لوعة غياب جديد.. أو ذكريات من زمن آخر! (ح 1/ 2)
الجمعة, 14 ديسمبر 2012 08:40

 

altكان ذلك في ضواحي المذرذرة. وفي ضاحيتها الشمالية الغربية تحديدا. أما الزمان فربيع سنة 1959.. وما أدراك ما ذلك الزمان؟!

كان الناس قد أغيثوا خمس عشرة سنة متتالية بعد "الشدة" والقحط فاهتزت الأرض وربت وأخصبت، ونمت فيها المواشي ووفرت، وانتعش الكون بعد الحربين العالميتين المدمرتين وازدهر، وبدأت أحياء البدو الرحل تنبت كالفطر هنا وهناك على  أساس الأفخاذ

والقبائل والنشاط الرعوي، ونشأت هجرة مضادة من "اروامد" إلى الأحياء الجديدة حيث يتوفر الشاي والدخان ومارُ (الأرز) وتبدلت مائدة الطعام تدريجيا فحل الأرز (مارُ) واللحم والدهن محل الذرة والهبيد (اشركاش) واختفت أنواع أخرى أكثر شعبية وأقل طعامية ليحل محلها الفول السوداني و"لكسور" ودقيق الخبز المجفف إلى جانب التمر والقديد، فأصبحت الحياة هنيئة ورغدة، والأبدان صحيحة ومعافاة، والنفوس مطمئنة وجذلى، والشمل مجتمعا. ولم تكن الفوارق الاجتماعية كبيرة بين الناس - كما هي اليوم- بل ظلت على ما كانت عليه من التقارب زمن المجاعة، وذلك بسبب ضعف التراكم من جهة، واندماج الغالبية في نشاطات الرعي والزراعة وجني الصمغ وتجارة المفرق في السنغال. وقد وثق بعضهم ذلك في مرحلة متأخرة بقوله:

 

ما رينا طاري فرق اكبيـر    كون الغني عاد ابـدارُ

وإعـدل "مار" والفقيــــــر    ابـــدار وإعــدل "مارُ"

 

... وحدها بعض النذر باتت تؤرق قلة من الناس يتداولونها همسا: هجرة الأمير المحبوب محمد فال ولد عمير إلى المغرب يقتفي آثار سلفه اعلي شنظوره وصيرورة الإمارة والسبخة معا لابن عمه الأمير احبيب ولد أحمد سالم، "تكّـل" استقلال السنغال واتحاد مالي، المختار ولد داداه وولد حرمه والنهضة!

 

وإن ينس لا ينس أن العابر من مدينة لگوارب (روصو) قادما منها أو من السنغال قاصدا أهلا ببادية "گنار" احتملوا – كغيرهم- قاصدين تيرس عبر "لمناحر" و"ابير المعزوز" و"تنجغماجك" ثم "لبيرات" فـ"آوكار" فـ"آمساگه" فـ"إنشيري" فـ"آدرار"... تظل تتراءى له الخيمة في الخيمة والقطعان تلو القطعان غنما وبقرا وإبلا وظباء وغزلانا.. والظعن إثر الظعن حتى يصل إلى "غشوات بكافه" حسب مشاهدته هو (وكانت "الغشوات" آخر نقطة وصل إليها وهو ابن "الگبله" و"آسكر").. والوهاد و"السباخ" ملأى بمياه المطر العذبة، أما التلال والتلاع التي نراها اليوم عارية حمراء كالدمل فكانت ترتدي حللا خضرا يزركشها الزهر وتتخللها عناقيد الفواكه البرية، بينما تغرد الطير سيمفونيات عذبة تبذ موزار وبتهوفن.. ولا يماثلها غير صداح نايات الرعاة التي تعزف ألحان الخلود في بيئة بكر متصالحة ومتكاملة! ويتواصل المشهد حتى أقاصي تيرس في تخوم الحدود المغربية والجزائرية!

... ونغمة الناي والقطعان راتعة     بين المروج.. وبين الطلح والدوم

من معشر من بني حسان دارهم     لورين صيفا وإن شاموا ففي شوم

غلب غطارف كالصحراء دينهم     حفظ الذمـار وإنصـاف لمظلــوم.

 

كانت مواقيت "رحلة الشتاء والصيف" قد خضعت في أرضه (أرض البيظان) لناموس ينسجم مع فصول المناخ وغايات الانتجاع.. خاصة أن علاقة البيظان بالمدينة يومئذ كانت محدودة جدا، حيث لم تكن تتجاوز في بداياتها اقتناء اللباس والشاي وبعض الحبوب. بينما يتمتع الحي فيما سوى ذلك بالاكتفاء الذاتي طيلة السنة!

وهناك رحلات أخرى خاصة بفئة الشباب؛ أبرزها تلك التي تقود إلى المحظرة (وفي محيطه كان الشباب يرتاد محاظر أهل المحبوبي وأهل فتى وأهل ألمّا) أو التي تنتهي بتعلم وممارسة تجارة المفرق في السنغال، وفي مدن لساطور واندر وكيص وداكار وكولخ خصوصا! أو هذه التي:

 

تطيع هوى الغواني والأغاني      ومكنون المدامة والنديم

* * *

في سنة 1958 تم حفر بئر "تگرمن" فاستقر بها حيهم بعد إقامات قصيرة بـ"تنبراره" و"المنار" و"انبيكه" التي مكنت فترتها من تعزيز الأواصر السرمدية بين حيهم وأهلها الكرام. يومها كان السيد محمدٌ ولد بونه ما يزال على قيد الحياة، متربعا على عرش سيادة قومه.

وكان صاحبنا والمختار بن حمينّ متخصصين في ترويض بعض صغار الدواب عند البئر!

* * *

ازدهرت تگرمن أيما ازدهار! وكذلك بعض الحواضر المجاورة لها والتي حذت حذوها. ولكن ذلك الازدهار كان شكليا ومظهريا وعابرا مع الأسف؛ فالقرية التي كانت تعتمد في حياتها على ركيزتين هما:

* تنمية البقر بصفته يؤمن احتياجات الحي من الحليب واللحم لا غير.

* تموين الحي بحاجياته المتزايدة من البضائع المستوردة.

ويتم التموين كما يلي: أنشئت شركة أهلية تزود الأهالي بحاجياتهم مقابل "بوهات" (أوصال) يجمعها مسؤول الشركة في حقيبته ويتجه بها في نهاية كل شهر إلى السنغال حيث يتمركز مهاجرو الحي وغيره من أحياء المنطقة، وهناك تتحول الأوصال إلى سيولة نقدية يعود بها التاجر إلى روصو فيشتري البضائع المطلوبة ويملأ سيارة من نوع P45يأتي بها تتهادى إلى الحي لثقل حمولتها ووعورة طريقها. وتعود تلك السيارة فارغة من تگرمن وكافة القرى المماثلة، إلا من بعض المسافرين إلى المدينة. وكان - رغم صغر سنه- ينظر إلى هذه العملية بريبة شديدة، ويقول لأهله: "أيمكن أن تستمر هذه الدورة إلى ما لا نهاية: تأتي في كل شهر سيارة ملأى إلى الحي وتعود منه فارغة؟" ثم يضيف: "إنكم إن لم تبادروا إلى تعليم أبنائكم في المدارس العصرية، فستصبحون خدما للمتعلمين كما يخدم أهل والو أهل سنغال"!

وكان لهذه الأفكار البسيطة أثرها البالغ في تطوير شركة "تگرمن" على يد المغفور له السيد محمد سالم ولد السعد حين تجاوزت غاية التموين الشهري إلى خلق التراكم في انواكشوط؛ وإيواء حي تگرمن لمدرسة الأستاذ الفاضل محمدو ولد أوفى بعد أن ضاقت بها بعض المواطن ذرعا.

* * *

وفي ربيع عام 1959 نزلت غير بعيد منهم "نزلة" متجهة إلى الشمال الذي يرتاده الجميع في موسم الربيع (الخريف) انتجاعا لمراعيه الخصبة الطيبة وفرارا من حشرات وأوبئة الجنوب الرطب المعشوشب...

علِم "بكار" الذي يكبره بسنوات بنزول الخليط ولم "يجحده" بل أخبره به، وطلب منه مرافقته في رحلته إليه! فتوجها عصرا إلى المجهول. وهذه هي الانطباعات التي ما تزال راسبة في قاع ذاكرته منذ نصف قرن:

ـ ربة بيت كريمة وبشوشة، رحبت بهما وآوتهما وأكرمتهما.

ـ وفتاة سبحان الذي خلقها: ملك كريم هبط لتوه من جنة الخلد إلى جنة الأرض. وإذا كان جمال تلك الفتاة الذي سارت به الركبان هو الطعم الذي ساقهما في مغامرتهما الصبيانية الخطيرة، فإن ما رأياه - خلافا للمألوف- قد فاق كل ما سمعاه وتصوراه!

 

كانت مساءلة الركبان تخبرنا        عن جابر بن رواح أحسن الخبر

ثم التقينا.. فلا والله ما سمعت       أذني بأحسن مما قد رأى بصـري

ـ لم يطـُل السمر:

كرم ضيافة، وحديث عذب على الشاي، وحظر تجول صارم. رحلة عابرة جعلته يستوعب لاحقا خلاصة الشيخ أحمد بن العاقل عن مجتمع الگبله؛ تلك الخلاصة التي رد بها الشيخ على استنكارات تلميذه العبقري الشيخ النابغة الغلاوي!

 

لكن، أولم يتوصل إلى هذه الخلاصة منذ أكثر من عشرة قرون شاعر عباسي يقول:

بيض حرائر ما هممن بريبة     كظباء مكة صيدهن حــرام

يحسبن من لين الكلام زوانيا     ويصدهن عن الخنى الإسلام

 

وفي الصباح الباكر استأنف القادمون رحلتهم متجهين شمالا نحو نواحي "بلشانه". قوضا معهم الخِيَمَ والأثاث وشاركا في حمله وحمل النسوة والأطفال على ظهور الدواب، ثم ودّعا الظاعنين وعادا إلى الحي!

نزل خبر مغامرتهما البريئة كالصاعقة على فتيات ونساء الحي فانهال عليهما الصدود واللوم والعذل:

 

حسـدا حملنـه من أجلهـا   وقديما كان في الناس الحسد!

 

أحس يومها شعورا غريبا: مزيج من الغبطة والزهو والتحدي؛ وحنين جامح إلى رؤية ذلك الوجه البهي البهيج الصبوح رغم ما في ذلك من مغامرة وخطر وحرج... هل كان يواجه حبه الأول؟ كلا.. فلذلك قصص أخرى. والأمر - فيما يبدو- لا يعدو كونه وقع ضحية نظرة إلى جميل أدت إلى ثورة بركان في نفسه ومُضِيٍّ في اقتحام المجهول، فكانت اللبنة الأولى في اهتمامه بعوالم كانت شبه محجوبة عنه، وتَشَكُّل شخصيته العنيدة.

وبعد يومين أو ثلاثة ركب في نفر من لداته متجهين شمالا في طلاب الظاعنين! كانت هذه المرة الأولى التي يركب فيها في "راحلة" أبيه ويمتطي جمله علنا نهارا جهارا.. ويخرج "غازيا" كالرجال! لقد كانت أولى غزواته نحو القمر!

وفي رحلتهم نزلوا لدى أقرانهم بحي "المحرد". كان "المحرد" يومها في أوج عزه وازدهاره. وكان يقوم على أربعة أركان أساسية شديدة ومجيدة هي: السيدان عبد الفتاح ومحمد ابنا امبيريك، والسيد محمدٌ ولد جدين، والسيد أحمد سالم ولد اندهي شيخ الحي! وبعد مقام طيب في ضيافة أقرانهم من الحي خرج معهم بعضهم في مهمتهم، وكان من بين من خرجوا معهم فتى الزمان سيد المختار ولد امبيريك رحمه الله، وعبد الله وأحمدو يحي ابنا سالم!

انطلق الركب مساء نحو الغِلْفة مقتفيا آثار وأخبار الظاعنين. وفي ليلة خريفية مظلمة نزلوا - بعد أن فاتهم الحي- بحي أهل عبد الوهاب في الغلفة. كانت الغلفة غابة من البشام يفوح عبيرها في كل اتجاه وكأنه نهر ياسمين أو روضة من رياض الجنة. باتوا في أطيب ليلة وألذها في ضيافة الأستاذ الكريم أخيارهم. وفي الصباح عادوا أدراجهم وقد أُخْبِروا بأن الحي الذي يطلبون اللحاق به قد سبقهم إليه "أغيابه"!

مروا بالمحرد من جديد.. ثم توجهوا جميعا إلى تگرمن مرورا بحي أهل حامَّيْ بالمنار حيث نزلوا عند صديقهم أواه وكان حديث عهد بالقفص الذهبي فأكرمتهم السيدة ازغيلينه أيما إكرام. وفي تلك الأيام البهية تأسس "عصر الغالبين"؛ وكان "العامدين" هم "العصر" الذي يليهم، وفوقه "قريش" ثم "الأنصار". ويتقاسم هذان "العصران" يومئذ سيادة الحي وتدبير شؤونه، تحت إشراف من معهم من "الأسياد".

لم ترق الرحلة طبعا لفتيات ونساء الحي اللواتي رأين فيها قِلًى وصدودا ونذير شؤم، وإن كن لا يخفين شماتتهن وقد علمن بفشل وخيبة مسعى الآئبين بخفي حنين! وبدأت الضغوط تنهال عليه ليعتذر عن زلته إرضاء لمن أهدرت كرامتهن وأهينت أنوثتهن، فرضخ في النهاية وقال:

 

تايب لله افكل حيــن     من مشي مان ثابت

أتابول گومي كاملين   وان وأخلاگ تابت

 

كان ذلك أول "گاف" يقوله على الإطلاق! وقاله معتذرا.. فكان الاعتذار - في نظرهن- أقبح من الذنب! فأشفعه بثان لعل وعسى..

 

عدت الخير ألا انگوگي   من متن الليعات

بامنات السيفــات يوگي   بامنات السيفات!!

وفي بداية فصل الشتاء تفرق الأصحاب والأحباب "ومضى كل إلى غايته" فاتجه هو إلى سوق العمل التجاري في السنغال: مدينة سان لويس (اندر) حيث كانت تحتدم إرهاصات عصر جديد! كان المفتش الأفغاني ذو الغليون الكبير السيد عكاري يتحفز للانقضاض على الجهل والتخلف، ويطلق حملته التي تركت بصماتها القوية على موريتانيا الوليدة، وكان يحشد لها العدة: مكتبة مليئة بنفائس الكتب العربية؛ وخاصة تلك التي تعالج فكر النهضة، وسيارة عابرة للصحراء يجوب بها أرجاء الوطن، ومجموعة من المساعدين والرواد المخلصين. وهناك عرَفَ الشيخ جمال الدين الأفغاني ومحمد عبده ومحمد رشيد رضا.. كما عرف شوقي وحافظ والبارودي ...

وفي تلك الأيام شارك مع كوكبة من "المغتربين" في امتحانات شهادة الكفاءة المفتوحة لممارسة التعليم (العكارية) التي دارت بمدينة "لكوارب" وكان من بين هيئة الإشراف والتنقيح الشيخ الشيباني ولد محمد ولد أحمد ورواد آخرون. ولم ينجح رغم استعطافه للهيئة ببيتين أولهما:

مقر بالجهالة غير أني    صغير السن أعذر في كثير

وكان من بين من شاركوا معه في تلك السنة الراجل ولد أحمد سالم والمصطفى ولد بونه -رحمه الله- وانما ولد الشيخ. بيد أنه كر في السنة الموالية 1960 فنجح باسم "محمد سامي" الذي كان يوقع به. وكانت موضوعات المسابقة شيقة جدا، وواعدة بالنهوض، وهي:

ـ مناقشة وتحليل قول الإمام علي بن أبي طالب كرم الله وجهه: "لا تقسروا أولادكم على تربيتكم فإنهم مخلوقون لزمن غير زمانكم".

ـ مناقشة وتحليل البيت التالي:

 

قـم للمعلـم وفه التبجيـلا      كاد المعلم أن يكون رسولا.

* * *

فيديو

فيديو

فيديو

فيديو

فيديو

فيديو

فيديو

الآن في المكتبات

فيديو

المتواجدون الآن

حاليا يتواجد 10 زوار  على الموقع