من تاريخ الكادحين (الحلقة 16)
الجمعة, 21 مايو 2021 09:12

 

بقلم بدن بن عابدين (رحمه الله)   

altتحية طيبة وسلاما متابعي ما ارتسم في الذاكرة.

في حصتنا التالية يعرضُ أحدُ قادة الكادحين ومناضليهم إحدى شهاداته حول ما جرى له ولرفاقه، الذين وهبوا نعيم شبابهم، ضحوا بأغلى ما يملكون دفاعا عمن لا يملكون نقيرا ولا نصير لهم إلا الله. إنهم البؤساء المستضعفون في الأرض!

القصة بقلم الرفيق احمد سالم المختار شداد شهرةً. ذاق الرجل مرّ العذاب وإكراهات الإقصاء. لكنه ظل واقفا شامخ الرأس مستمسكا بمبادئه لا تأخذه لومة لائم في الوقوف بثبات في صف المظلومين. 

إنه صيحةٌ من صيحاتهم عصيةٌ على التكميم! لا يقبل أن يغمُر النسيان أخبار الكادحين؛ لذا اسْتَلَّ قلمه وألّف كتابا عنوانه "قبل أن يغمر النسيان" قد يتفق المرء - أو يختلف- مع ما ورد فيه من آراء، لكنه يبقى - في ظني- إضافة مقدرة إلى استنطاقِ الأحداث المعاصرة في هذه البلاد.

حدث شداد فقال:

"كان مقامي في انواذيبو خاطفا. كنت أبحث عن العمل على استحياء. كنت على الخصوص منكبا على تنظيم الشباب العاطلين. ذات مرة تم توقيفي مع عشرة منهم. كنت أرأس اجتماعا عقدناه في غرفة عندما اقتحمت الشرطة مكاننا واقتادتنا إلى مفوضية الشرطة. عندما وصلنا المفوضية، قدمونا، الواحد تلو الآخر، للمفوض صار دمبه في مكتبه. واجهني هذا الأخير بالكثير من اللين مع أنه كان قاسيا في التحقيق مع أصدقائي. كل الدلائل تشير إلى أنه كان يعتبرني زعيم المجموعة. وضعيتي كتلميذ سابق مطرود على إثر إضرابات زادت يقينه. كانت أسماء وهويات التلاميذ المطرودين قد تم توزيعها على كل مفوضيات الشرطة وفرق الدرك وعلى مسؤولي المؤسسات، مع تعليمات بأن لا يتم توظيف أي منهم. لقد قدمت لنا الإدارة المدرسية إفادات مختومة بمداد أحمر كإشارة لسد الطريق أمام توظيفنا. أخذت القرار بالبحث عن طريقة للفرار.

داخل المفوضية، انتزعوا من كل واحد منا قطعة من ثيابه، كثيرا ما تكون الدراعة أو السروال. كنت ممن انتُزعت سراويلهم. أفرغوا جيوب كل منا من محتوياتها، وصادروا الساعات من كل من لديه ساعة كما هو شأني. سجلوا في المحضر كل ما أخذوا منا. لكي أخلق الثقة لدى عناصر الشرطة المسؤولة عن مراقبتنا، عودتهم على المضي ذهابا وإيابا إلى دورة المياه الواقعة مباشرة بالقرب من المدخل. كان الشرطي سيدي ولد اياهي، المشهور في انواكشوط بالقمع، يمضي يومه في إصلاح سيارته أمام باب المفوضية. شكل حضوره حجر عثرة أمام تنفيذ قراري بالفرار. أتونا بغداء جيد. لم أعد أتذكر من أين أتوا به. تقاسمنا الغداء مع عناصر الشرطة. ظل ولد اياهي قرب سيارته حتى الظهيرة. كان أفراد الشرطة ينتهزون فرصة يوم العمل المتقطع للاستراحة في منازلهم. وعاد إلى المفوضية مواطنون يبحثون عن حل لمشكلاتهم. غيرت تكتيكي. كان علي أن أستفيد من الارتباك الذي تحدثه حركة الناس ذهابا وإيابا كي أختفي عن الأنظار؛ وهو ما فعلته.

لقد خرجت بشكل اعتيادي جدا. وسارعت الخطى لألفّ من وراء مبنى المفوضية. واختفيت بين مجموعة من المنازل. دخلت وراء السكة الحديدية الواقعة على بعد أمتار قليلة من حدود الصحراء الإسبانية. لا يمكن لأي شرطي موريتاني أن يغامر بالذهاب هناك. عندما حل الليل تسللت بين الأعرشة حتى وصلت عريش النامي. كنا نسمي عريشه "هوندات" ذلك الملجأ السري الوارد في قصص المقاومة الفيتنامية المنتشرة حينها.

أصبحت مدينة انواذيبو كلها في حالة تأهب منذ أن أعلنت الشرطة عن اختفائي. حصلت الشرطة على مساعدة من قريب زائف أعلن لهم أنني عبده وأنه يلتزم بمصاحبتهم حتى يتم اعتقالي. بحثتْ الشرطة في كل مكان خاصة في منزل ابن عمي، ألمين، بحي كانصادو.

بالمناسبة، فقد وبخ الأمين قريبي السيئ على فعلته المشينة. هذا القريب هدى الشرطة إلى النامي في شركة "ساما". لكن النامي وجد قليلا من الوقت ليختفي قبل وصول الشرطة. غير أنه فقد وظيفته إلى الأبد. لقد وجدت النامي في ملجأ هوندات. أذكّر بأن قريبي السيئ فقد البصر لاحقا وأصبح أعمى كليا، وتحول إلى مشعوذ قادر - حسب هرائه- على معالجة كل الأمراض، باستثناء مرضه هو أي فقدان البصر.

تمت محاصرة المدينة من كل جانب من طرف رجال الأمن. وُضع المطار والقطار تحت رقابة مشددة. تم توقيف الباصات وسيارات الأجرة وأخضعت لتفتيش دقيق.

من أجل التسلل عبر منافذ الشباك، يجب انتظار أسبوع تحت حماية محمد ولد السالك الملقب باي بيخه. بمساعدة هذا الصديق المخلص الفكِه، استطعت، في زى عامل تفريغ، اعتلاء قطار المعادن حتى قرية شوم. ومن ثم وصلت انواكشوط دون صعوبة. حكمت محكمة نواذيبو علي أنا والنامي غيابيا بشهرين من السجن النافذ.. تم تخفيض هذا الحكم بالربع بمناسبة ذكرى عيد الاستقلال. والبقية تم إلغاؤها نهائيا بالعفو السياسي الصادر سنة 1975.

في سنة 1976، عندما كنت أسكن حي مدينه 3 مع أسرتي، ذكرتني أحداث صغيرة بحادثة مفوضية انواذيبو. كان مكان سكني يشكل محلا للقاء العديد من الشباب.دون مبالغة، كنا نناقش حول الشاي ليلَ نهار بلا انقطاع. يحدث تارة أن يغلبني النعاس وهْنا من الليل، فانصرف خفية للنوم بضع ساعات في منزل صديقي محمد الأمين ولد هيين بحي مدينه جي. كنا نناقش الوضع السياسي أساسا. وتارة نناقش مواضيع أخرى. ذات مرة قمنا بعرض ساعاتنا اليدوية. رفع شاب مجهول، كان برفقة صديق، ساعده ليعرض ساعته القديمة من نوع "سيكو 5". كانت حالتها ما تزال جيدة. تعرفت فورا على ساعتي المصادرة من قبل شرطة نواذيبو سنة 1972. طلبت منه أن يقول لي بصراحة كيف حصل على هذه الساعة. قال إن أخاه الأكبر، العامل في شرطة نواذيبو، هو من أهداه إياها. أخبرته بمغامرتي المُرة في نواذيبو قبل أن أطـَـمْـئنه بأنني ما دمت أملكها فإنني أهديها له. تلك الساعة أعطانيها خالي دينا خلال إحدى زياراتي للسنغال.

مرة أخرى، وجدتني وجها لوجه أمام رقيب الشرطة الذي كان مكلفا برقابتنا في نواذيبو. كان ذلك وسط شارع وفي وضح النهار بحي مدينه 3. يتعلق الأمر بمحمد سالم (أو محيمد سالم بالتصغير كما يدعوه أهل انواذيبو). نظر إلي باهتمام بالغ كما لو أنه فوجئ بوالده بعد موته قبل سنوات. بدوري، نظرت إليه دون أن أحول عنه البصر. غض بصره واختفى. كان ذلك بعد سنتين تقريبا من العفو الذي استفدنا منه."

نقلا عن معالي الوزير عبد القادر ولد أحمدو

فيديو

فيديو

فيديو

فيديو

فيديو

فيديو

فيديو

الآن في المكتبات

فيديو

المتواجدون الآن

حاليا يتواجد 8 زوار  على الموقع