أدونيس: هذا هو اسمي (ح 1)*
الجمعة, 27 أبريل 2018 07:11

 

"العادة والألفة هي ما حجب عنا الطبيعة"

altتقديم

في هذه الوهدة العميقة العابرة من عمرنا الحضاري.. حين استقالت الثقافة، ونام الأدب في دواليب قوالب وقيود اجتماعية ومخزنية جامدة ومهترئة ومتآكلة، وعانت القصيدة من طول ليل قيامتها، وصارت العمالة والسفالة مجرد وجهة نظر يعبَّر عنها بحرية مطلقة؛ ها هو الأديب والكاتب بيار أبي صعب يمتاح لنا من معين الشاعر والمفكر العربي المجدد أدونيس ومضات مشرقة نرجو أن تصعق قلوب وعقول مَن مِن الناشئة لم يتلوث بعد ويصب بطاعون الانحطاط، علهم يسهمون في بعث أمتهم الجاثية والبشرية جمعاء التي تعاني من وطأة هذا الليل المدمر:

"ماذا، إذن تهدم وجه الأرض

ترسمُ وجهاً آخراً سواه؛

ماذا إذن ليس لك اختيار

غير طريق النار

غير جحيم الرّفض

حين تكون الأرض

مقصلةً خرساء أو إله".

وسوف نبدأ تفريغ ونشر هذه الومضات تباعا في حلقات؛ لعل وعسى...

إدارة الموقع

بيار أبي صعب: ليس سهلا على أي محاور أن يجلس في مواجهة مبدع ومفكر كبير، قيل عنه إنه بطرك الحداثة، وهو في مشروعه وسلوكه مقوض لعرش الأبوية من أساسه.

إنه مهيار الدمشقي.. أسطورة حية، أحد أهم الشعراء والمفكرين العرب، لكي لا نقول أكثر، ومن أبرز قارئي التراث العربي وباعثيه. ولعله أشهر مؤسسي الحداثة الشعرية ومنظريها.

هناك شعور بالرهبة في حضرتك أدونيس.. لكننا سنحاول أن نكسر تلك الرهبة. سنحتال عليها بالرغبة.

أهلا بك على "الميادين" وشكرا لأنك قبلت المشاركة في هذه السلسلة. عساها تتسع لتجربتك الشعرية المديدة والفريدة، ولأفكارك السجالية، ولرحلتك العلمية الموغلة في تاريخنا الأدبي والثقافي والروحي، ولأدواتك المعرفية المحصنة بإنجازات العصر، ولمسارك الخصب والصاخب في آن، ولأفكارك الطليعية التحررية الجريئة، ولخطابك العقلاني النقدي الشامل.

وأخيرا عساها تتسع لنظرتك القاسية غالبا إلى واقعنا المأزوم. لكن تلك النظرة المتشائمة نراهن على أن تنقلب استفزازا لنا، وتحريضا من أدونيس – كدأبه دائما- على العصيان والاجتهاد على الفهم والتجاوز. أولست القائل قبل نصف قرن ونيف:

ماذا، إذن تهدمُ وجه الأرض

ترسمُ وجهاً آخراً سواه؛

ماذا إذن ليس لك اختيار

غير طريق النار

غير جحيم الرّفض

حين تكون الأرض

مقصلةً خرساء أو إله.

هذه القصيدة أنشئت قبل 57 سنة، فقد كتبت أواخر الستينات ضمن ديوان "أغاني مهيار" هل كنت ستطلق هذه الدعوة اليوم من جديد؟

أدونيس: أولا يسعدني كثيرا – عزيزي بيار- أن أتحاور معك، ويسعدني كثيرا أيضا أن يكون هذا الحوار على شاشة "الميادين".

عند ما سمعت هذه القصيدة التي كتبتها منذ أكثر من نصف قرن استحضرت في ذهني مثل هذا السؤال. أظنني كنت أوغل أكثر في صيغة السؤال.

بيار: ولكن الرفض يظل هو المنهج؟

أدونيس: أعتقد أني أضع للرفض إطارا أوسع مما يبدو فيه شبه محدد أو محددا.

بيار: هل ضاق اليوم هذا التطلع إلى تجاوز هذا التطلع إلى التمرد؟

أدونيس: القدرة على السؤال – كما يبدو- ضاقت، لكن إمكانية طرح الأسئلة اتسعت، ولذلك ضاقت القدرة. نحن في حياتنا العربية وفي تطورنا وفي تجاربنا نختلف كثيرا كما يبدو، كما تقول التجربة عن معظم الشعوب، بحيث كلما اتسعت المشكلة كلما حاولنا أن ننكفئ عن طرح الأسئلة حولها، وهذا سر لم أكتشفه بعد. لماذا؟ لا أعرف!  

بيار: هل يمكن أن نرجع قليلا إلى طفولتك؟ أنت لم تكن مهيأ من ناحية الولادة الريفية الفقيرة لكي تسلك هذا المسار الجميل الذي أخذك إلى العالمية، وإلى النجاح، وإلى الشهرة. ألا تغمض عينيك في لحظات مواجهة مع الذات وتقول: هذه القصة جديرة بكتب قصص الساحرات التي يقرؤها الأطفال؟

أدونيس: أنا أحيانا لا أصدق ما حدث لي. وحدثت لي أشياء بعد ذلك جعلتني أقول: يمكن أن تكون حياة الإنسان قائمة على بعض المصادفات التي هي نوع من الحظوظ. أنا نفسي قد لا أصدّق الآن أن طفلا عمره 13 سنة عام 1943 حين استقلت سوريا وقرر رئيس الجمهورية الأول شكري القُوَّتْلي أن يزور المناطق السورية لكي يتعرف على سوريا وشعبها.. كيف يمكن طفلا عمره 13 سنة أن يفكر في كتابة قصيدة؛ علما أنه لم يدخل المدرسة فيما مضى من حياته - مدرستي كانت في البيت.. أبي هو الذي علمني الشعر العربي- ويقول: سألقي هذه القصيدة أمام رئيس الجمهورية، فيسألني ماذا أستطيع أن أقدم لك يا بني؟ فأقول له: أريد أن أدخل المدرسة وأتعلم. وهذا ما حدث حرفيا! أنا لا أصدق ذلك. كيف؟ لا أعرف!

بيار: طيب.. كنت قادرا على أن تكتب قصيدة موزونة بالتمام دون خلل؟

أدونيس: كنت أعرف الشعر العربي معرفة قوية جدا. أبي علمنيه ودرّسني التصوف. لم أعرف أبي إلا بعد وفاته. بعد أن مات بدأت أتعرف عليه بفعل التذكر. كيف كان يعاملني؟ مثلا لم يقل لي مرة واحدة: افعل هذا وهذا لا تفعله. كان يقول لي دائما ضمن حدود الأطفال والحياة القروية: القرار سهل يا بني، بإمكان أي أحد أن يقرر، لكن المهم أن يدرس الأمر قبل أن يقرره. افعل ما تشاء، لكن عدني أنك ستفكر في الأمر الذي تقرره. وبهذا أنقذَني ووجّهَ لي حياتي.

طبقت هذا المبدأ مرة على ابنتي أروى؛ جاءتني مرة تريد الدخول في حزب أثناء دراستها بكلية الآداب، في قسم اللغة الفرنسية، قلت لها: أوكي.. بإمكانك الدخول في أي حزب، لكن خالطيهم أولا وانظري أخلاقهم والفرق بين سلوكهم وأفكارهم ثم قرري ما تشائين. بعد حوالي أربعة أشهر عادت وقالت: عدلت عن الدخول فيه. لا أريد تسمية الحزب الآن.. وهكذا.

اكتشفت أن أبي كان صديقا أكثر مما كان أبا، والصداقة بين الأب والابن صارت جزءا أساسيا من حياتي.

علمني شيئا آخر: حينما قررت إلقاء قصيدة أمام شكري القوَّتلي قال لي: أنا لا أستطيع أن أحضر الاحتفال، لأني سياسيا ضد الشخص الذي ينظمه، فإذا شئت الحضور لم أقل لك: لا، ولكن كن على بال من أني لن أحضر شخصيا.

ذهبت إلى الاحتفال وبقي هو في البيت وحين رأتني السلطات المحلية هناك سأل زعيمها من هذا الولد؟ فقالوا: هذا ابن فلان قال لهم، وأنا أسمعه: اطردوه.. لا أريد أن أراه. وطردوني وذهبت إلى مكان آخر وألقيت منه القصيدة.

altبيار: بعد كل هذه التجربة صرت الشاعر الكوني، وأنت تحكي عن ثلاث ولادات لك: الطبيعية، والثقافية في بيروت، والكونية في باريس، غريب أنك تعود فتنظر إلى هذا المحل الأول. أذكر أنك في حوار أجرته معك ابنتك الفنانة نينار أسبر، وصدر عن دار الساقي باسم "أحاديث مع والدي أدونيس" وهو حلو جدا.. أذكر أنك بدل أن تحب المحل الذي أعطاك وعشت فيه ونلت مكانتك، تطلعت في آخر العمر إلى أن ترجع لمكان الطفولة!

أدونيس: لأن الشيخوخة طفولة ثانية، أو هي عودة الطفولة. أنا خصوصا شخص لم يعرف الطفولة أبدا، فمنذ ولادتي عشت في الحقل، واشتغلت بيدي وزرعت..

بيار: فلاح..

أدونيس: فلاح تماما. لم أعرف الطفولة، الآن صرت أتذكر أيامي الأولى وأتذكر طفولتي.. إذا سميتها الطفولة! والآن أحس أني موجود هناك، فجذري الأساسي الذي أوصلني إلى ما وصلت إليه لا معنى لي إذا لم أكن جزءا من وجوده. وكثير من الشعراء تمثلوا بهذا؛ أن الإنسان هو الأرض التي مستها خطواته الأولى. الشجرة إنسان آخر، تفهم الإنسان. تفهمه الوردة. ما معنى الوردة؟ ما معنى نبع؟ ماء ينزل من صخرة تتحدث إليه وتسأله ما اسمه؟ هذه المادة السائلة المسماة ماء شيء مذهل يفكر بأشياء في وقت واحد ولا جواب عنده، لكن العادة والألفة هي ما حجب عنا الطبيعة.    

____________

* نقلا عن قناة الميادين.

فيديو

فيديو

فيديو

فيديو

فيديو

فيديو

فيديو

الآن في المكتبات

فيديو

المتواجدون الآن

حاليا يتواجد 1 زائر  على الموقع