رحلـة الشتــاء (ح 9)
الاثنين, 17 سبتمبر 2012 09:06

 

الملك المغلوب

 

altالأحد 20/ 12/ 1998:

"فتحت عيني.. أغمضتهما بسرعة.. امتلأتا بنور الشمس الشديد.. جلست.. تلفت حولي.. كنت على قمة جبل أجرد أمغر، لا أعرف من أنا.. ولا ما الذي جاء بي إلى هنا.. لم أكن جوعان ولا عطشان.. لم أكن أعرف ما ذا على أن أفعل..

أخذت أهبط على منحدر هذا الارتفاع الحجري الداكن، البنفسجي، الذي يحد الرمال المتجهة إلى الشمال، وإلى الجنوب، إلى مدى البصر.. بسرعة وجدتني في منطقة الكثبان المتحركة.. تهت فيها بلا هدف أصعد وأهبط بين الربى والوهاد اللينة الرمال، تتعاطاني جبال وأغوار هذا البحر الهائج الرجراج، دون أن أصادف أي أثر للحياة.

أخيرا عثرت على أول دلالة على وجود حياة: نبتة وزال هزيلة تتدافعها الرياح العاصفة، يتشبث بأحد أغصانها عنتر مقرف. ترى لماذا خرجت هذه الحشرة على المألوف، بامتلاكها عينا ثالثة مرعبة؟.. قرون استشعارها الصهباء أصلا اسودت واشتد لمعانها. فقدت الحشرة كل مخالبها. صدرها الأسود تحول لونه إلى الأخضر الحديدي.

كان العنتر يطبق بأرجله على غصن ما يزال خضلا. حاول أن يطير بتحريك أجنحته الشفافة المتقزحة ذات العروق المصفرة، لكن رأسه الناتئ، غير المتناسق ذا اللون الرمادي الفضي، عاق المحاولة وحولها إلى عبث يدعو إلى السخرية. ازدادت الصفيحات الأمامية الداخلة لعيون العنتر الثلاث تمددا بسبب مجهود محاولة الطيران.

كانت الرياح تعبث بنبتة الوزال الجاثمة على حزمة هشة من الجذور التي ما تزال متشبثة في تلك التربة المتحركة. كل رياح عابرة تكاد تستأصل النبتة وترمي العنتر في بحر الرمال البيضاء المذهبة، فتكفيه مشقة الطيران الذاتي. إلا أن حزمة الجذور ما تزار متمنعة فوق مجثمها وهو محتفظ بالقالب الرملي الملتف تحت جذوع متيبسة لم تعد سوى خيوط ليفية هزيلة. ويتسارع تمايل النبتة مؤديا إلى تقوس بعض الجذور وشد بعضها الآخر لدرجة التحكم في الوظائف الطبيعية للجذور والدور الميكانيكي للتجذر... عصفت الرياح بقوة فتكسرت الأقواس السفلية وسقطت النبتة بعنف على الأرض. صدم العنتر ولكنه ظل ممتطيا غصنه. لم يعد يربط النبتة بالأرض سوى عروق علوية وجذر طويل يخيل إليك أنه حبل مرسى سفينة".

(موسى بن أبنو، مدينة الرياح، ص 143 و144).

 

"اللهم إنك ترى وكأنك لا ترى!"

هل سيرثي رب العباد لحالي؟   أم ستنهار حزمـة الوزال؟

 

اثنتان وثلاثون سنة مرت على جنوحه في رمال بو امديد!

.. وهاهو يعود إليها من جديد..

"متسللا"، خائبا، كالملك المغلوب!

عشقه العاصف ما زال يجتاحه بعنفوان..

.. لا وصل فيرتاح، ولا سلوّ فيستريح..

.. وسد ذا القرن شامخ، يتحدى، في وجهه..

ذهب الشباب.. ولم نحقق مأربا      ما ذا يكون لو اننا لم نخلق؟

صدقت قارئة الفنجان:

"فنجانك دنيا مرعبة

وحياتك أسفار وحروب..

وستعشق كل نساء الأرض..

وترجع كالملك المغلوب

فحبيبة قلبك يا ولدي

نائمة في قصر مرصود

والقصر كبير يا ولدي

وكلاب تحرسه.. وجنود

وأميرة قلبك نائمة..

من يدخل حجرتها مفقود..

من يطلب يدها..

من يدنو من سور حديقتها.. مفقود

من حاول فك ضفائرها

يا ولدي مفقود.. مفقود"

 

تذكر يوم حل بها أول مرة قادما من "انبيكه" عبر "تجگجه" و"الغديه". كان في الجماعات التي اعتقلت بعيد أحداث فبراير 1966. كانوا يشكلون مجموعتين عرقيتين تم اختيار أفرادهما، لا بسبب ما اقترفوه في تلك الأحداث الغامضة الأليمة، بل على أساس الرغبة في التوازن وتقديم كبش فداء مناسب. توقفوا قليلا في "الغديه". لم تكن هناك حراسة مشددة عليهم كما هي الحال اليوم. تحلق حولهم شباب ورجال الحي وأطفاله. هنالك التقى بشاب فارع نحيف، يدرس في معهد مهني وينتمي إلى أشراف القرية، أصبح فيما بعد من أعز أصدقائه، لما لمع نجمه في الحركة الوطنية، وعارض النظام العسكري في بداياته.. وهو الآن يتربع على كرسي الوزارة التي ترتكب باسمها الآثام!

كانوا أول "بعثة" حلت بـ "بو امديد" مدشّنة عهدها السيبيري القادم!

.. وتتابعت البعثات!

كم عددها؟ من هم الوافدون؟ ليت هذا الوادي يبوح بأسرار جلهتيه الساحرتين! بل ليت هضبتي "گنديگه" و"تبادّ" (التوباد) تحدثان بما انطوى عليه صدراهما! أو ليت هذا الكهف، على الأقل، يبوح بأسماء نزلائه! أو يكتب هؤلاء النزلاء كما يكتب هو الآن!

شاعر موريتانيا أحمدو ولد عبد القادر كان ممن دشنوا هذا المنفى، وقد تغنى بجماله وجلاله.

الشاعر والكاتب والإنسان الخليل النحوي مرّ من هنا.. كان من أبرز من دونوا ذكريات عبورهم من هذا المكان.. فهنا ولدت أرق وأعذب قصائده الوجدانية!

ثم ماذا؟

فكر قليلا.. ثم امتشق سلاحه وكتب في دفتر من ثلاثة اشتروها للتو: "إذا كانت هذه الواحة الجميلة، قد أصبحت، بفعل استبداد وبغي الإنسان، رمزا للسجن والنفي والعذاب والاغتراب، فإنها ترمز أيضا لشيء آخر رائع وجميل وعظيم. وهذا ما أود أن أسجله للأجيال الحاضرة قبل القادمة! لقد شهدت في صيف 1966 وأد الفتنة العنصرية، وميلاد التضامن الوطني والإنساني في أرقى تجلياته بين رواد من هذا الشعب. وذلك غداة دخول إضراب جماعة "لكور" "الـ 19" يومه الثالث في سعير الصحراء، ووجود خطر حقيقي يتهدد حياتهم.. هنالك أعلن المعتقلون "البيظان" الإضراب تضامنا معهم، وتبنوا مطالبهم التي كان من أهمها نقلهم من تلك الواحة النائية إلى حيث توجد كافة مستلزمات الحياة وخاصة الرعاية الصحية. ومن ذلك اليوم عادت المياه إلى مجراها الطبيعي بين المكونتين، والتأم الشمل، ونمت وتعززت أواصر الوحدة الوطنية، التي راهن كثيرون على انفصام عراها.. وما الوحدة النقابية التي تمت في نهاية تلك السنة على يده هو وزملائه من جهة، ويد المغفور له جابيرا جاگيلي من جهة أخرى، والوحدة السياسية التي تلتها في نهاية الستينيات على جميع المستويات، سوى تطور طبيعي، ونتيجة حتمية لما نسج سنة 1966 في بو امديد.

يومها.. لم يصدق حاكم المقاطعة السيد مام لي - وكان يعامل المضربين، وهم من أبناء جلدته، بحذر شديد- أن يرى البيظان يعلنون، في أجواء تلك السنة الغائمة، تضامنهم التام مع "لكور" المضربين، ويتبنون مطالبهم ويعلنون الإضراب من أجلها! وتمت تلبية تلك المطالب بالفعل.. ونقل المضربون نفس اليوم إلى كيفه، ومنها إلى العيون.. فتحية لروح بو امديد الخالدة".

 

في الحلقة القادمة: بو امديـد

فيديو

فيديو

فيديو

فيديو

فيديو

فيديو

فيديو

الآن في المكتبات

فيديو

المتواجدون الآن

حاليا يتواجد 10 زوار  على الموقع