| أدونيس: هذا هو اسمي (ح 12)* |
| الأربعاء, 20 يونيو 2018 07:36 |
|
شعر وذكريات
أدونيس: أنا أحترم كثيرا إدوارد سعيد، وهو رجل كبير - بكل معنى الكلمة- على الصعيد الفكري، وأنا أؤيد معظم أطروحاته وأتبناها وأدافع عنها، إلا شيئا واحدا بسيطا، هو أنه كان تعميميا كثيرا فيما يتعلق بنقد المستشرقين. وكنت أقول له: هناك مستشرقون كتبوا عن التراث العربي ما لم يكتبه أي عربي في تاريخ العرب كله، كابروكلمان وماسينيون وأمثالهم ممن ألفوا كتبا من أعظم ما كتب في اللغة العربية عن العرب. لم يكتب أي عربي كتابا مثل "تاريخ القرآن". كان هناك إذن تعميم، وما عدا ذلك فأنا أوافق على جميع أطروحات إدوارد سعيد. "شباك البيت الذي ولدت فيه القمر هذه الليلة، يشعل شموسه بين قبور الأطفال، فيما تتقدم ريح غامضة على كتفي وردة تكاد أن تذبل. ** هل يحق لي أن أمر تحت شباك البيت الذي ولدت فيه؟ ولمن أوجه هذا السؤال، يا هذه الريح؟ ** تلك الليلة، في انيويورك، كنت، من أية نافذة نظرت، ومن أية زاوية، أرى إلى القدس، كأنني أراها تحت سماء لا وطن لها غير كرسي الله ** كل شيء يريد أن يظهر في صورة مختلفة. هل ترون مثلي كيف يتحول البحر الأحمر إلى هرم تنام فيه اللغة؟ وكيف ينقلب الناس: لا يموتون (أو لا يعيشون) من أجل راحة الأرض، بل من أجل راحة اللغة؟ تلك الليلة، أحسست أن شمسي العربية عرجاء خرساء مجدوعة الأنف. ** ولم تتوقف زيزان الحضارة عن عزفها القاتل في أذُنَيّ. وكانت الحداثة خاتما يتلألأ في الأرض الواسعة التي تتحول إلى إصبع إلكترونية في يد انيويورك. ** ورأيت غربانا تزرق على خوذ القادة من أية سلالة انحدروا، فيما يتوسد كل منهم ثدي مرضعة سماوية، وفيما تغسل الصواريخ أقدامها بماء الملائكة. أنت، يا من تدير وجهك نحو الشرق، هل تظن حقا أن الشمس ستطلع غدا؟ ** أوه، يكاد علمي أن يقتلني لكن، كيف حدث أن صار الوقت يشنق المكان متى شاء، وكيفما شاء؟ ربما، لم يعد هذا العالَمُ في حاجة إلى البشر. كيف تريدين مني، إذن، أيتها الأرض، أن أفهم دورانك حول الشمس؟ ** وانطمسي، أيتها الحواسُّ، لا أقول ذلك انتصارا لك، أقوله لكي أعزي الأبجدية. وأخبرك: وُعِدتُ بالجحيم، كما يؤكد أعداؤك المؤمنون. لهذا، يخطر لي أن ألمس الجنة لكن بغير أصابعي، وأن أتحدث إليها لكن بغير صوتي – في الليل، قرب جدار عال، فيما يعبر أمامي حصان روماني واضعا على رأسه خوذة فارس أحبه". أرواد (ابنة أدونيس): أنا في الوسط بين نينار وأدونيس، وصلت مرحلة من عمري وتجربتي، ولكوني أكبر من نينار فقد عايشت أدونيس وخالدة فترة أطول مما عايشتهما نينار، وأنا قريبة من نينار، لذا فأنا الوسيط داخل العائلة. بخصوص أدونيس أحس أن رابطتي العملية به في الرسم والنشر وما إليهما زادت العلاقة بيني وبينه، وأحيانا أجد نفسي منه بمثابة الأخت الكبرى التي تود أن تنصحه. نينار (ابنة أدونيس): أبي كان قليل الوجود بيننا، لذا نشأت وكبرت حتى اصطدمت معه وصرنا نتصادم أحيانا، لكن لا أعتقد أن هذا ما جعلني أصير كما أنا. أمي علمتني الكثير، كانت تعلم وجودي أكثر، وكل ما له علاقة بحقوق الإنسان - وحقوق المرأة خاصة- صار جزءا من حياتي. تعلمت هذا مباشرة منها. أما الوالد فتعلمت منه من خلال مراقبته كيف يعمل وكيف يتحدث مع الناس، وعلاقاته بالآخرين وبعمله، وكيف يمضي ساعتين ونصفا ثم يذهب إلى معمله الذي هو بمثابة مرسم، فيمكث فيه من الثامنة والنصف صباحا إلى الحادية عشرة ليلا. هذه القدرة القوية على العمل. تعلمت منه إذن بالمراقبة. وطبعا كان الجو السائد في البيت الاحترام لشخصي أنا وأختي، والاحترام للآخر. هذه البيئة كونتني دون تعليم مباشر أو نحو ذلك. أرواد: كان بيني وبين أبي صدام في مرحلة الدراسة من حياتي، وكنت أراه في مرحلة الكمال، ثم بدأت أكتشف أنه إنسان كغيره من الناس، له أخطاؤه وله ضعفه، ولو أن لآرائه احترامي الكبير، حيث استمر سائرا على الخط الذي رسمه دون تردد ولا تراجع. يوجد المفكر ويوجد المبدع ويوجد الإنسان. الإنسان كغيره لديه نقاط ضعف، فإذا اكتشفت هذا تقبلته وزاد حبك له.
قلت: فلأعمل مقابلة معه كما يفعل الكثير من الصحفيين وأطرح أسئلة عليه. فكرت في أن أُكْثِرَ الأسئلة ليضطر للبقاء معي وقتا أطول، فأعددت 100 سؤال اقتضت منا 3 أشهر نتواعد ونجلس ونتحدث.. وقد انتقيت الأسئلة بطريقة معينة، وكان في الحوار اصطدام. أرواد: تمرده وقوته جعلاني قوية لا أشعر بالخوف من سلطوي أو متسلط. نينار: أذكر حالة ظلت دائمة مع أبي بين الاختلاف والاصطلاح، مع أني صرت أما، فلدي ابن عمره 4 سنوات ونصف، وأظن أن العلاقة تغيرت عند مولد ابني فرجعت شيئا ما عما كنت من قبل. أرواد: الرؤية صحيحة، أفكاره أصح، مواقفه مهمة جدا وأساسية. وأنا أتبنى الأشياء التي يقول بها من قبيل ضرورة فصل الدين عن الدولة والمساواة بين المواطنين، وأن المرأة إنسان، وحقوق الإنسان تعني تماما حقوق المرأة ضمن المجتمع. أتذكر أني لما كنت في سنتي السابعة كنا نسكن ببيت "شعر" وهو بيت كبير شيئا ما، فعقدت فيه الاجتماعات الأولى لمجلة "مواقف" وأتذكر أنه كان في مطبخ هذا البيت بينما كانت أمي تدور بين الصالون والمطبخ، والكتاب والشعراء والمفكرون القادمون من أرجاء الوطن العربي، من العراق أيام صدام حسين وقبل صدام حسين، وقادمون من السعودية للتنفس، وقادمون من السودان، وقادمون من المغرب، وباقي الوطن العربي. الكل يسهرون في بيتنا في حديث ونقاش، ولم تكن لي فكرة عما يدور إلا كما يأتيني أصدقائي الصغار فنلعب معا. أتذكر كل أولئك الكتاب والفنانين والرسامين ونقاشاتهم حول السياسة والفكر والوضع العربي من ذكرياتي مثلا أن فاتح المدرّس جاءنا مرة فقدم أبي (أدونيس) إليه لوحة كبيرة بيضاء وألوانا، وقال له: ارسم، وقام فاتح عن اللوحة فوضعت وخالتي أليسار التي تقاربني في العمر خطوطا عليها وعبثنا بها كما شئنا فلما عاد فاتح رسم على ما فعلنا واحدة من أجمل لوحاته. وأتذكر شاعرا عراقيا لم يكن يحب لوحات فاتح؛ بل يخاف منها لأن كلها وجوه، عاد إلى العراق وبعث رسالة قال فيها: كم أشتاق للوحة فاتح المدرس! يعني لوحته التي كانت عندنا بالبيت وكانت تشعره بالخوف. أتذكر طبيعتنا وطبيعة حياتي وما تزال موجودة في ذهني. كل هذه الأمور التي تشكل الإنسان وحياته وتفاعله مع من حوله تظل موجودة. نينار: ليس لدي الكثير من الوصايا لأني أرى أنه عاش حياته بطريقة فظيعة وما زال إلى الآن حيويا. وأنا دائما أقول له: كلما كثر أعداؤك دل ذلك على أنك مشهور وعظيم، ومثلك يحزن إذا لم يجد من يكرهه لأن معنى هذا أنه لا أحد يأبه به. ____________ * نقلا عن قناة الميادين. |
