| نماذج من فكر مالك بن نبي في "مشكلات الحضارة" |
| الأربعاء, 01 نوفمبر 2017 06:45 |
|
في الذكرى الـ44 لوفاته تماضر حسن
عمل مالك بن نبي في التعليم والسياسة، ثم تحول كليا للعمل الفكري. عدم محدودية نظر بن نبي ونضجه الفكري جعلاه يربط ثقافته الإسلامية بالقضايا المجتمعية المحيطة به؛ لذا نجد أفكاره جامعة بين الفلسفة الإسلامية والغربية، وركزت دائما على البناء والنهضة. مشكلات الحضارة هي الرابط بين كل مؤلفات بن نبي، إذ كان مهموما بإيجاد مخرج للأمة الإسلامية من المنحدر الذي تعيشه. غاص بن نبي عميقا في المشكلة ونادى دائما بالرجوع لأصل الفكرة ومنبت الحضارة وهي الفترة النبوية. في كتابه شروط النهضة تلمس بوضوح تأثر بن نبي بفكر ابن خلدون في مسألة اطراد الحضارة؛ وذلك بمقياس القيم النفسية والاجتماعية، بأخذ النموذج الإسلامي؛ عندما قسمها إلى ثلاثة أقسام، تبدأ بتلبية الاحتياجات الروحية التي وفرتها الفكرة الدينية (الإيمان) التي بدورها تعمل على تنظيم الغرائز في علاقة وظيفية مع مقتضيات الفكرة، وفي هذا تحرر من قانون الطبيعة المفطورة في جسده. يستدل على هذه المرحلة بالصحابي بلال بن رباح الذي كلما زاد عذاب المشركين له زاد نداؤه أحد أحد، وذلك عكس الطبيعة المادية التي توجب تخليه عن فكرته بازدياد الألم، ولكن هذا الصوت كان مصدره روحه المشبعة بالإيمان. (اقرأ أيضا: إرث ملعون: فريدريك سبوتس عن كلاوس مان). يستعرض بن نبي القيم الاجتماعية المصاحبة للنمو النفسي الروحي؛ والتي تمثلت في تدرج الأحكام متخذة النمو الأخلاقي ركيزة لتقبل الأحكام والتكاليف (تحريم الخمر وإنهاء العبودية مثلا). القسم الثاني في النموذج هو الاحتياجات العقلية التي تأتي تدرجا وبناء على الفترة الأولى، وتكون نتيجة التوسع والنضج في مجتمع الفكرة باكتمال شبكة روابطه الداخلية وامتدادها للخارج، والتي ستواجه بالضرورة منعطفا جديدا نسبة للتوسع ونشوء مشكلات محسوسة ملازمة له. هنا يقول بن نبي إن هذه المرحلة في النموذج الإسلامي تمثل الدولة الأموية التي انعطفت بمنحنى لا يناسب الفكرة المبدئية، وهذا أدى بدوره إلى انخفاض الفاعلية الاجتماعية للفكرة الدينية؛ مما أدى إلى المرحلة الثالثة: انهيار الحضارة، وهي المرحلة التي تولد عنها الإنسان المسلوب حضاريا الذي لا يساوي الإنسان الفطري، لأنه يمتلك روحا انهزامية. في ذات الكتاب وفي كتب أخرى (تأملات، ومشكلة الأفكار في العالم الإسلامي..) يبدأ من الإنسان في العالم الإسلامي بعد انتهاء حضارته، وسلسلة توارث الأجيال لأفكار متباينة وغريبة عن الفكرة الأولى، مما نتج عنه إنسان ضال لطريقه مشبع بما يسميها الأفكار الميتة. (اقرأ أيضا ربّ إنّي وضعتها أنثى؛ رحلة إلى فلسطين). هذه الأفكار الميتة المتولدة من الإرث الاجتماعي تجعل في الفرد والمجتمع القابلية للاستعمار؛ وهي خاصية التفكير بعقلية الآخر والذوبان فيه دون التفريق بين هويتنا وهوية الآخر، ودائما ما ركز بن نبي على القابلية للاستعمار أكثر من الآثار التي تركها الاستعمار، لأنه يرى أن الاستعمار الغربي رغم وجهه البغيض وتعطيله لبناء المشروع الحضاري الإسلامي إلا أن له إسهامات في بناء الحضارة اللازمة لحياة الفرد المادية، كما أن للغرب عموما دورا في البحث العلمي ورفاهية البشرية. أما القابلية للاستعمار فهي أخطر، لأنها استعداد نفسي فردي ومجتمعي للتخلي عن المبادئ والقيم الخاصة والمميزة للمجتمع، وهو في جملة أفكاره لم ير مانعا من التعاون مع الغرب على قاعدة الاحترام المتبادل. لطالما كانت الأفكار مقدسة عند بن نبي؛ إذ أفرد مساحة لتوضيح قيمتها مقارنة بالأشياء؛ فيقول إن المجتمع المتخلف ليس موسوما حتما بنقص في الوسائل المادية (الأشياء) وإنما بافتقاره للأفكار.
تحدث بتفصيل عن أنواع الأفكار الاجتماعية، السياسية، الثورية، المخذولة، الاقتصادية وتكلم عن علاقة الأفكار بازدواجية اللغة الناتجة عن الاستعمار وأثرها في البناء المعرفي الثقافي الموحد للعالم الإسلامي. فكرته المحورية أن نهضة أي مجتمع تتم في نفس الظروف التي شهدت ميلاده، مع الدعوة للحياة بعقلية الزمن الحاضر لا بعقلية الماضي وإنما البحث عن المقصد في مبدأ الفكرة، يضيف أن شروط النهضة ثلاثية المحور؛ بناء الإنسان بما يواكب عصره، المحافظة على المكان وإعطاء قيمة للزمن. ركز بن نبي على الإنسان كقيمة فاعلة في البناء، وقال: إذا تحرك الإنسان تحرك المجتمع والتاريخ، وإذا سكن سكن المجتمع والتاريخ. إن المسلم لا يفكر ليعمل وإنما يفكر ليقول. وفي هذا تنبيه لقيمة التطبيق الفعلي للأفكار بدل تداولها كقيمة خاملة. كما ركز على دور المجتمع في البناء؛ وذلك بتوفير الوسائل التثقيفية والضمانات الأمنية والحقوق الضرورية التي بضمان استمرارها يكون الفرد المستفيد فاعلا؛ أي أن المسؤولية متكاملة. أن تبدأ قراءة كتاب لمالك بن نبي فهذا يستدعي تجوالا في كل ما كتب، وذلك للترابط بين كل الأفكار، فتتوقف عند المقاصد وتستمتع بقَصص يلفت انتباهك لضرورة حكايتها في هذا الموقف، تدخل معه إلى دورات في علوم الاقتصاد والاجتماع والفلسفة والتاريخ وعلم النفس، ليملأ قلبك اليقين والأمل بأن لكل هذا حلا يعتمد على وعي الفرد والمجتمع بفكرة التوجيه التي هي قوة في الأساس وتوافق في السير ووحدة في الهدف. همس بن نبي بعمق في وعي الأمة الإسلامية مظهرا أمراضها، واضعا لها وصفات العلاج، وقد قرأت عنه أنه في آخر حياته قال: سأعود بعد ثلاثين سنة وسيفهمني الناس. في إشارة منه لتبني أفكاره مستقبلا. |
