| من تاريخ الكادحين(6) |
| الجمعة, 12 مارس 2021 07:58 |
|
بقلم: الدبلوماسي عبد القادر ولد أحمد
وبعد تنظيف القاعة من الأوراق وقصاصاتها وحين جنحت الشمس إلى الغروب توجهنا جميعا إلى كثيب يقع جنوب شرق انواكشوط توجد عنده أدوات الطباعة ومستلزماتها مخبأة تحت شجرة كبيرة صمدت بأعجوبة ضد عوامل التصحر والجفاف، صمود الكادحين أمام الطغاة الظالمين. كأننا والشجرة في الدنيا غرباء (وكل غريب للغريب نسيبُ). وصل فريق التحرير متعدد المهمات إلى جذع الشجرة عند الكثيب، أسدل الليل ظلامه على المكان ولفه صمت تتخلله بين الفينة والأخرى أصوات الطيور تتنادى عائدة إلى أوكارها ضمت مجموعة الرفاق: أحمدو عبد القادر وفاضل الداه ويسلم ابن عبدم والمختار حي، أخرجنا الأجهزة والأدوات من باطن الأرض نفضنا عنها الغبار بنينا "قبة الطباعة" وهي خباء مستدير، مقوس الشكل حِيك من القماش الأسود لا يتسرب الضوء منه ليلاً حتى لا يهتدي إليه الأعداء المتربصون الخباء مصمم لشخصين لا ثالث لهما، صاحب الطباعة ومساعده لضرورة الإملاء أثناء الطباعة البطيئة، يتبادل الثلاثة الباقون أدوار الإملاء والحراسة بين الحين والآخر يدورون حول الخباء ترقباً لأي طارق. الزمان: صيف عام 1971، في عز الحر والسّمُوم، كنتُ أول من دخل الخباء مع الرفيق يسلم (شفاه الله) بعدها تبادلنا الأدوار حتى أنهينا العمل مع بزوغ الفجر.
أتذكر أننا كنا نخرج من "القبة" منهكين نتصبب عرقاً لارتفاع الحرارة داخلها. شرعنا في تناول الطعام كانت مصادرنا شحيحة لا تسمح بكثير من الترف، جُلٌنا ثوريون محترفون وهم رجال وهبوا حياتهم، ليلهم ونهارهم لهمّ الكادحين والمظلومين. كنتُ حينها صاحب بيت المال، خلال حصص النقد والنقد الذاتي يقول بعض الحاضرين تلميحاً - وتارة بصريح العبارة- إني لست مبسوط اليد عند الصرف، فأتأسف لقلة ما في اليد وأعد ببعض التحسينات قد لا تنفذ كلها. نصيب الفرد من الطعام ليس كثيراً: علبة صغيرة من السردين هي عماد الوجبة السريعة الجاهزة خلال العمل ليلا لإعداد الجريدة خارج المدينة تصحبها قطعة متوسطة من الخبز. للوضع المذكور استثناء تنقُص فيه الموارد، عندها نشُدٌ الأحزمة ونقسم الحصة حصتين رغم اعتراض المعترضين. حاصله أنه بعد انتهاء الطباعة وتناول العشاء سلمنا الأمور جاهزة لفريق المهمات الخاصة فوقع أمرٌ غريبٌ!!! -ر جل أمن يداهم الفريق بحثا عن خنزير.. قال الراوي: وعجيب! حدثني قائد فريق المهمات الخاصة أنه بعدما دخل عناصره تحت الأرض في مكان يُغلق بعد دخولهم وتُنثر فوقه التراب ويُنشر عليه حصير وفراش عادي يأخذ الحراس مكانهم، تنتظم الأسرة المؤلفة من أم وأب وأطفال لهم شياههم وحمارهم وأدوات طبخهم، بينما كانوا هكذا إذ دخل عليه الحارس ونبهه أن أمراً مريباً يدور قرب حديقةٍ لتربية الخنازير غير بعيد من كوخه، وأنه شاهد رجل أمنٍ بكامل زيه الرسمي وسلاحه يدور حول المكان عينه على حديقة الحيوان. ظن القائد الفطن أن الأمر مصروف عن ظاهره وأن توجيه الزائر غير المرغوب فيه نظرهُ إلى الخنازير مجرد تمويه وخدعة حرب، فأمر فوراً رجاله بالاستعداد للأسوأ، وتفعيل الخطة "ب" وشرع في الإعداد لها. وكانوا تمرنوا عليها مراراً خلال تكوينهم، محاورها: 1. إتلاف الوثائق بوسائل جاهزة في عين المكان. 2. إخلاء المكان بسرعة من الأفراد والآلات وطلب الإسناد من الفرق الأخرى الموجودة في الأحياء الشعبية المجاورة، حيث كنا كالسمك في البحر. تابع الراوي حديثه قال: كنا نراقب الوضع المريب من خلال ثُقوب في كُوخِ المراقبة. واصل رجل الأمن الدوران، انتهز فرصة ذهاب حارس الحيوانات إلى دكان مجاور، فوثب من فوق سياج الحديقة، دخل فيها بينما تصاعد الغبار من المكان. ارتفع البُرى (وهو صوت الخنزير بالعربية) ولما انقشع الغبار وعاد الهدوء خرج رجل الأمنِ من المكان وابتعد ينفُضُ الغبار عن بذلته الرسمية وسار نحو قلب المدينة واختفى عن الأنظار. أضاف الراوي أنه لما هدأت الأمور وعاد حارس الحيوانات إلى عمله سأله عن رأيه في سبب حضور رجل الأمن المريب وماذا كان يفعل بين الخنازير أجاب الحارس إجابة الواثق من تفسيره المؤمن بما ذهب إليه أن الأمر متعلق بأمراض لا دواء لها علاجها في السحر الأسود وأن السحرة الدجالين يوجهون مرضاهم يقتلعون عينات من الحيوانات المسكينة يضعونها في خليط غريب يشربه المريض معتقداً أنه شفاء للمرض. واختتم الراوي حديثه موجهاً كلامه إليّ: "بلغ الرفاق في صيحة المظلوم أن شعبنا فيه فئة تُؤمن بالخرافات، وأن واجبهم كتابة مقالات كثيرة لننتصر على الدجل البغيض". قلت: سوف أبلغهم.
|
