أدونيس: هذا هو اسمي (ح 8)*
الأربعاء, 30 مايو 2018 08:29

 

أعظم الألفاظ إذا عالجتها عقول صغيرة أصبحت هي صغيرة

altبيار: طيب.. القطيعة مع "شعر".. جاء يوسف الخال فقال: اصطدمنا بجدار اللغة، وقال إن اللغة العربية ماتت. في إجابة تنسب إليك قلت له: حتى لو ماتت سأكتب بها إلى نهاية حياتي.

أدونيس: صحيح. هذا كان موقفي. كنت أقول له: لا ذنب للغة، ولو كان لها ذنب لكانت هناك لغات رديئة وفقيرة ومعجمها اللغوي صغير جدا. شاعر كبير مثل جورج شحادة مثلا إذا أخذت معجمه اللفظي تجده 50 – 100 كلمة، لكنه شاعر كبير.

المشكلة ليست في اللغة في حد ذاتها، وإنما هي في العقل الذي يستخدمها. أعظم الألفاظ إذا عالجتها عقول صغيرة أصبحت هي صغيرة! وإذن فالعرب اليوم يجهلون لغتهم. لا تجد عربيا واحدا – وسأبالغ- يتقن اللغة العربية إتقانا تاما. حتى الأئمة والشيوخ! استمعت أمس إلى خطاب لشيخ الأزهر في مؤتمر، وأخطأ فيه أكثر من مرة أخطاء فادحة.. شيخ الأزهر! لا أتحدث عن خطأ بسيط، ولا أتحدث عن رجال السياسة؛ فلا يعرفون لغتهم إطلاقا. وإذن فليس الذنب ذنب اللغة، وإنما هو ذنب الذين يستخدمونها. يجب أن نتقن لغتنا، ونحن لا نتقنها، وهذا ذنب الشاعر. كيف يسمح الشاعر لنفسه أن يكتب بلغة لا يتقنها! هذه هي المشكلة.

لذلك كنت أنا من جهة اللغة العربية.

بيار: من هنا قولك إنها اصطدمت بجبال الرؤية. أي أنها كانت مشكلة رؤية.

أدونيس: تماما.

بيار: حملت أنت هذه التجربة بخيباتها وإنجازاتها لتأسيس مجلة "مواقف" في لحظة تاريخية جد مهمة، سنة 1968 بعد نكسة حزيران. أيار 1962 بفرنسا والأفكار التحررية والتغييرية الجديدة، فجاءت "مواقف" لتكون محط كل شيء إلا إنجازات مجلة "شعر" فتكون مرحلة جديدة في تاريخنا الثقافي.

أدونيس: هذا في الحقيقة كان نتيجة الخلاف في مجلة "شعر" لأني في آخر مرحلة كنت أقول رأيي بخبرتي العملية على مدى سنوات، أن الشعر فكر في الوقت نفسه. لا يوجد شاعر عظيم، في التاريخ كله منذ هيرافري مرورا بهوميروس وغوته وباونتي.. إلا وكان شاعرا مفكرا. ريليتيه وبودلير كانا مفكرين.

إذن فالشعر العربي جزء من الثقافة العربية، ولذلك لا نستطيع أن نفصل بين الشعر – كأنه معلق في الفضاء- وبين ما نعيشه يوميا، وما نعيشه تاريخيا. ولذا يجب أن نهتم بحركة الثقافة وبالحركة التاريخية أيضا. وبهذا المعنى أنشأت مجلة "مواقف" التي تجرأت للمرة الأولى في تاريخ الصحافة العربية آنذاك على انتقاد ثورة يوليو، ثورة عبد الناصر! نقدناها في عدد خاص، ونقدنا الثورة الفلسطينية أيضا.

بيار: نحن دائما عندما ندرس تاريخ المجلات الثقافية نقول: "شعر" فـ"مواقف" وبينهما مجلة ننساها دائما هي مجلة "حوار" توفيق صايغ أدخل العنصر التشكيلي، لأول مرة صار هناك من يرسم معه، وأعتقد أنه كمال بلاطة الذي واصل معك في "مواقف". ما الذي أضافته "حوار" بين المجلتين؟

أدونيس: يوسف كان قد أسس مجلة "شعر" للعناية بالجانب الفني، لكن ليس بالمجلة بشكل خاص، وإنما خلقت "غاليري 1" المهتم بالحركة الفنية، وكان يوسف الخال وزوجته هيلين من أوائل المهتمين بالحركة الفنية. لكن خطأ "حوار" – فيما أظن- هو كونها أقرب إلى أن تكون مؤسسة منها إلى أن تكون حركة. أعني مؤسسة داخلة في الثقافة الرسمية بشكل أو بآخر. وأظن هذا من الأخطاء، مع أنها كانت مجلة راقية وقوية وجميلة. وتعاونت مع أشخاص مهمين واكتشفت آخرين، مثل الطيب صالح على سبيل المثال، وأدخلت الجانب الفني في صميمها. أعتقد أنها كانت مجلة مهمة. وكانت أقرب إلى أن تكون روح المؤسسة هي المهيمنة فيها من روح المغامرة والتجربة والاقتحام..

بيار: خصوصا وأنها كانت مدعومة من قبل الجمعية العالمية لحرية الثقافة التي اكتُشِف فيما بعد أنها مرتبطة بالمخابرات المركزية الأمريكية ودمرته مع الأسف.

أدونيس: هنا أيضا شهادة للتاريخ، فقد عُرض إصدار المجلة على يوسف، وعُرض علينا فرفضنا رفضا باتا، وقلنا للصديق الذي قدم العرض: لماذا لا تبحث مع شخص مهم هو توفيق صايغ؟ نحن اقترحنا اسم توفيق صايغ، ولم نكن نعرف ما وراء ذلك.

بيار: طبعا. المنظمة جاءت بمشرع "حوار" كان الاسم حاضرا والفكرة حاضرة.

أدونيس: كان مشروع مجلة. الاسم لم يكن حاضرا.

بيار: في افتتاحية العدد الأول من "مواقف" وردت جملة يتردد صداها إلى اليوم: "لن يكون هناك موضوعات مقدسة لا يجوز بحثها".

أدونيس: طبعا، هنا المقصود الدين السياسي، الذي كان لا يزال من المحرمات. بناء على خبرتي السابقة في العمل مع يوسف في مجلة "شعر" وما أتاحته لنا من اتصال كبير وواسع مع مختلف شعراء العالم اقتنعت كليا أن العربي لا يمكن أن يُثَوِّر الحياة إذا لم يُثَوِّرْ نفسه أولا. ونحن كان كل تاريخنا الثوري منصبًّا على تغيير ما حولنا دون أن نسأل: من نحن؟ ماذا في أعماقنا؟ ماذا نرث؟ لم نحدث الثورة داخلنا. ولذلك فشلنا في جميع ما سميناه ثورات.

كنت أشعر أننا نحن المسلمين نحاصر الإسلام، نحاصر الدين نفسه! لأن الدين هو نوع من الانهماك في الكشف عن المجهول، وعن مستقبل العالم، وعن مصير الإنسان، وعن وجوده.. أي أن طبيعته الانفتاح على العالم. سؤال أكثر مما هو جواب. الجواب هو التعليمي الشرعي الفقهي، لكن العمق الأساسي في الدين هو التساؤل، وهو الانفتاح، وهو نوع من الثورة المتواصلة كما عَلَّمَنا المتصوفون. ولذلك يستحيل أن نغير مجتمعنا إذا لم نستطع أن ندرس الأسس التي يقوم عليها هذا المجتمع؛ وهي أسس دينية وأسس قبلية فمذهبية. دون البحث في هذه الأسس والكشف عنها كمقدمة لتغييرها وخلق علاقات جديدة بين الأفراد تقوم على القانون وعلى الحس المدني، وعلى الاعتراف بالتعدد والتنوع.. لا يمكن أن تكون لنا ثقافة حقيقية ولا توجد عندنا نهضة.

وبهذا المعنى أسسنا – أنا شخصيا مع رفقاء آخرين- مجلة "مواقف" ويجب أن أعترف أنها كانت ناجحة، وللمرة الأولى – كما أعرف- أن "مواقف" لم تتوقف لسبب مالي.

بيار: هي عاشت 25 سنة، من 1968 إلى 1993.

أدونيس: نعم، لم تتوقف بسبب مالي أبدا، لأن الاشتراكات فيها وعوائد بيعها تكفيها؛ خصوصا مع عدم وجود مكتب لها ولا من يتقاضى أي مرتب. الجميع يكتبون مجانا. 

بيار: لماذا توقفت إذن؟

أدونيس: لأننا لم نستطع الوفاء بعهدنا الذي أشرت إليه. ظلت هناك مواضيع لم نستطع أن نتطرق إليها. وأعتقد أن هذا خلق لدينا نوعا من الخيبة واليأس.

على سبيل المثال إذا بحثنا في عدد – وهذا ما حاولنا أن نخطط له- "ما القيمة المعرفية اليوم للوحي" لن يكتب أحد، أو يندر من يكتب. لا أظن أحدا سيتجرأ على الكتابة الحقيقية أو الجواب الحقيقي عن هذا السؤال.

وكذا لو طرحنا سؤالا آخر: "ما العلاقة العَقَدِية نصيا بين التوراة والقرآن، وكيف نحلل هذه العلاقة".

استنادا إلى التجربة مع عدد المرأة بدا لنا أننا إذا كانت قضية المرأة لا نستطيع أن نخوض فيها بحرية كاملة فكيف نستطيع الكتابة عن مثل تلك القضايا!

وأنت تلاحظ حتى الآن أنه ليس هناك أي سؤال معرفي حول النص الديني في الفلسفة العربية. كيف تنتج فكرا فلسفيا أو معرفة إذا لم تناقش الأصول التي أنتجت المعرفة في ثقافتك؟

هذه الأشياء هي التي دعتنا إلى إيقاف المجلة.

altبيار: في جانب آخر هو السياسة بالمعنى الفكري الأنبل للكلمة؛ خلافا لما كان مستبعدا في مجلة "شعر" نلاحظ في الافتتاحية الثالثة: "الثوري العربي يحاصره عَدُوَّانِ: خارجي مستعمر متطور، وداخلي متخلف وطاغية. الثورة العربية تصبح ثورة حين تكون انتصارا كاملا على العدو الخارجي والداخلي، وحين تكون تغييرا شاملا وجذريا لبنية المجتمع العربي".

هذا الكلام لم يكن موجودا في "شعر".. كان ممنوعا؟

أدونيس: كان ممنوعا. ثم إن ما هنا عامٌّ، لا يحدد.

بيار: ويضع التحدي في ملعب الثوري نفسه.

أدونيس: تماما. لم يُمنع؛ بل سُمح بنشره. كل ما هو عام لا يحدد ولا يدقق ولا يسمي الأشياء يمكن أن يسمح بنشره اليوم في العالم العربي.

بيار: لكن لم تكن لديكم مشكلة الرقابة ببيروت في تلك الفترة.. هل كانت الرقابة صارمة؟

أدونيس: لا، في بيروت لم تكن لدينا أية مشكلة.

بيار: مشكلة التوزيع بعد ذلك؟

أدونيس: مشكلة التوزيع في الرقابة العامة الموجودة في البلدان العربية.

فيديو

فيديو

فيديو

فيديو

فيديو

فيديو

فيديو

الآن في المكتبات

فيديو

المتواجدون الآن

حاليا يتواجد 1 زائر  على الموقع