ديوان الأستاذ محمدن ابن إيشدو"أغاني الوطن".. حديث ذو شجون (ح2 /2)
الاثنين, 02 أبريل 2012 10:47

 

المعاناة والمصابرة

altوبما أن الشعر معاناة أو لا يكون فإن معاناة الشاعر ورفاقه في النضال تنعكس في طوايا الديون فتتشكل قصائد نابضة بالتأثر والثورة والتمرد؛ كما في: رسالة إلى رفيق، أبوك يبكي الكرامة، رسالة إلى مناضلة، أهديك ألف تحية، لمن المستقبل؟ أطفالنا يتساءلون، في ذمة الحق، أسير أغمات..

وهي معاناة لم يرض صاحبها التخلي عن رجولته تحت أي ظرف حتى في لحظات الضعف الإنساني التي لا تخلو منها الحياة؛ لذا فعند ما رحل والد الشاعر كان الأخير في إقامة جبرية بمسقط رأسه، ثم نفي بعيد ذلك وسجن في حبس انفرادي في مدينة باسكنو وتوفي شقيقه بعد ذلك بقليل لم يتنازل عن رجولته.. بل نراه يقول:

تحملت يوم البين ما لا أطــــــيقه        وكان لنفسي في تحملها عــــــــــذر

فأنت الذي علمتني الصبر والإبـا       وخلفتني ذخرا.. ويمتحن الذخـــــر

ووالله لولا نخوتي وصلابــــــتي        لفاض عليك الدمع.. والشعر والنثر

ولي فتية دون البلوغ، ونســــــوة       سيشجيهمُ بثي؛ وإن أرعوي بــروا

على أنه لا يتجاهل الواقع ولا يحاول ذلك؛ لا بل تفيض مشاعره أحيانا فيتحرر الدمع من جفونه ويمتزج الخاص بالعام والشخصي بالوطني..

أبي؛ هاج ليذكراك بيني، وغربتي   وما مس من ضر.. فقد مسنا الـــــضر

جرت أدمعي لما احتضنت محــــمدا   وكنت عصي الدمع.. شيمتي الصـــبر

فتى كنت أرجو أن أعيش بقــــــربه    وتأبى صروف الدهر.. والظلم والغدر

وفيما يصطاف المرفهون على الشواطئ وينتجعون المنتزهات ويقيمون في الفنادق الفاخرة، ويهتبل الأدباء منهم والفنانون الفرصة للإبداع.. كان الشاعر صيف 1980 ينتجع على طريقته الخاصة، ولكنه لم يفلت الفرصة دون أن يزودنا بلوحة دقيقة عن مصطافه:

 

                                  في ذمة الحق

                                 أو ليلة دبرانية

وليلة من ليالي الصيف كالــــحـة       نادمتها وهي بالصهباء تغريــني

رمضاؤها تلتظي تحتي تهدهـدني       ورَوْحها - كلهيب الحب- يكويني

ما حيلتي في جحيم لا قرار بـــه؟       فالقبض يخنقني والسدل يشويني!

أسامر النجم؟ قد غالته وطــأتــها       وألبست بدرها ثوبا من الطـــين

وأصبح الكون قفرا لا حراك بــه        كأنه صخرة في كهف تنـــــــين

..ولت؛ كمثل لُيَيْلات لنا سلفـــت       في ذمة الحق؛ أبليها.. وتبليــني.

تيشيت؛ يونيو 1980

على أن السجين يتحرر على أنغام موسيقية تنساب إليه عبر الأثير ليجوب الزمان والمكان.. دون الحاجة إلى قرار رسمي أو رشوة سجان أو نحو ذلك..

يثير لواعج البلوى بقلــــــــــــبي        وينكي فيه مندمل الكلـــــــــــوم

ويبنيني ويهدمني.. فأغـــــــــــدو       كما تذرو الرياح من الهشــــيم!

يحلق بي إلى العلياء طـــــــــورا       ويهبط تارة تحت التـــــخــــوم

ويرجعني - وقد جاوزت شــوطا        بعيدا- نحو مرتعيَ القــــديــــم!

نعيم طفولتي وربيع عــــــــمري        وهل بعد الشبيبة من نـــعــــيم؟

فأذكر أكعبي وحنان أمــــــــــــي       وأترابي.. وتحصيل العـــــــلوم

وفتيانا على عيس عــــــــــــــتاق      تجوب "الگبله" في ليل بهــــيم

تطيع هوى الغواني والأغـــــاني        ومكنون المدامة والنـــــــــــديم

رعاها الله أياما تولــــــــــــــــت        وأرضا أقفرت بعد النـــــــــعيم 

وأغدو في تلمسي به طلــــــــــيقا       وكنت بها أسيرا في الجـــــحيم

أحلق - إن شدوت- بألــف أرض       وأرفل في ذرى عز صمــــــيم

فطورا في الحجاز وأرض نـــجد       وعذرة.. أو ديار بني تمــــــــيم

وطورا تَطَّبِي بغداد قلــــــــــــبي        أو اَهرب في دمشق من السموم

وطورا في الرباط أثير عــــــهدا        من الإخلاص والود الحــــــميم

وأسرح تارة في الغرب حـــــرا        أعربد بين قرطبة ونـــــــــــــيم

من السجن الانفرادي بباسكنو 1981          

هموم قومية

وللهم القومي حضوره على امتداد الديون؛ بدءا بالنضال من أجل التعريب بعيد استقلال البلاد، مرورا بانقلاب الجزائر الذي أطاح بابن بلة ليتوقف عند هزيمة سبع وستين وما قلب الصهاينة من حقائق للرأي العام الغربي، قبل التعريج على فساد الأنظمة العربية في الذكري الأولى للهزيمة المذكورة، وعدوان إسرائيل على لبنان سنة 1968 ليصل إلى ما عانته منطقة الخليج العربي منذ 1990 فيخصها بعدة قصائد (استقالة عمر، نحن في الدرب رفاق، مهر الصمود، تحية الأرز..) دون أن يطغى الوضع في العراق على الأزمة المزمنة والجرح الدامي في فلسطين (ملائكة في قلب أمريكا، وصية الشهيد محمد الدرة..).

ضربوا الحصار، هل الحصار شريعة؟       ماذا دها الإنسان؟ هل من عاقــــــل؟!

يا قومنا من يسقطون ضــــــــــــــــحية       من لحمنا؟ أم من سديم آفـــــــــــــل؟!

هم من ذوائب يعرب يا بطــــــــــــرس       يا سيد "الجمع" "المهيب" "الفاضل"

قتلوهمُ صبرا، وما من صامـــــــــــــت       إلا له قسمات وجه القــــــــــــــــاتل

"قوم الصحيفة" لا وجود لمثلـــــــــــهم        ذهب الزمان بهم؛ وما من آكـــــــل!

قالوا الكويت؛ فقلت: قلتم حــــــــررت!        والصائلون؛ فقلت: ما من صائل!
قالوا: "سلاح دمارهم" قلت: انزعـــــوا       أيضا سلاح عدونا الإســــــــــــرائلي

قالوا: "حقوق الكرد" قلت: وحقــــــــهم       في الترك، أو إيران.. غير مماثل؟!
يا ظالما ملك البرية واحــــــــــــــــــــدا       يعطي ويمنع دون حق عــــــــــادل

هلا اتبعت ذريعة مقــــــــــــــــــــــبولة       تبقي بصيص مؤمل لــــــــــــــلآمل؟

حنين جامح

تضمن الديوان قصائد فاضت بالحنين كما في قصيدة "بالأحضان" التي كتبها الشاعر وهو يعود إلى تونس بعد فراق دام ثلاثا وثلاثين سنة حيث استعاد المكان والأشخاص والأحداث.. وكما هي الحال في "سلام على الفيحاء" و"الشرگ" و"هات المدامة".. بل إن المفارقة أن الحنين شده إلى منفاه كما في "گنديگه"..

زعموا أنهم هنا قد نفـوني!       كيف أنفى في موطني المحبوب؟

ما لهم بالبلاد علم ولا بــي       ليس مثلي هاهنا بغــــــــــريب!

وداع الراحلين

وللرثاء نصيبه في الديوان؛ حيث نجد الشاعر يرثي المرحوم أحمد ولد بوسف ويرثي جدته ووالده، وحين رحلت جدة بنيه وهو في إقامة جبرية بالداخل نجده يؤدي "صلاة الغائب" برثاء صادق الإحساس جمع بين استبطان الآصرة الاجتماعية والزمالة النضالية في استثناء واضح من القاعدة العامة –أو الصورة النمطية- للحماة في الأدب المعاصر، كما نجده يرثي بعض أعلام وقته كالقاضي حامد ابن ببها، ولعل أهم مراثي الديوان طغراء في سجل الذهبي، التي كان ضحايا طائرة الأول من يوليو 1995 باعثيها ولكنها تحولت إلى فخر بأمجاد الماضي وإدانة صارخة للواقع السياسي والاجتماعي المعيش؛ تتخلل ذلك وقفة مع رفاق الدرب وتملي ذكريات الماضي..

فلذات مثل العصافير تهــــــــوي        من حماها، أو أطفأ النيرانا؟

لم تجد نجدة وقلبا رحـــــــــــــيما       أو مطافي.. ولم تجد طيرانا!

يا هوان الهوان! نبني قصـــــورا       شامخات.. ونهمل الإنــسانا!

قد نفذنا جهالة.. ونــــــــــــــــبذنا       سلطة العلم.. واتبعنا هـوانا!

أمة مسلمون نحن؟ لمـــــــــــــاذا       لا نعزي ونقرأ القـــــــرآنا؟!

أمة أغنياء نحن؟ فــــــــــــــــماذا       قد حصدنا.. وما أفاد غنانا؟

عرب نحن، أم بقايا بـــــــــــــقايا      من زوايا.. ونعبد الأوثانا؟!

نتحدى العلوم والتكنولـــــــــوجيا       برميم يدوسنا.. لو رآنـــا!

حسنا.. إننا بنوه فـــــــــــــــــماذا       قد أفادته؛ كائنا من كانــا؟!      
نسرق القمح من عيون اليتامــــى       والمعالي معطلات ورانـا!

لو نمتنا أرومة للــــــــــــــــزوايا       أو إدوعيش أو بني حسانا

لشجـــــــــــــبنا رذيلة.. أو وقفنا        وقفة الحق.. أو صفعنا جبانا!

ولقادة حركة 16 مارس 1981 نصيبهم من الديوان رغم أن الشاعر وقتها كان في ضيافة إدارة الأمن!.

وإن كان الهم السياسي مسيطرا على الديوان فمن المنطقي أن يكون للقانون نصيبه -ولو قل- في شعر أحد أبرز الحقوقيين في البلاد؛ لذا نجد نصوصا تنم على مصدرها: أقوى من الدفع، حاشى المحاكم، صرمت حبال وصلك، يد تستحق القطع، وقبل كل ذلك "الحقوق"..

كنت ممن إلى الحقوق يتوق      لا أبارى فيها وفيـــــــــها أفوق

بيد أني - لسوء حظ زماني-     شغلتني عن الحقوق.. الحقوق!

وللعاطفة نصيبها

تضمن الديوان نصوصا عاطفية تنقل العدوى إلى المتلقي فيتأثر رغما عنه؛ وهي نصوص تمثل استراحات توزعت حسب تواريخها في ديوان سيطرت عليه معاناة الوطن والمواطن والنضال والسجون والتحدي والتمرد والشأن السياسي بشأن عام.. هكذا نجد نصوصا من هذا القبيل، كالحق السليب، ومناجاة، أهواك، بوش الخريف، موسيقى، الوجل الحلو، دليلتي..

ولست أجد تفسيرا للشعور الغامض الذي يهز وجداني كلما تمليت قوله:

بوش الخريف

 

إن تولى ربيع حب عفيف** قد جنينا فيه دواني القطوف
وعفا ربع لهونا وهوانا** وعراه المحول بعد الخـريف
دمن "انْبَيْكَتِ رَاهَا" أمست يبابا** ولوى "الصَّنْگَه" في فراغ مخيف
طال ليلي - ولم يطل قط ليلي** في رباها- وطال فيها وقوفي
أسكب الدمع والقريض عليها** وأداري محولها بنزيفي
فتعالي عبر الخيال عسانا** نلتقي الآن في رحاب الخفيف
واذكريني اذكريني ثم اذكريني** حق ذكري؛ فلست أنسى أليفي
رب كرب فرجته بأذاني** و"حجابي" عليك و"اتَّفْتِيفِي"
يوم كنا وصحبنا نتهادى** واقتطفنا – يادنيا-بوش الخريف !
ووداعي إياك ليلة بنتم** عن حبيب متيم مشغوف
يا فؤادي.. أفي فؤادك ما بي**من حنين ولوعة وكسوف؟!

وكأي محب صادق فالشاعر قد أحرق المراكب؛ وهو ما يشهد به قوله:

ردي عليك سهام لحظك واسحبي       هذا الدلال.. فلست بالمتذبـــذب

أغواك ما قد قلته متــــــــــظاهرا       كذبا عليك.. بأنني لم أعــــطب؟

والله ما أرسلت سهما واحــــــــدا       نحوي وأخطأ في صميم المطلب

فلترحمي قلبا عليلا هــــــــــاضه       وقع السهام على السهام الخلــب

أواه! ما أحلى وصالك - إن جرى      قدر به- وأمر هجرك.. فاعتبـي!

أهواك يا دنيا وأدرك أن فــــــــي       هذا الهوى حتفي وخيبة مأربــي

لكنني عفـــــــــــــوا أروم وروده       وأذود في حياضه بالمنــــــــكب

وأصم آذاني إذا ما لمــــــــــحوا:        "ليس المرابط صاحبا للمطرب"!!

مثل الفَراشة حين يطفح عشـــقها       تصلى لهيب الحب دون تهـــيب!!.

 

وأخيرا..

-لم يخل الديوان من نصوص تسجل أحداثا بذاتها منها –إضافة إلى ما تقدم- ترسيم السبت عطلة أسبوعية وقطع النظام السابق علاقاته مع العراق، ورفع مستوى تمثيله الدبلوماسي مع الصهاينة ومن قبيل رحلة أبوللو9 إلى سطح القمر 1969 ..وغير ذلك.

-يتجلى ظرف الشاعر ابتعاده عن التصنع والتكلف لمن لم يعرفه عن قرب في بعض محتوى الديوان من قبيل قوله:

تمتع بما تهوى من البدع الـــــتي        غزتنا بلا جدوى.. وذرني مع الغجر!

فما أنا ممن يحتسي الماء ثالــــجا       ولا أنا ممن ينحت الرجل بالحـــــجر!!

كما يتجلى حرصه على الطابع السائد في منطقته الأصلية (إيكيدي) وقيمها الحميدة في قوله:

يا من يعالج في "إگــــيدي" معتـــــــكفا       ما كنت أرغبه فيه وأهـــــواه

وفر عليك عناء البــــــــــحث عن وطر       لا هو هو ولا دنياك دنــــــياه

لم يبق في العرب العرباء مــــــنه شذى       أو "في الزوايا بقايا من بقاياه"!

تبقى الإشارة إلى أن ما بين الديوان دفتي الديوان ليس كل شعر الشاعر؛ فثمة ما لم يرد نشره على ما يبدو، وثمة ما ضاع كما هو واضح في بعض النصوص.. وهو ما برره الشاعر في تمهيده بالقول:

"وأعترف بأني كدت أكون من النادمين! إذ لم أمتثل [النصائح بجمع مادة الديوان] إلا بعد أن لامست الموت في حادث سير مروع!"..

حفظ الله الأستاذ محمدن ولد إيشدو ووفقه ومتع به.

 

 

فيديو

فيديو

فيديو

فيديو

فيديو

فيديو

فيديو

الآن في المكتبات

فيديو

المتواجدون الآن

حاليا يتواجد 8 زوار  على الموقع