وقفت على شفير الهضبة، كما لا تجد الغبار في تلك المدينة لأن القدرة الإلهية أقامت البحر صماما بينك وبينه، فتنعم بالنسيم العليل النقي في مدينة لا تحارب الحياة البرية ولا سلامة البيئة؛ لذا ترى في شوارعها وساحاتها أنواع النباتات من نجم وشجر، وفي جوها وفوق أشجارها ومبانيها أنواع الطيور من النسور والحدأ والغربان إلى أصغر العصافير.. الكل يتعايش كما تتعايش الأعراق والمعتقدات والطرق والاعتسافات.

في طرف العاصمة الشرقي فكّانِ مفتوحان أقيم عليهما ميناء نشط موزع بين عدة أقسام لاستقبال السفن باختلاف أحجامها وأغراضها ومحتوياتها.

يندر أن تعوقك زحمة المرور رغم كثرة السيارات، أو ترى حادث سير أو عرقلة للطريق العام، لا لأن الشرطة تفرض الانضباط والنظام، ولكن لأن الكل يعمل في إطار نظام واحد يحكم الجميع، ولأن الدولة أتقنت البنى التحتية فعبدت الطرق الفسيحة وأقامت الجسور الكثيرة وشقت نفقا على الأقل.وألزمت أصحاب المباني الحديثة بإقامة سراديب تحتها لإيقاف السيارات.

وإذا كان التزام أقصى اليمين قاعدة السياقة في بلادنا وبلدان أخرى فإن جيراننا هناك أقاموا في قلب عاصمتهم خطين معبدين يكتنفان الطريق (كل عن يمين أحد الاتجاهين) لكنهما مختصان بقاصدي المنازل والمحلات المجاورة ولا يحق لغيرهم العدول إليهما مهما اكتظت الشوارع.

الحديقة وأخواتها

في دكار حديقة الاستقلال؛ مكان رومانسي يحلو به المساء، لا ينغصه إلا من يبدو أنهم سكارى وحشاشون ينهضون ويخرون في سماديرهم يعمهون.

وفيهانصب الانبعاث الإفريقي؛ وهو عبارة عن أسرة إفريقية (زوجين وطفل) أقيمت لها تماثيل من البرونز يناهز وزنها مجتمعة 300 طن على هضبة.

في هذا المكان يسافر الزائر على متن مصعد كهرباوي من قدم تمثال الرجل إلى الطابق الخامس عشر المتمثل في جبهته، ومن هناك تُرى المدينة كلها بوضوح.

وفي الطوابق السفلى (من أعلى ركبة تمثال الرجل إلى الأرض) متحف يضم أثاثا أهدي من مختلف البلدان الإفريقية من بينه عرش لملك أنغولا وحرمه، قد لا يرضى التلاميذ في عصرنا الجلوس عليه في الأقسام. ومنه حصير موريتاني اسودَّ من تعاقب الجديدين، وفي أحد أطرافه فتق نصحت المرشد مداعبا بالبحث عن موريتانية ترتقه لهم فقال متعجبا: وهل يصنع هذا يدويا؟!

في قاعة أخرى تماثيل بأحجام طبيعية للفئات البشرية التي تشكل الشعب السنغالي مجتمعة، مع حضور لافت للأعراق المقيمة في كاصماصه (كازامانس) ومحيطه.

في المتحف ذاته صور للذين تعاقبوا على رئاسة السنغال من سينغور إلى صال، بزيادة لوثر كينغ وأوباما.

متحف مفتوح

altهنا وصل الشغف بالفنون على اختلافها إلى حدود غريبة، وأبرَزَ مهاراتٍ نادرةً؛ تجاوز ذلك الفنون الجميلة إلى بعض الفنون القتالية. لذا لا تستغرب أن ترى سيارة أكل الدهر عليها وشرب قد حولت إلى لوحة تسير في الشارع، أو ترى حافلة شعبية تحدق فيك بعينين نجلاوين لا أنف بينهما، أو ترى مقعدا أعد من سدادات القناني أو ما إلى ذلك.

باعة يستميتون في لفت الانتباه إلى بضائعهم دون أن يفسد ذلك للود قضية فيما بينهم، ومحتالون يقع الغر في حبائلهم بسهولة، ومرشدون إلى الخدمات قد يصل الأمر بهم إلى حد الإزعاج.

على المستوى الشخصي، من أطرف ما وجدت هنا مسن جاء من موريتانيا قبل عقود، وتقادم عهده ببلاده فصار ينطق بمفردات اختفت من الحسانية الحية منذ عقود لأن انقطاعه عن مجتمعه سبب ركودا في لهجته التي تخلفت عن مجاراة الحسانية المحكية، وكنت أجد متعة لا أدري تفسيرها حينما أستمع إليه يتحدث بتلك الحسانية الأثرية.وقد انبتّت صلة الرجل بموريتانيا لأن زوجه وبنيه هنا أقاموا جدارا نفسيا منيعا بينه وبين مجرد التفكير في زيارة بلاده الأصلية بعد ما اكتسب الجنسية السنغالية، دون أن أفلح في إفهامه عدم صحة أقوالهم، مع ضربي المثل بالسنغاليين الذين لا يربطهم رابط بموريتانيا والموريتانيين الذين لا يربطهم رابط بالسنغال أمثالي، ومع ذلك لا يجد أي منهم حرجا في زيارة بلاد الآخر؛ فأحرى من يزور أهله ووطنه!!

altحين يسير المرء مساء على الكورنيش أو قرب الميناء تلفت نظره - ولا بد- كثرة الدراجات النارية المسرعة التي يقود كلا منها شاب لبناني مردفا من لعلها زوجه.

بدء الدوام هنا مقدس، والمسؤول ينبغي أن يكون أول الحاضرين إلى مقر العمل، وهو ما أثار عجبي أوائل أيامي هنا (قبل سنوات) حيث كان آخر وقت يحضر فيه الطبيب الثامنة وست دقائق، بينما تتأخر كاتبته عشر دقائق أو أكثر، وقد يستقبل مريضين فيجلسان بانتظار موظف الصندوق.

أما صديقي العزيز الذي تبوأ الدار من قبلي فلم ير في الأمر عجبا؛ بل رأى أن المسؤول يرسم سلوك القدوة ولا ينبغي له أن يتأخر، وأن للعاملين تحت إمرته من العذر في التأخر ما ليس له؛ فلا يستوي من يصل عبر وسائل النقل العمومي ومن يصل على متن سيارته الخاصة.

مُقام شاعري

في دكار يحلو الاصطياف.. هواء عليل معتدل أو يميل إلى البرودة، خال من الغبار، يعلو ضغطه نصف ساعة قبل المطر، فإذا نزل المطر لطف وعاد سيرته الأولى، ومدينة هادئة لا يشعر المرء أن بها أزيد من أربعة ملايين لأن كل شيء بها منظم، والاستفادة من المؤسسات والمرافق حسب الطابور. ويندر انقطاع الكهرباء وإذا حدث يندر أن يصل عشر دقائق، ولا يشمل انقطاعه إنارة الشوارع (حسب مشاهدتي) بل تظل مضاءة حرصا على الأمن العام.

تندر رؤية الموريتانيين في المتاجر!

كأن لم يكن بين الحجون إلى الصفا ** أنيس ولم يسمر بمكة سامر

فبعد أحداث 1989 العرقية الدامية حل محلهم الغينيون في المجالات التي كانوا يعملون بها وقدما قال ابن الحسين:

بذا قضت الأيام ما بين أهلها ** مصائب قوم عند قوم فوائد.

مبان عائمة

بالطرف الجنوبي للعاصمة دكار توجد عيادة "بل في" (bellevie) وهي عيادة خاصة تهتم بالعيون في المقام الأول، وتتخذ عينا حوراء شعارا لها. أقامها مستثمرون لبنانيون، ومنهم من يعمل فيها؛ بدءا بشيخ كبير نحيف يجلس بهدوء في البهو مغالبا ما حناه الجديدان من ظهره، مراقبا كل شاردة وواردة، ومرشدا الحائرين والمرتبكين، مرورا بآخرين وأُخَر من أجيال أصغر في أعمال مختلفة يحرص من مر به منهم على تقبيله وفق "التقويم الشرقي".

حين دخلت أول مرة حسبت نفسي في الطابق الأسفل، وسرعانما تبين أني في قمة البناية الخادعة! لقد شيدوها في المحيط بمحاذاة الهضبة التي تقوم المدينة عليها، فأقبلت على البر وأطلت برأسها لاستدراج صيده وأسلمت سائرها للبحر، فلا يرى الداخل إليها إلا أنه في مبنى شاطئي، ولكنه يكتشف سريعا أنه في عيادة عائمة.

وتسهيلا لاكتشاف ذلك أقيمت خلفيتها (أو خلفية مكتب طبيبي على الأقل) من زجاج صاف لا شك في قوته، وإلا لانهار تحت لكمات الموج الهائج الذي يصطرع تباعا عليه. وقد رأيت نظائر لهذه العيادة لم أدر هل أقيمت هكذا سعيا للإغراب، أم للترويح عن المرضى، أم ضاق البر بهافلجأت إلى البحر.

من تلك النظائر عيادة السنغال العصرية للتصوير الطبي (Imodsen)فهي عيادة "برمائية" على نحو ما تقدم وصفه.

________________

* الصور بعدستي في أوقات مختلفة.

فيديو

فيديو

فيديو

فيديو

فيديو

فيديو

فيديو

الآن في المكتبات

فيديو

المتواجدون الآن

حاليا يتواجد 10 زوار  على الموقع