انقلاب الثالث من أغسطس: طبيعته، وآفاقه المنظورة..
الجمعة, 07 أغسطس 2015 07:47

 

altينبغي، لوضع انقلاب الثالث من أغسطس في إطاره التاريخي، أن نتذكر - بادئ ذي بدء- أن الجيش الذي استولى على السلطة في العاشر من يوليو سنة 1978 اتخذها غنيمة سائغة، ولم يبرح ساحتها أبدا، إلى يومنا هذا. وما مختلف العهود والفترات (ولد محمد السالك، المرحوم أحمد ولد بوسيف، ولد أحمد لولي، ولد هيداله، وولد الطايع) التي تتايعت خلال العقود الثلاثة المنصرمة - بما فيها عهد "ديمقراطية" العسكرالمزعومة- سوى طبعات طبق الأصل من نظام عسكري مقيت، تم فرضه بالقوة.

كما يجب أن نتذكر كذلك، أن انقلاب العاشر من يوليو، لم يطو النظام المدني الشرعي، بحسناته وسيئاته، فحسب؛ بل حمل إلى كرسي الحكم أيضا يمين الطبقة السياسية التي حكمت البلاد منذ الاستقلال. فالتحالف الذي دبر الانقلاب، وشكّل العمود الفقري للجنة العسكرية وحكومتها، إنما تكوّن أساسا من "حزب العدالة" اليميني، ذي الجذور العشائرية، الذي انشق عن حزب الشعب في زمن الميثاق، وعارض سياسة الإصلاح، والوحدة الوطنية، والابتعاد عن الاستعمار؛ ومن بعض الضباط العشائريين؛ وبعض الضالعين في الفضائح المالية التي ظهرت إبان الحرب، وكان التستر عليها من بين دوافع الانقلاب.

ويوما بعد يوم عززت تلك الفئات سيطرتها على الحكم، وصفّت من لا يلائمها من حلفاء الطريق، من الفئات الوسطى، الذين رافقوها أثناء سلسلة الانقلابات المتلاحقة، لتكرس - في النهاية- سيطرتها التامة على الدولة غداة 12/12/84 وما بعدها، وتقيم نظاما عشائريا بوليسيا عنصريا فاسدا، يناسب طبيعتها الرجعية، سرعان ما انضوى تحت لواء الاستعمار والبنك الدولي، وقايض الثروة الوطنية بالفُتات، وتمسّح بمسوح الديمقراطية والليبرالية، واستظل بالمظلة الأمريكية، واحتضن إسرائيل، وأعلن الحرب على الإسلام!

وإن ننس، لن ننسى - رغم ما نتهم به من ضعف الذاكرة- مدى عمق المأساة التي حلت بشعبنا ووطننا إبان تلك الحقبة السوداء من تاريخنا؛ حين عم الفساد، وانتشر البغي والقمع، وتلاشت الدولة، وانهار الاقتصاد، وانحسرت الثقافة، وتبدلت القيم غير القيم، وكاد الوطن أن يتفكك ويزول؟

يومها لم تستطع المعارضة المتاحة وقف الكارثة المحدقة، رغم محاولاتها السلمية المتكررة، وتعريتها للنظام من كافة مسوحه؛ وذلك بسبب ما عانته من حصار، واختراق، واضطهاد، وتشرذم. فاتجهت الأنظار إلى الجيش، بوصفه القوة الوحيدة القادرة على سحب الحصانة التي اغتصبها رأس النظام لنفسه باسم تلك المؤسسة الوطنية، وعلى تخليص البلاد من الحكم العسكري الذي ثبت فشله بصورة صارخة، وإرجاعها إلى جادة العصر: دولة المؤسسات التي تنعم بالوحدة الوطنية، والمساواة، والنهوض، والتقدم.

ومن هنا اكتست حركة الجيش ـ ربما لأول مرة ـ في هذا الظرف الاستثنائي، مشروعيتها، وأهميتها التاريخية؛ سواء في ذلك التمرد الفاشل الذي فجره "فرسان التغيير" يوم 8 يونيو 03 والانقلاب الناجح الذي قاده أبطال "التغيير في ظل الاستقرار" يوم 3 أغسطس 05.

فما هي طبيعة انقلاب الثالث من أغسطس، وإلى أين يتجه، وما هي آفاقه؟

بعد السياق الذي تقدم، لا يوجد شك، وقد انصرمت سنة من عمر ذلك الحدث التاريخي المهم، في أنه، وإن كان في شكله من فصيلة الانقلابات العسكرية التي عرفتها البلاد منذ العاشر من يوليو، فإنه يختلف عنها في جوهره، بنبل مقاصده الكبرى، وسلامة أهدافه المعلنة، وصرامة قادته في إنجاز رسالتهم الوطنية العظيمة بحياد؛ ألا وهي: إنهاء الحكم العسكري الاستثنائي، ونقل السلطة بصورة ديمقراطية شفافة إلى الشعب، وإرجاع الجيش إلى ثكناته درعا للأمة. وهذا لعمري عمل تاريخي جليل يذكر لأصحابه ويشكر.

وفي الاتجاه المعاكس، يبدو أن الحدث - فكرا ورجالا- منبثق من رحم النظام الجمهوري العاثر:

أ. انتقى جل رجاله ووكلائه من الصفوف الأمامية في الحزب الجمهوري.

ب. لم يحلّ ذلك الحزب الذي هو بؤرة الفساد وعنوانه الثابت؛ والذي يمثل بقاؤه، يصول ويجول، خطرا داهما يهدد العملية التاريخية برمتها.

ج. أعلن شعار "تعامينا عمّا سلف" وملحقاته؛ الشيء الذي لا يحمي لصوص الأمس فحسب؛ بل يشجع – أيضا- جميع اللصوص، القدماء والجدد، على التمادي والمواجهة، ويقوض شعار "الحكم الرشيد" الذي لم يعش سوى أيام، عادت بعدها حليمة لعادتها القديمة. وإن كان كل ذلك - على خطورته- لا ينفي صفة التقدم، والوطنية، والإصلاح، عن الثالث من أغسطس ورجاله.

لذلك، لا ينبغي أن ننتظر من السلطة الانتقالية ما لا تستطيع عمله؛ فقصارى جهدها (في غياب وعي شعبي يتجاوزها، وحركة سياسية قوية تقود البلاد بنجاح إلى الأمام) أنها أطاحت بالطغيان دون إراقة دماء، وشجبت الفساد، ووضعت آلية للتناوب وتنظيم انتخابات أكثر شفافية.. وفيما عدا ذلك يجوز لنا القول: ذهب رأس النظام وثلة من حاشيته، وبقي النظام.

وخلاصة القول: إن انقلاب الثالث من أغسطس ليس انقلابا رجعيا يكرّس الاستثناء، وعبادة الأصنام، كما انقلابا 1978 و 1984 ولا هو انقلاب ثوري كما "ثورة 23 يوليو" في مصر؛ بل هو عملية وطنية إصلاحية، ولدت من صلب النظام، وترعرعت في أحشاء القصر.. ولها أمثلة عديدة في التاريخ!

وعلى ذكر الانقلاب الذي تحول إلى ثورة في مصر؛ فإذا كان علي ماهر باشا - رئيس أول حكومة في ذلك العهد- قد صرح، من فراغ، وهو يقاوم ذلك التحول قائلا: "إذا كانت هناك ثورة فقد انتهت" فإن رئيس وزراء الثالث من أغسطس، لن يحتاج إلى مثل ذلك التصريح؛ لأنه لم تكن هناك ثورة أصلا، يوم الثالث من أغسطس، حتى تنتهي!

 

نشر في جريدة "السفير" العدد 370 الأربعاء 20 /9/ 2006

(من كتاب حتى لا نركع مرة أخرى)

فيديو

فيديو

فيديو

فيديو

فيديو

فيديو

فيديو

الآن في المكتبات

فيديو

المتواجدون الآن

حاليا يتواجد 10 زوار  على الموقع