من الأرشيف
| ستة دروس من محنة الوطن |
| الثلاثاء, 17 أكتوبر 2017 07:54 |
|
ولما لم تتحقق أمانيهم، لجؤوا - مع الأسف الشديد - إلى أساليب أقل فروسية وشهامة، فاستمرؤوا مرتع الشائعات المغرضة.. لعل وعسى! منهم من زعم أن رئيس الجمهورية قد دخل في غيبوبة، وأصبح عاجزا عجزا نهائيا عن ممارسة مهماته. ومنهم من أكد موته السريري، وشغور منصب الرئاسة، وبدء مشاورات بين "الطيف السياسي" بغية تنظيم مرحلة انتقالية أخرى. وأن السفارات الغربية طلبت من رعاياها عدم الخروج. وأخيرا وصلوا إلى قمة الإرجاف والتهريج فقالوا بوقوع انقلاب عسكري! وعندما تبددت تلك الأوهام والشائعات على صخرة الواقع العنيد، لم يكلفوا أنفسهم عناء البحث عن أسباب فشل هذا النهج، أو يقفوا وقفة تأمل وتمحيص؛ بل عادوا - وكأن شيئا لم يكن - إلى حضن "المعارضة الديمقراطية" و"الأغلبية" و"الأحزاب" و"الإعلام الحر" والعبد، و"المجتمع المدني" و"الشارع" محذرين من "محاولات الاستيلاء على السلطة بالطرق غير الديمقراطية" ومطالبين بـ"التحقيق" و"ملء الفراغ" و"صيانة الدستور" و"الحوار" و"حكومة ائتلافية" الخ.. في انتظار أن تسنح فرصة أخرى للإرجاف والصيد في المياه العكرة! واليوم وقد بدأت المحنة تنجلي، ويتنفس الناس الصعداء بعد أن اطمأنوا على تقدم صحة رئيسهم، وتأكدوا من زيف الشائعات المغرضة التي استهدفت زعزعة نظام وأمن وطنهم في الصميم، فإن من الضروري استخلاص بعض الدروس التي من شأنها أن تنير المشهد الوطني. ومن بينها ما يلي: 1. أن معركة استقلال وبناء موريتانيا التي استمات في سبيلها الرئيس المختار ولد داداه وصحبه، وحركتا 6 إبريل و16 مارس، وكانت وقودَها مختلفُ الانتفاضات والحركات المدنية والعسكرية التي عرفتها البلاد، والتي يقودها في شكلها الجديد الرئيس محمد ولد عبد العزيز وصحبه، تجتاز اليوم منعطفا حاسما يتميز باحتدام صراع داخلي وخارجي لا هوادة فيه حول بقاء البلاد وضمان سيادتها واستمرار تمسكها بالنهج الصحيح الذي رسمت معالمه المعاصرة حركة 3 أغسطس 05 (انظروا "أزمة الحكم في موريتانيا"). وإن احتدام هذا الصراع المصيري هو ما يفسر شراسة دعاة الردة والنكوص، واعتداءهم على كافة الرموز الوطنية وفي مقدمتها رئيس الجمهورية، وتجاوزهم كل الخطوط الحمراء في التعامل والعلاقات وفي الخطاب السياسي، لحد كسر العظم! فإما أن تنجح وتنتصر مسيرة الاستقلال وإعادة التأسيس والإصلاح والتحديث؛ أو أن يقلب المفسدون الأوضاع ويعيدوا عجلة التاريخ إلى الوراء فيكرعون ويمرعون ويعيثون في الأرض فسادا كما كانوا يفعلون خلال العقود الثلاثة الماضية. وبعبارة أخرى، فإن السؤال الذي تطرحه هذه المرحلة هو هل ستنتصر سلطة الدولة وروحها ومؤسساتها في بسط نفوذها على سلط المال والأعمال والجماعات والفرق القبلية والجهوية والعرقية والمافيوية فتُخضِع الجميعَ لاتِّبَاع نهج مستقيم يتمتع فيه كل طرف بحقه ومكانته دون أن يعتدي ويطغى على الآخرين ويبتلعهم؟ أم إن تلك القوى - ومن ورائها الحلف الاستعماري الصهيوني- هي التي ستنتصر وتبسط سلطانها المقيت على الدولة والأمة وتعيد العمل بالجمع بين الأختين (السلطة والمال) وإدارة السفارات الغربية للشأن الموريتاني، ورفرفة العلم الإسرائيلي على ربى شنقيط من جديد؟
2. أن موريتانيا الاستقلال والإصلاح والتحديث قد قطعت شوطا بعيدا في توطيد وممارسة الحياة الديمقراطية. فبالإضافة إلى إطلاق كافة الحريات، وخلو السجون من أي نزيل رأي، وتحرير الفضاء السمعي البصري وغير ذلك من الإنجازات الوطنية والديمقراطية، فإن مؤسسات الدولة الموريتانية - سواء منها تلك "المنتهية صلاحيتها" و"الشاغرة"- قد برهنت خلال هذه المحنة على أنها أصبحت حقيقة واقعية لا مراء فيها؛ إذ لم تزلزلها الأحداث أو الأراجيف، فظلت تواصل عملها المعتاد بجد وإتقان عموما. ومن هنا نستطيع أن نستنتج: أ. أن الفراغ الذي تحدث عنه بعضهم إنما هو فراغ ذاتي ووهمي سينهار كل ما أسس عليه كما انهارت شائعات الشماتة والتشفي والانقلاب العسكري. ب. أن المسيرة الإصلاحية في موريتانيا ماضية لا رجعة فيها أحب من أحب وكره من كره. ماضية بقائدها الذي يتماثل للشفاء وسيعود قريبا إلى وطنه وشعبه ومنصبه ومشروعه الإصلاحي، وماضية بدونه ومنتصرة في حالة ما إذا منعه مانع لا قدر الله (وهو بشر) أو في حال انتهاء مأموريته. ذلك أنها قد انطلقت على أسس متينة تضمن لها البقاء والاستمرار، وتعتمد على إرادة ودعم شعب ذكي ووفي وكريم، ومن سنن الكون استمرار الرسالات التي تنفع الناس بعد ذهاب أصحابها، ولن يكون الموريتانيون أول كافر، ولن ينقلبوا على أعقابهم. لقد وضع الشعب الموريتاني المتصالح في دستوره العظيم معالم وأسس تنظيم الحكم والتناوب على السلطة، وبدأ يبني مؤسساته، وقامت حكومته الوطنية بإصلاحات كبرى من بينها: إعادة بناء وتسليح الجيش، وانتهاج سياسة خارجية وطنية غسلت عار التطبيع وأعادت موريتانيا إلى مكانتها المعتبرة في محفل الأمم، ومحاربة الفساد والتزوير، وضبط الحالة المدنية والحدود، وإنهاء التهميش والحرمان، فبدأ الماء والكهرباء والطرق المعبدة والمعرفة والدواء والغذاء تعرف طريقها إلى الأحياء المنظمة في المدن والأرياف بعد أن كانت "كبات" وجحورا منسية... ولن يقبل الشعب بعد اليوم أن تتعثر أو تتوقف هذه المسيرة مهما كانت الظروف.
إن ما لم يفهمه دعاة الانقلاب "المدنيون" حتى الآن هو أن الجيش الوطني الموريتاني أصبح مختلفا اختلافا جوهريا عن جيوش الماضي العشائرية المهزومة التي كانوا يستعبدونها ويجوعونها ويجردونها من السلاح ويتركونها فريسة للعدو. إن جيشنا اليوم قوي بوحدته وانضباطه وولائه للوطن، ويملك زمام أمره، ولديه السلاح والعتاد، وكذلك العيش الكريم. إنه المؤسسة الوحيدة التي تحمي حمى الوطن وتضمن وحدته وسلامته وأمنه واستقراره. وهذا أحد أسرار استهدافه، وما يروج حوله من طرف كل طامع داخلي أو خارجي في زعزعة البلاد! فتحية وإجلالا واحتراما وعرفانا إلى جيشنا الوطني البطل! 4. أن الشعب الموريتاني قد برهن على وعيه، وتعلقه بقيادته الوطنية، وتمسكه وتشبثه بمكاسبه. وقد تجسد ذلك في ما أظهره الشعب من تعاطف ومساندة لفخامة الرئيس في محنته، وتسقطه لأخباره أولا بأول رغم شحها، وتقديره العالي للموقف الوطني المسؤول الذي تبنته المعارضة في البداية، وصدوده واشمئزازه من خطاب وشائعات وتربص المرجفين؛ الشيء الذي ترك بصماته على كافة التحركات والتجمعات المناوئة، والتي لم يتجاوز حضور بعضها العشرات. 5. أن هذه المحنة برصاصها و"أرهاصها" قد تساهم في بلورة الوضع السياسي والاجتماعي والثقافي الذي ظل غامضا ومرتبكا طيلة سنوات. لقد أصبحت مقولة "اختراق المفسدين لصفوف كل من الموالاة والمعارضة وهيمنتهم عليهما" واقعا ملموسا يتردد على ألسنة المحللين والكتاب وتنقله جميع وسائل الإعلام بعد أن كانت تلك المقولة مثارا للسخرية والجدل. (ينظر مقال "كفانا مجاملة" للأستاذ محمد السالك ولد ناجم على سبيل المثال) وسوف يؤدي أداؤهم في هذه المحنة لا محالة - إن عاجلا أو آجلا - إلى تمايز وتبلور المشهد السياسي على أساس المصالح، وإلى غربلته حتى يُعلم المفسد من المصلح.
6. أننا مجتمع بلا إعلام، رغم ما بذل من جهد في سبيل إصلاح هذا المرفق الحيوي. الأمر الذي يحتم تدارك الإعلام حتى لا يظل - في معظمه- أداة تسول ومدح وهجاء وترويج يعيش عليها بعض المحترفين، وسلاحا بيد المرجفين (الذين يدفعون أكثر) تدعمه الدولة فلا تجني من وراء ذلك سوى الخسران. وإن كان الخاسر الأكبر: الحقيقة الضائعة، وبعض الفئات الاجتماعية التي أحالتها المنافسة غير المشروعة إلى التقاعد دون معاش! نعم لحرية الصحافة! ولكن لا لفساد الإعلام وفقدانه للمصداقية، لا لأن تصبح الصحافة أداة تضليل بدل أن تكون أداة إعلام وتنوير وتحليل! نعم للرقابة والمحاسبة وسيادة القانون! لا للتملص والإفلات من العقاب! ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ * الرسم لموقع "تقدمي" |
