... وثارت مصر!
السبت, 30 يناير 2016 07:31

 

altكتب هذا المقال أثناء الثورة المصرية، ونعيد نشره في ذكراها الخامسة

"تَحَرّكْ أبا الهول هذا زمان

 

تحرك ما فيه حتى الحجر"

 

                                                          أحمد شوقي بك   

وأخيرا تَحَرّكَ أبو الهول!

و

"على باب مصر تدق الأكف
جبال تمور رياح تـــــــــدور
وكل تساءل في دهــــــــشة:
أمعجزة ما لها أنبـــــــــياء؟
وكيف تحقق ما كان وهــما؟
وكيف تحرر مـن أســـــــره
لقد شاد بالأمــــــس أهرامه
وها هو يبني بحــــــــــــرية

 

ويعلو ويعلو ويعلو الضجيج
بحار بــــــــحار بحار تهيج
أين؟ ومن؟ وكيـــــف إذن؟
وثورة أرض بغير فـــضاء؟
ومن ذا الذي يا ترى حققه؟
سجين الزمان ومن أطلقه؟
بأيد مسخرة موثـــــــــــقه
دعائم آماله المــــــــشرقه.

 

فمن ذا الذي كان يتصور - مهما كان علو سقف تفاؤله- أن يحدث ما حدث، وتتحرك ملايين المصريين من كافة الأطياف والأصناف والفئات، رغم القيود التي تكبلهم، ورغم قوانين الطوارئ التي تسحقهم، والهيمنة الأجنبية التي تحصدهم، إلى ميادين مدنهم وقراهم.. رافعين شعارا واحدا هو وجوب رحيل مبارك ونظامه الذي أذل وقهر وأفقر وأهان مصر والعرب؛ إلى درجة أن مصر العظيمة أسقطت - على جلالها وجمالها- من كل حساب، سوى حسابات بقاء نظامها الخائن المرتشي، وضمان أمن إسرائيل. فأصبحت بعد عزها "تيم" العصر:

"ويقضى الأمر حين تغيب تيم

 

ولا يستأذنون وهم قعود"!

 

ثورة سلمية علمية حضارية لا إرهاب فيها ولا كباب ولا انقلاب ولا أحزاب ولا كلاب؛ بل شباب، وشباب، وشباب! لقد خرجت جحافل الشباب المثقف الواعي المنضبط تحدو الجموع من كل الأعمار والملل والنحل، التي ملت وسئمت الهوان، وآمنت بحقها في الحرية والكرامة، وعقدت العزم على تحقيق النصر مهما كان ثمنه. وحكّمت قول شاعرها الخالد أحمد شوقي بك:

وما نيل المطالب بالتمني
وما استعصى على قوم منال

 

ولكن تؤخذ الدنيا غـلابا
إذا الإقدام كان لهم ركابا

 

إنها إذن "عودة الروح" التي تنبأ بها، واستشرفها، منذ عشرات السنين، المفكر المصري الكبير توفيق الحكيم!

 

ثورة كرامة وحرية، لا ثورة خبز أو ياسمين

         هل هي ثورة خبز أخرى، تعيد انتفاضات الشارع العفوية الآنية المطالبة بالخبز، هذه التي جرت وتجري في تونس ومصر الآن؛ والتي من المحتمل جدا أن يمتد لهيبها إلى البلدان العربية والإسلامية المرشحة موضوعيا لاقتناء وابتلاع هذا الطعم؟ كلا. فهذه الثورات العارمة التي شاركت فيها جميع فئات المجتمع فقراء وأغنياء، ليست ثورات خبز ولا ياسمين كما يحلو للبعض أن يصفها لينتقص من شأنها؛ بل هي ثورات كرامة وانعتاق. فالناس في هذا العالم الثالث - وخاصة في جل البلدان العربية والإسلامية المقهورة، وفي مصر على سبيل الخصوص- قد أفرط حكامهم المجانين، الراكعون للاستعمار والصهيونية واللاهثون وراء الثراء الفاحش والرشوة واختلاس المال العام والترف والتوريث.. أفرطوا في إهانتهم وهدرهم طيلة عقود من الزمن، وحولوهم إلى رعايا من الدرجة الثانية حظهم من أوطانهم الجوع والجهل والإهانة والتهميش والإقصاء بشتى الوسائل عن مسرح الحياة الوطنية وعن كل ما من شأنه أن يسهم في تقرير مصائرهم؛ بينما تساق أوطانهم علنا - على مرأى منهم ومسمع- إلى الخراب الشامل، وتقدم قرابين على مذبح عدوهم وعدو الله وعدو الإنسانية: احتلال أفغانستان، تدمير العراق، تخريب باكستان، وأد المقاومة الفلسطينية وتهويد فلسطين وبيت المقدس.. الخ؛ مع ما يلازم ذلك من قمع وقهر وإلغاء وفساد وتفتيت يطال كافة مكونات المجتمع ويعرض وحدته ومصالحه العليا للخطر!

         إن هذا النهج الخاسر الذي ساد خلال عقود ما بعد الاستقلال، حين أزيحت - عن طريق الانقلابات العسكرية التي ترعاها أمريكا- كل الزعامات التاريخية التي كانت مرتبطة بالمجتمع وملتزمة ببعض أهدافه، ولديها بقية أخلاق وشيء من التقوى والعفاف والمسؤولية، هو السبب الجوهري لثورة الشعوب من أجل كرامتها وحريتها وسلامة أوطانها. ومن المستحيل أن تهدأ الثورة ما لم يتم إلغاء ذلك النهج وتتحقق الكرامة والحرية وصيانة الوطن.

 

         دور العوامل الخارجية في التطور الاجتماعي      

         يلف مفهوم دور العوامل الخارجية في التطور الاجتماعي، والتأثير المتبادل بين المركز والأطراف، الكثير من التحوير والضبابية، في هذا الزمن الذي اختلطت فيه المفاهيم واحتلت الرغبات الذاتية محل القوانين الاجتماعية؛ لذلك وجد بعض المنظرين في ثورتي تونس ومصر ظاهرة اجتماعية صالحة لكل بلد وآتية لا ريب فيها إلى الجميع، وبنوا برامجهم وشعاراتهم على ذلك غير عابئين بخصائص كل بلد على حدة، وما يميز الدول بعضها عن بعض.. أو يدركوا ما لعناصر الحركة الداخلية - دون غيرها- من دور رئيسي وحاسم في كل تطور طبيعي أو اجتماعي. كذلك نجد - وعلى النقيض من ذلك- من ينفون أي تأثير للأطراف على المركز!

         وإذا كان من المستحيل على ثورة مصر العظيمة أن تندلع ـ مهما كانت مواتاة العوامل الخارجية ـ لولا توفر أشراطها الداخلية، وتَجَمُّع عوامل الانفجار الاجتماعي والثورة في مصر؛ فإن هنالك مجموعة من العوامل الخارجية مهدت لها وساعدت في انطلاقها وأنارت طريقها بصفة تلك العوامل قوة احتياطية ومصدر إلهام لتلك الثورة، وعوامل إضعاف وإنهاك لعدوها، وثغرات تم فتحها في سور القهر الذي أحاطت به أمريكا وإسرائيل وحلفاؤهما مصر والعرب. ولعل من أهم تلك العوامل على سبيل المثال لا الحصر:

         ـ التغيير الذي حصل في دولة قطر وجاء بقيادتها الوطنية الراهنة. وما اتبعته تلك القيادة من سياسات وطنية كان أبرزها إنشاء قناة "الجزيرة" التي رعت وأيقظت الشعوب العربية والإسلامية التي كانت مهملة ومتروكة لتضليل وتدجين إعلام الغرب الدجال؛ والسعي الدائب لإصلاح ذات البين لتضييق الشقة التي يخرقها ويوسعها الاستعمار بين العرب عملا بمبدأ فرق تسد: لبنان، السودان، فلسطين اليمن.1

ـ صمود الجمهورية العربية السورية في نهج المقاومة والكرامة.

ـ انتصارات المقاومة اللبنانية الرائدة على العدو الصهيوني.

ـ هزائم وفضائح أمريكا وحلفائها في العراق وأفغانستان، وانهيارهم الاقتصادي والأخلاقي.

ـ هزائم إسرائيل في لبنان وغزة.

ـ انتفاضات وانقلابات موريتانيا (2003 ـ 2008) التي كان لها السبق في كسر أول حلقة في نظام الذل والعار العربي، والإطاحة بإحدى محميات أمريكا وإسرائيل النموذجية، وطي أول علم صهيوني من سماء العرب. 

ـ المعجزة التونسية العظيمة.      

         ـ الثورة التكنولوجية.

وإذا كان لا مراء فيما للمركز من تأثير حاسم وجلي على الأطراف، فإن تأثير هذه العوامل على الوضع في مصر يثبت أن الأطراف – بدورها- ترفد المركز وتؤثر عليه تأثيرا لا يمكن نكرانه أو تجاهله. وتلك هي سنة الكون.

          

لن يرحل بسهولة.. فمصر ليست موريتانيا أو تونس، ومبارك ليس ديغول

        

         بادئ ذي بدء، يجب أن نكون واقعيين، وأن لا ننخدع بالوعود الكاذبة. وأن لا يتطرق الوهم إلى أذهاننا في أن مبارك سيرحل بسهولة كما رحل معاوية وبن علي وديغول. فمصر ليست موريتانيا أو تونس، ومبارك ليس الجنرال ديغول.

إن مصر هي "أم الدنيا". ومن يحكمها يحكم العالم. فهي بوابة وصِلةُ وَصْل ثلاث قارات هي أوروبا عن طريق المتوسط، وإفريقيا التي هي منها، وآسيا التي تطل عليها عن طريق سيناء والبحر الأحمر؛ ومنها يمر شريان العالم: قناة السويس. وقد وعت كافة الإمبراطوريات التاريخية هذه الحقيقة. وفي تاريخها الإسلامي كانت مصر من هزم الصليبيين في حطين وأخرجهم نهائيا من المشرق العربي بعد ما عاثوا في بلاد الإسلام زهاء قرنين. وهي التي هزمت – كذلك- المغول في عين جالوت والأبلستين. وقد مثل خروجها من نير الإمبراطورية البريطانية بعد ثورة يوليو 52 بداية نهاية الاستعمار القديم البريطاني الفرنسي؛ خاصة بعد دخولها على خط ثورة الجزائر. كما كان انضمامها وقيادتها لحركة التحرر الوطنية وحركة عدم الانحياز مرحلة فارقة في انتشار وانتصار تلك الحركة.. بينما شكل سقوطها في قبضة الهيمنة الأمريكية في عهد السادات وحسني مبارك ومعاهدة كامب ديفد، أعظم إنجاز حققه مهندسو الإمبراطورية الأمريكية؛ فقد ضمن لها ذلك استمرار سيطرتها على نفط الشرق الأوسط، وحماية ربيبتها إسرائيل، وانهيار عدوها الاتحاد السوفييتي، وانكماش وتلاشي حركة التحرر الوطني وقضايا الحرية والمساواة في العالم.

         وعلى هذا الأساس يكون من المستحيل أن تتنازل أمريكا وحلفاؤها بسهولة عن مكاسبهم الثمينة في مصر، وأن يسلموا "مُلك مصر" للمصريين حبا في  "ديمقراطية وحقوق إنسان" مزيفة يتشدقون بها ويدوسونها، بالبساطة والوتيرة التي تم بها ذلك في موريتانيا وتونس! إنني أعتقد جازما أن ذلك ضرب من أحلام اليقظة.

تضاف إلى ذلك المصالح الكبيرة، المتداخلة مع المصالح الغربية والإسرائيلية، التي تتمتع بها عائلة مبارك وفئات مصرية لا وطن لها سوف تظل تتشبث بمصالحها مهما كلف الثمن.

         إن الأمريكيين والأوروبيين والإسرائيليين وأعوانهم في مصر والعالم العربي سوف يتشبثون بنظام مبارك الموالي لهم، وسيبذلون كل ما في وسعهم من قوة حتى لا يسقط فتتحرر مصر؛ ذلك أنه بسقوط نظام مبارك وتحرر مصر ستتحقق نتيجتان مباشرتان تغيران وجه التاريخ.. ألا وهما:

ـ انعتاق الأمة العربية والإسلامية وإفريقيا والشرق من النير الأمريكي الأوروبي الإسرائيلي.

ـ نهاية معاهدة كامب ديفيد واقتراب نهاية إسرائيل.

         ثم إن حسني مبارك ليس الجنرال ديغول الذي انسحب بكرامة لما رفضه الشعب الفرنسي، رغم ما له من منن وأياد بيضاء على بلاده التي حررها من النازية؛ فمبارك لا يعبأ بصوت الشعب، ولا يخضع إلا لما تمليه مصالحه الشخصية ومصالح القوى الأجنبية التي تسيطر عليه وعلى مصر. ولن يتورع عن حرق مصر أسوة بسلفه نيرون.

         وهذه الحقائق هي سبب ما نشهده الآن على ساحة المعركة من تعنت وصراع إرادات بلغ حد القتل؛ حيث يجري توزيع ذكي – وخبيث- للأدوار.. فالأمريكيون والأوروبيون يقدمون الكلام المعسول للشعب حتى لا تتسع الهوة بينهم وبين أحرار مصر، وحتى لا تنكشف عوراتهم أمام أعوانهم والمخدوعين بما يرفعونه من شعارات جوفاء. ويكلفون فلول النظام وإسرائيل وبعض الحكام العرب بتدبير الفتنة وشق الجيش وإشعال حرب أهلية تمزق وحدة مصر وتلحقها بالعراق!

         وعلى الشعب المصري اليوم أن ينتبه إلى هذا الخطر الداهم ويتفاداه،  وأن يتشبث بثورته حتى النصر، وأن لا يعطي الفرصة لمعسكر النظام حتى لا يتمكن من التقاط أنفاسه وإعادة تنظيم قوى شره الغادرة ويوظف ذلك في الانتقام وتصفية الثورة.

ومما لا شك فيه أن الشعب المصري العظيم قادر على تحقيق هذه المهمات الصعبة بفضل ما يملكه من قوة وحكمة وذكاء ووعي وحزم وتصميم.

         إن الثورة المصرية قوية بشبابها وجماهيرها الحاشدة؛ ضعيفة بقلة تجربة قيادتها الشابة، وتفكك وضعف الطبقة السياسية المصرية المعارضة وتخاذل وتآمر الأنظمة العربية من حولها.. ومع ذلك فإنها نجحت - حتى الآن- في إسقاط هيبة وشرعية نظام الذل والاستبداد الغاشم.

ومهما يكن من أمر، وسواء أنجحت هذه الثورة العظيمة في تحقيق أهدافها الكبرى أم استطاعت أمريكا وأوروبا وإسرائيل وبعض الأنظمة العربية الالتفاف عليها، أو حشرها في حدود دنيا، فإن مصر ما بعد الثورة ستختلف نهائيا عما كانت عليه قبل الثورة. وكذلك الأمة العربية.

لقد سقط الخوف وانطلق المارد من قمقمه، ولن تعود العجلة إلى الوراء إلا بترحيل الشعب، ولن يرحل الشعب.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

1.  كان هذا رأي الكاتب وقتها؛ قبل أن تصبح قطر أداة طيعة في يد الغرب.

(نشر بتاريخ  02/02/ 2011 في مواقع وصحف من بينها "القدس العربي")

فيديو

فيديو

فيديو

فيديو

فيديو

فيديو

فيديو

الآن في المكتبات

فيديو

المتواجدون الآن

حاليا يتواجد 9 زوار  على الموقع